أوهام نحيا فيها ويكشفها لنا فوز ترامب
11-تشرين الثاني-2024

د. منصف المرزوقي
لكلّ الديمقراطيين – وما زلت واحدًا منهم – تبعث الانتخابات الأميركية الأخيرة بثلاث رسائل تعرّي مرة أخرى الأوهام الثلاثة التي بنينا عليها جميعًا نظريتنا وممارستنا للديمقراطية.
الرسالة الأولى؛ هي أن هناك أكثر من سبعين مليون أميركي لا يرون مانعًا أن يكون رئيسهم بالصفات المعروفة للجميع، بل وشخصًا ملاحقًا من قبل العدالة في أكثر من قضية. ما نتغافل عنه دومًا هو أن الناس تصوّت لمن يشبهها ويعبّر عن قناعاتها وخياراتها، ولمن يثير إعجابها وتحاول التشبّه به.
لذلك، علينا القبول بأن الفكرة التي تَبني عليها الديمقراطية أسسها خاطئة، أي وجود كائن عاقل أخلاقي يختار كل ما يخدم المصلحة العامة إذا ما توفرت له الحرية.. والحال أننا أمام طيف من البشر فيهم جزء كبير لا علاقة له بهذا التصور المثالي، والدليل على ذلك انتصار ترامب وأمثاله.
وفي هذا الصدد كتب في جريدة "نيويورك تايمز" (The New York Times) لهذا اليوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول الصحفي والكاتب الأميركي كارلوس لوزادا: "بالنسبة لأولئك الذين أصرّوا منذ فترة طويلة على أن ترامب "ليس ما نحن عليه"، وأنه لا يمثل القيم الأميركية، هناك الآن احتمالان: إما أن أميركا ليست كما كانوا يعتقدون، أو أن ترامب لا يمثل تهديدًا كما يعتقدون".
الوهم الثاني الذي تبدده هذه الانتخابات، هو عن دور حرية الرأي والتعبير في فرز الغث من السمين. الحقيقة أن حفنة من رجال الأعمال المتحكمين في وسائل الإعلام والتواصل، أي في جلّ أدوات التأثير على العقول والقلوب، هم أكبر المنتفعين بهذه الحرية، وهم الذين يستطيعون أن يحملوا لسدة الحكم من يريدون. قلّ من ينتبه لخطورة شخص مثل إيلون ماسك في نتيجة الانتخابات الأميركية، والرجل له أكثر من مئتي مليون متابع جند الكثير منهم لصالح ترامب.
هذا عن الجزء الأول من خرافة "الانتخابات تعبر عن إرادة الشعب". أما عن الجزء الثاني للخرافة الكبرى، فإن نتيجة الانتخابات (كما رددت مرارًا منذ كتابي "عن أي ديمقراطية تتحدثون" الصادر سنة 2004) لا تعبر إلا عن إرادة خمسين في المئة زائد صوت من المصوّتين المسجلين في القوائم الانتخابية، مع إلغاء كل قيمة لإرادة تسعة وأربعين في المئة من "الشعب". أضف الآن لمشكلة الشرعية مشكلة الخطورة. كم من مرة عبر التاريخ أدخلت الانتخابات الذئب إلى المدجنة؟ ربما مثلت نتائج الانتخابات الأميركية مفاجأة للكثير من الديمقراطيين الغربيين والعرب، لكنها كانت متوقعة بعد انتخابات مشابهة في الهند والمجر وتونس والأرجنتين، وانتظروا تواصل المسلسل في فرنسا بعد ثلاث سنوات، وكم من بلدان أخرى تنتظر دخول القائمة. نحن أمام مفارقة رهيبة؛ فالديمقراطية لا تعيش إلا بأدوات الانتخاب وحرية التنظم وحرية التعبير، لكنها لا تمرض ولا تموت إلا بها عندما تحمل للسلطة بفضل المال والإعلام أشخاصًا يفرغون الديمقراطية من محتواها أو يقضون عليها القضاء المبرم، كما فعل رجل جاءت به الانتخابات هو أيضًا اسمه أدولف هتلر. من حسن الحظّ – إن صح التعبير – أن الاستبداد يواجه نفس المعضلة. هو الآخر لا يعيش إلا بما يميته عاجلًا أو آجلًا. انظر كيف يذهب ضحية أدواته الفكرية والعملية. من الناحية الفكرية، بقدر ما تغالي الديمقراطية في تقديس "الشعب" بقدر ما يزدري الاستبداد هذا "الشعب". فالمستبد والعصابة التي حوله على قناعة تامة بأن العامة غير "ناضجة" للديمقراطية، وأن الحرية خطر منها وخطر عليها، وأنه لا بد لها من راعٍ قادر على أخذ القرارات الذي يعرف وحده أيها الأفضل للرعية وخاصة للراعي.
القاعدة هي أنه بقدر ما تخطئ الديمقراطية بالمبالغة في تقدير طيبة وذكاء البشر، بقدر ما يخطئ الاستبداد بالمبالغة في احتقار شجاعة البشر وتوقع استكانتهم للظلم. لفرض الوضع ليس له إلا ثلاث وسائل هي التي ستقضي عليه: التضليل، وملء مراكز القرار بالأوفياء، والقمع. فبالتضليل ينتهي المستبد بتصديق أكاذيبه وأكاذيب من حوله، فتتكاثر أخطاؤه إلى أن تقوده لحتفه، وبوضع الأوفياء في مراكز القرار على حساب الأكْفاء يساهم في الأداء الرديء لكل دواليب الدولة، وبالقمع تراه يشحن المجتمع بالنقمة التي تقود يومًا ما للانفجار، إضافة إلى كونه يصطفي الأشجع والأكثر عنادًا وتصميمًا على الإطاحة بوضع يزداد تأزمًا، لأنه ليس للاستبداد أي آليات للإصلاح الداخلي خلافًا للديمقراطية. وفي الحالتين القاعدة أن النظام السياسي مواجه بتعقيد مجتمع فيه دومًا كمّ غير معروف من الأذكياء والشجعان والمثاليين، وبنفس الكيفية وبصفة دائمة كمّ آخر من الأغبياء والجبناء والانتهازيين.
هذا ما يجعل مشكلة النظام السياسي أكان ديمقراطيًا أم استبداديًا واحدة: خطورة المراهنة على جزء من المجتمع، وتجاهل النصف الآخر، مما يؤدي به طال الزمان أو قصر إلى استفاقة موجعة، والنصف المتجاهل يذكّره بصفة موجعة بأنه باقٍ ويتمدّد.
إن هذه الإشكالية هي التي تضع كل نظام سياسي أمام محاولة شبيهة بمحاولة تربيع الدائرة، وهي التي تفسر كيف ولماذا يمهّد فشل الاستبداد لطفرة ديمقراطية، ويمهد فشل الديمقراطية لطفرة من الاستبداد.
هل ثمة إمكانية للخروج من هذه الحلقة المفرغة التي نعايش اليوم مقطعًا منها، ونحن نرى حتى في أعرق الديمقراطيات بوادر انتصار الاستبداد، بعد أن رأينا في العقود الأربعة الأخيرة بوادر انتصار الديمقراطية في أعتى الدكتاتوريات ومنها العربية؟
بعبارة أخرى، هل ثمة إمكانية لحكم رشيد يوقف هذا التتابع حتى وإن ندرك أنه لا وجود لنظام حكم مثالي لا يعمل فيه الزمان أظافره وأنيابه؟
إذا عرّفنا الحكم الرشيد بأنه نظام الحكم الذي يضع القيم الجامعة فوق المصالح المفرّقة ويفرض بالقانون والقوة التوزيع الأكثر عدلًا للثروة والسلطة؛ لضمان الاستقرار والسلم والاعتبار داخل المجتمع، فإنه يمكن القول إن تجارب الحكم عبر التاريخ أظهرت أن الاستبداد هو الصفر على سلم الحكم الرشيد، والديمقراطية قفزة نوعية في الاتجاه السليم.
المشكلة أن هذا التطور الذي بدا يومًا غير قابل للتوقّف هو اليوم متوقف، بل متراجع حتى في أقدم معاقله لصالح جولة عبثية جديدة من الاستبداد.
يتحدد السؤال كالتالي: هل ثمة إمكانية لوقف هذا التدهور وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ديمقراطية يتكالب عليها الأعداء من خارجها ومن داخلها؟
هذا السؤال هو الشغل الشاغل اليوم في كل الأماكن التي يطرح فيها موضوع مصير الديمقراطية من جامعات ومؤتمرات وكتب ومقالات لا تحصى ولا تعدّ.
في إطار هذا الحراك الفكري والسياسي غير المسبوق في تاريخ الديمقراطية، وفي وضع يتسم بتراجع الديمقراطية الغربية في كل العالم، وفي الغرب ذاته، ناهيك عن تجدد إغراءات الاستبداد خاصة في شكله الشعبوي الجديد، جمع "المجلس العربي" في سراييفو في الشهر الماضي نخبة من الديمقراطيين العرب من كل الأجيال والبلدان والاتجاهات الفكرية في الوطن العربي؛ لكتابة العهد الديمقراطي العربي المفترض والمأمول منه أن يشكل المرجع النظري المشترك لكل الحركات السياسية والمجتمعية العربية.
ثلاثة أفكار رئيسية تشكل أسس هذا العهد وتم التوافق عليها بالإجماع
أولًا: الديمقراطية في شكلها الغربي الحالي مرحلة تاريخية من تطور بحث المجتمعات عن أفضل أنواع الحكم الرشيد، وهي اليوم في وضع صعب لا في نزعها الأخير. وقد أثبتت التجارب منذ قرنين في أكثر من 150 بلدًا أن أخطر ما يهددها آليات تقادمت وبنيت على فرضيات فكرية خاطئة، وتم الاستيلاء عليها من طرف أعدائها من الداخل وإفراغها من كل فاعلية في تحقيق أهدافها المعلنة. مثل هذا الوضع يفرض علينا نحن العرب أن ننطلق من التجارب الغربية للتعلّم منها والتفكير في طرق تجاوزها؛ لنضمن لديمقراطيتنا التمكن والبقاء أطول وقت ممكن.
ثانيًا: لا بديل عن الخيار الديمقراطي؛ لأن الاستبداد هو سبب فقرنا وتخلّفنا وتشتتنا وفقدان سيادتنا الوطنية، وذروة جرائمه إبادة جماعية لشعب من شعوبنا، وجيوشنا لا تحرك ساكنًا إلا لحماية المستبدين.
لذلك، تشكل الديمقراطية الطريق الوحيد لبناء ما تحتاجه شعوبنا؛ أي دول قانون ومؤسسات، وشعوب من المواطنين لا من الرعايا، واتحاد شعوب عربية حرة ودول مستقلة على نموذج الاتحاد الأوروبي الذي لم يقم إلا على أشلاء الدكتاتورية النازية والفاشية والشيوعية.
ثالثًا: لكي تستقر وتثبت أطول وقت ممكن، على ديمقراطيتنا العربية أن تكون أكثر من نظام سياسي يضمن الحريات والتداول السلمي على السلطة وبناء المواطنة الفعلية المتجاوزة لكل تمييز جندري، أو جهوي، أو عرقي، أو ديني. عليها أن تجعل من أولى أولوياتها أيضًا خدمة العدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية الخارجية، والعمل على بناء الفضاء السياسي العربي المشترك. هكذا عرّف العهد ديمقراطيتنا المنشودة بأنها مواطنية، اجتماعية، سيادية، اتحادية، أي أنها مثل مربع لا يكون كاملًا متكاملًا إلا بأضلعه الأربعة التي تسند بعضها البعض. نعم، يجب التمسك أكثر من أي وقت مضى بأهداف الديمقراطية، لكن ماذا عن أي إصلاحات للآليات المعطوبة والمستولى عليها والبشر هم البشر في أي مجتمع؟لذلك، تشكل الديمقراطية الطريق الوحيد لبناء ما تحتاجه شعوبنا؛ أي دول قانون ومؤسسات، وشعوب من المواطنين لا من الرعايا، واتحاد شعوب عربية حرة ودول مستقلة على نموذج الاتحاد الأوروبي الذي لم يقم إلا على أشلاء الدكتاتورية النازية والفاشية والشيوعية. ثالثًا: لكي تستقر وتثبت أطول وقت ممكن، على ديمقراطيتنا العربية أن تكون أكثر من نظام سياسي يضمن الحريات والتداول السلمي على السلطة وبناء المواطنة الفعلية المتجاوزة لكل تمييز جندري، أو جهوي، أو عرقي، أو ديني. عليها أن تجعل من أولى أولوياتها أيضًا خدمة العدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية الخارجية، والعمل على بناء الفضاء السياسي العربي المشترك. هكذا عرّف العهد ديمقراطيتنا المنشودة بأنها مواطنية، اجتماعية، سيادية، اتحادية، أي أنها مثل مربع لا يكون كاملًا متكاملًا إلا بأضلعه الأربعة التي تسند بعضها البعض. نعم، يجب التمسك أكثر من أي وقت مضى بأهداف الديمقراطية، لكن ماذا عن أي إصلاحات للآليات المعطوبة والمستولى عليها والبشر هم البشر في أي مجتمع؟

النزاهة: الحبس الشديد لوزير النقل الأسبق
13-تشرين الثاني-2024
«صقر حرب».. من هو بيت هيغسيت المرشح لقيادة «البنتاغون»؟
13-تشرين الثاني-2024
الخارجية: نرفض وضع قيود على الدول المنتجة للنفط
13-تشرين الثاني-2024
تحالف الفتح يحذر... واشنطن تبحث عن مبررات لبقاء قواتها في العراق
13-تشرين الثاني-2024
مراقبون يكشفون أجندة السوداني الى كردستان
13-تشرين الثاني-2024
النقل تشير الى وجود اهتمام دولي كبير في مشروع طريق التنمية
13-تشرين الثاني-2024
وفد أمريكي يصل بغداد لاستكمال المفاوضات مع طهران
13-تشرين الثاني-2024
اليورو قرب أدنى مستوياته أمام الدولار منذ 4 أشهر
13-تشرين الثاني-2024
دول عربية تتصدر أكبر 5 صفقات نفطية عالمية
13-تشرين الثاني-2024
النفط يرتفع وسط مخاوف من شح المعروض
13-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech