بغداد _ العالم
تكشف الانتخابات العراقية عن حجم التشابك بين القوى المحلية والتأثيرات الإقليمية. فبينما تراهن الفصائل على صناديق الاقتراع، تتحرك العواصم الكبرى لترتيب نتائجها مسبقًا بما يخدم توازناتها في المنطقة.
تتقاطع المؤشرات السياسية والدبلوماسية قبيل انتخابات الحادي عشر من تشرين الثاني المقبل، وسط تصاعد الحديث عن تفاهم غير معلن بين واشنطن وطهران حول هوية رئيس الوزراء المقبل، في وقتٍ تحذر فيه تقارير بحثية من دخول العراق في مرحلة شلل سياسي جديد إذا استمر الاستقطاب بين القوى الشيعية.
في تقرير أصدره معهد نيولاينز الأمريكي للاستراتيجية والسياسة، طرحت ثلاثة سيناريوهات متوقعة لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة:
السيناريو الأول، وهو الأكثر احتمالاً، يقوم على تشكيل حكومة موسعة عابرة للطوائف والأعراق تضم القوى الشيعية بفصائلها الموالية لإيران إلى جانب الأحزاب الكردية والسنية الكبرى، وذلك بالتزامن مع إحياء الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني، بما يسمح بتخفيف التوتر الإقليمي وفتح باب التسويات الداخلية.
أما السيناريو الثاني فيتمثل بتشكيل حكومة أكثر ميلاً للغرب بقيادة القوى الشيعية المعتدلة والبراغماتية، بالاشتراك مع الكتل الكردية والسنية، بعد استبعاد الفصائل القريبة من طهران بضغط أمريكي مباشر.
ويرى التقرير أن هذا المسار سيؤدي إلى حكومة هشة تواجه تحديات مبكرة من الفصائل المستبعدة التي قد تحاول زعزعة الاستقرار السياسي والأمني.
منصب رئيس الوزراء
السيناريو الثالث يتحدث عن صراع شيعي – شيعي محتدم على منصب رئيس الوزراء قد يفضي إلى حكومة تصريف أعمال طويلة برئاسة محمد شياع السوداني تمتد حتى ما بعد عام 2026، نتيجة الانقسام السياسي الحاد وتردد القوى الكردية والسنية في دعم حكومة لا تمثل مصالحها، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل الموقع الإقليمي للعراق وتصاعد حالة عدم الاستقرار الداخلي.
التقرير الأمريكي جاء بالتزامن مع تصريح لوزير الخارجية العراقي أكد فيه أن “بعض الفصائل ستمنع من المشاركة في الحكومة المقبلة بسبب الرفض الأمريكي”، ما اثار تساؤلات حول مدى تأثير القرار الأميركي على التوازن السياسي العراقي، واحتمال عودة التوترات التي أعقبت انتخابات 2021، حين شهدت البلاد احتجاجات ومواجهات بين الفصائل والتيار الصدري على خلفية نتائج الاقتراع.
ويرى مراقبون أن هذا التصريح يمثل تحذيراً مبكراً من مرحلة حساسة قد تشهدها البلاد في حال تكرار سيناريو الاستبعاد السياسي، خصوصاً أن الفصائل المسلحة ما زالت تحتفظ بنفوذ واسع داخل المشهد الأمني والاقتصادي، وتعتبر مشاركتها في أي حكومة جزءاً من “حق التمثيل الانتخابي”.
وفي تعليق أكاديمي على المشهد، قال أستاذ العلوم السياسية خليفة التميمي إنّ “المعطيات الراهنة والمتغيرات الإقليمية تشير إلى أن نتائج الانتخابات المقبلة ستحدد ملامح تشكيل الحكومة بشكل كبير”، موضحاً أنّ “الوجود الأمريكي الواضح في بغداد بعد تسمية ممثل خاص للرئيس ترامب، سيسرّع من عملية التشكيل عبر معالجة الملفات العالقة”.
وأضاف أن “الحكومة الجديدة يتوقع أن تشكّل خلال ثلاثة أشهر فقط من موعد الانتخابات”، مشيراً إلى أن “العقدة الأبرز التي ستواجه المفاوضات تتعلق بمطالبة إحدى القوى السنية بمنصب رئيس الجمهورية، وهو ما ترفضه القوى الكردية بشكل قاطع”.
وبيّن التميمي أن “شخصية رئيس الوزراء المقبل ستكون مفاجأة، وقد تكون مقربة من واشنطن وبعيدة عن التوترات الداخلية، مع احتمال حصول تفاهم نسبي بين واشنطن وطهران حول هويتها”، مؤكداً أن “هناك بالفعل فيتو أميركياً واضحاً ضد إشراك القوى التي تمثل الفصائل المسلحة في تشكيل الحكومة، وهو موقف عبّرت عنه أطراف أميركية في أكثر من مناسبة”.
وختم قائلاً إنّ “حظوظ رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني بولاية ثانية تراجعت بشكل واضح، نتيجة الخلافات الداخلية وتغيّر المزاج السياسي الأمريكي”.
وفي المقابل، ردّت مصادر مقربة من الفصائل العراقية على ما تردد عن وجود فيتو أمريكي ضد مشاركتها في الحكومة المقبلة، مؤكدة أن هذا الحديث “سابق لأوانه”، وأن القرار بشأن المشاركة “يخضع حصراً للتوافقات الداخلية بعد إعلان النتائج”.
وقال المصدر إنّ “عدداً من المرشحين المقرّبين من فصائل عراقية يشاركون ضمن قوائم متعددة استعداداً للانتخابات، وإن الحديث عن منع الفصائل من المشاركة في تشكيل الحكومة لا يعنيها إطلاقاً، لأنه شأن داخلي بحت لا يمكن لأي طرف خارجي أن يفرض عليه قيوداً”، مضيفاً أن “ما يُتداول في بعض وسائل الإعلام هو مجرد رسائل ضغط مصدرها البيت الأبيض أو أدواته الإعلامية”.
وختم المصدر بالقول إنّ “التحالفات والنتائج الانتخابية وحدها ستكون العامل الحاسم في تحديد ملامح المشهد السياسي بعد 11 تشرين الثاني، وليس المواقف الخارجية أو الإملاءات الدولية”.
عشية الانتخابات، يبدو العراق أمام مفترق طرق سياسي حاسم. فالتقارير الدولية تتحدث عن تفاهمات محتملة بين واشنطن وطهران، والفاعلون المحليون يتهيأون لجولة جديدة من التحالفات بعد الحادي عشر من تشرين الثاني، فيما تتباين المواقف بشأن شكل الحكومة المقبلة بين من يراها امتداداً للتوازنات التقليدية، ومن يتوقع ولادة حكومة مختلفة في بنائها ونهجها.