محمد عبد الجبار الشبوط
منذ عام 2003، دخل العراق مرحلة سياسية جديدة عقب سقوط نظام استبدادي دام عقودًا. وكان يُفترض أن تمثّل هذه المرحلة فرصة تاريخية لبناء دولة حديثة تقوم على أساس المواطنة والعدالة والهوية الوطنية الجامعة. لكن ما جرى في الواقع كان تفكيكًا تدريجيًا لهذه الهوية لصالح هويات فرعية طائفية وقومية، كانت وما زالت أدوات رئيسية في يد الأحزاب الحاكمة لترسيخ سلطتها وتوزيع النفوذ.
من تمثيل المواطن إلى تمثيل الطائفة
مع انطلاق العملية السياسية الجديدة، تبنت معظم الأحزاب خطابًا مكوناتيًا، يركّز على تمثيل الطائفة أو القومية لا المواطن. فباتت الأحزاب الشيعية تطرح نفسها ممثلة لـ”البيت الشيعي”، والأحزاب السنية تسوّق مظلومية مكونها، بينما تمسكت الأحزاب الكردية بشعارات قومية تتجاوز أحيانًا حدود الدولة.
هذا التحوّل أدّى إلى تثبيت نظام المحاصصة الطائفية والإثنية، الذي أصبح هو المعيار الحاكم في توزيع المناصب، وتشكلت الحكومات المتعاقبة على أساس الانتماء لا الكفاءة، والانغلاق لا الانفتاح.
تفكيك مؤسسات الدولة
ساهمت الأحزاب الحاكمة في تفريغ الدولة من مضمونها الوطني. إذ أصبحت الوزارات والهيئات الحكومية أشبه بـ”إقطاعيات حزبية”، وتحولت مؤسسات الإعلام والتعليم إلى أدوات دعاية تخدم الخطاب الفئوي بدلاً من أن تعزز الشعور بالانتماء المشترك. حتى المؤسسة العسكرية، التي يُفترض أن تكون فوق الانتماءات، جرى تسييسها واختراقها على أسس طائفية، ما أضعف هيبتها ووظيفتها الوطنية.
آثار كارثية على النسيج المجتمعي
أسفر تغييب الهوية الوطنية عن تداعيات خطيرة:
تعميق الانقسام المجتمعي، بحيث أصبح العراقي يُعرَّف أولًا بطائفته أو قوميته.
إضعاف الولاء للدولة، ما فتح المجال أمام التدخلات الخارجية والمشاريع الانفصالية.
ترسيخ الفساد والمحسوبية، حيث باتت المناصب تُمنح حسب الولاء الحزبي، لا وفق معايير مهنية.
استعادة الهوية الوطنية: حاجة وجودية
لا يمكن لأي مشروع إصلاحي أن ينجح من دون إعادة الاعتبار لفكرة الوطن الجامع والمواطنة المتساوية. وهذا يتطلب:
تجاوز المحاصصة، وبناء نظام انتخابي عادل ينتج تمثيلًا وطنيًا حقيقيًا.
إصلاح شامل للمناهج التعليمية والإعلام الرسمي باتجاه تكريس الهوية العراقية المشتركة.
إعادة بناء الدولة على أساس “الإنسان – الأرض – الزمن – العلم – العمل” كعناصر للمركب الحضاري، بعيدًا عن الاستقطابات الطائفية والولاءات الخارجية.
لقد لعبت الأحزاب الحاكمة دورًا مباشرًا في تمزيق الهوية الوطنية العراقية، سواء عن قصد أو نتيجة لقصور في الرؤية الوطنية. واليوم، لم يعد بالإمكان الاستمرار في هذا النهج دون ثمن باهظ تدفعه الأجيال القادمة. المطلوب هو تجاوز منطق “المكونات” نحو تأسيس دولة حضارية حديثة تُعيد للعراقيين شعورهم بالانتماء لدولة واحدة، لا طوائف متناحرة.
ان اية دعوة تغييرية او اصلاحية لا تتجاوز المنطق المكوناتي ولا تطرح مشروع الدولة الحضارية الحديثة المستند الى الهوية الوطنية العراقية الشاملة والجامعة انما هي (اي الدعوة التغييرية او الاصلاحية) تعيد انتاج الفشل الذي سُجّل باسم الاحزاب الحاكمة او المعارضة منذ عام ٢٠٠٣ الى حد الان. ان الدولة الحضارية الحديثة لا تحقق فقط وفرة الانتاج وعدالة التوزيع، انما هي تضمن ايضا الحماية الوجودية والثقافية للمكونات المختلفة للمجتمع العراقي في اطار الهوية الوطنية العراقية الجامعة.