ابراهيم العريس
لعل أطرف ما في حكاية لوحتين للرسام الأميركي جيمس ويستلر، أن كل كلام عنهما يجب أن يبدأ بالحديث عن عنوان اللوحتين، وهو في نهاية الأمر واحد، مع رقمين مختلفين: "سيمفونية باللون الأبيض1" و"سيمفونية باللون الأبيض2". إذ لهذا العنوان حكاية. إذ إن ويستلر أنجز اللوحة الأولى عام 1862، وأرسلها كي تعرض في لندن. عرضت هناك بالفعل، ولكن بعنوان أعطاها إياه الصارخون "امرأة باللون الأبيض". وما إن عرف ويستلر بهذا حتى احتج بشكل صاخب معلناً أن ليس للوحته أية علاقة برواية كان الكاتب ويكلي كولنز أصدرها في ذلك الحين بالعنوان هذا نفسه وحققت نجاحاً شعبياً كبيراً. كان من الواضح أن العارضين شاءوا الاستفادة من نجاح الرواية لترويج اللوحة، لكن ويستلر لم يكن بهذا الوارد. هو لم يكن من هذا النوع أيضاً. لذلك قال "إن لوحتي مجرد لوحة تصور فتاة ترتدي ثوباً أبيض واقفة أمام ستارة بيضاء اللون". وحين طلب إليه، بعد فترة، أن يختار للوحة عنواناً آخر يروق له، استعار من الناقد بول مانتز ما قاله في معرض حديثه عن اللوحة واصفاً إياها بأنها "أشبه بأن تكون سيمفونية باللون الأبيض". وهكذا تم تبني هذا العنوان، ليضاف إليه الرقم 1، بعد عامين حين عرض ويستلر لوحة ثانية تكاد تشبه الأولى، مع تغير في الوقفة والقياس والموضوع. ففيما كان ارتفاع اللوحة الأولى 214.6 سنتيمتراً، وعرضها 108 سنتيمترات، أتى ارتفاع الثانية أقل بكثير، بـ76 سنتيمتراً، فيما لم يتجاوز عرضها الـ51 سنتيمتراً.
موديل واحد
ومع هذا غالباً ما يجري الحديث عن اللوحتين، معاً، وربما لأن الموديل فيهما واحد، وهو الحسناء جوهانا هيفرمان التي كانت خلال تلك الأعوام صديقة ويستلر وملهمته، ونراها في عديد من لوحاته. أما هنا، في "السيمفونيتين" فنراها في أفضل تجلياتها، إذ من الواضح أن ويستلر الذي كان يدنو من الـ30 من عمره، وكان آنذاك بلغ ذروة إبداعه، تشكيلاً وتلويناً، بل حتى أضاف إلى فنه تلك الأبعاد اليابانية التي ستطبع ذلك الفن بشكل أخاذ. مهما يكن، تبقى اللوحة الأولى وهي الأكبر حجماً، متفوقة على الثانية، حتى إن كانت السمات اليابانية قد ميزت هذه الأخيرة أكثر مما ميزت الأولى. ولعل خير ما يؤكد لنا هذا، هو موقف ما لا يقل عن شاعرين كبيرين من اللوحة: فبودلير لم يبخل عليها بالتقريظ حين عرضت في صالون "المرفوضين" في باريس. وكذلك فعل الشاعر الإنجليزي سوينبرن الذي وصل إلى حد كتابة قصيدة كاملة في مدح اللوحة.
رفض مبدئي
في البداية حين أنجز ويستلر لوحته الأولى وأرسلها كي تعرض في المعرض السنوي للأكاديمية الملكية في لندن، رفضت اللوحة من دون مبررات. ولاحقاً حين عرضت جماهيرياً للمرة الأولى في "بيرنز غاليري" في العاصمة البريطانية، أصر ويستلر على أن يشار في "كتالوغ" المعرض إلى أن اللوحة رفضت من قبل الأكاديميين. ثم عاد وأكد الشيء نفسه في العام التالي حين أرسل اللوحة إلى باريس لتعرض في معرض المرفوضين. وهنا كان من حظها أن أثارت، إلى جانب لوحة إدوار مانيه "غداء على العشب" ضجة كبيرة، أتت أقرب إلى الضجة الفضائحية! وكما أشرنا، موديل اللوحة هي جوهانا هيفرمان التي حرص الرسام على أن يعطي لشعرها الأحمر الفاقع قوة استثنائية تميزه وسط ألوان اللوحة الأخرى الشاحبة في الأعلى، مما يخلق تناسقاً بين شعر الفتاة ورأس الحيوان الذي تقف فوق جلده، ولعل أغرب ما في هذه اللوحة هو اختيار الفنان، الأبيض رداء لموديله، وجعلها تقف على خلفية الستار الأبيض. ومن الجلي أن مثل هذا الاختيار كان مستغرباً فنياً، ويبدو أنه هو ما أدى إلى رفض اللوحة والصخب من حولها، لكنه كان هو أيضاً ما أعطاها قيمتها المطلقة بالنسبة إلى الشعراء والنقاد الذين دافعوا عنها. أما نظرة الفتاة المحدقة إلى البعيد، فإنها، أضفت على اللوحة غرابة إضافية، حتى وإن كان نقاد رأوا أنها مستعارة من نظرة طفلة في لوحة سيرجون ميليس "أوراق الخريف" (1856). وثمة نقاد آخرون رأوا في ذلك الحين أن ويستلر الذي كان قد قطع في تلك الأثناء مع رفيقه الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه، إنما شاء في هذه اللوحة أن يتفوق، بالبعد اللغزي، لغز نظرة الفتاة، ولغز الحيوان تحت قدميها وخصوصاً نظرة الحيوان التي تعادل نظرتها، في اللوحة، مع واقعية كوربيه التي كان شديد التأثر بها، بل الرضوخ إليها، قبل ذلك. ولنذكر هنا أن كوربيه حين شاهد لوحة ويستلر هذه، أبدى خيبة أمله إزاءها، معتبراً إياها نوعاً من "العودة إلى النزعة الروحية". والحقيقة أن كوربيه إذ قال هذا، لم يكن يدري أنه وصف حقاً ما كان ويستلر يريده من اللوحة.
نزعة روحية
والحقيقة أن تلك النزعة الروحية كانت بالفعل قد بدأت تشتغل في تفكير ويستلر منذ عام 1860، أي العام الذي التقى فيه الإيرلندية الحسناء جوهانا هيفرمان التي أغرقه لون شعرها الأحمر الغريب في آفاق شديدة البعد من النزعة الواقعية. وتطابق ذلك اللقاء مع تعرف ويستلر على عدد من الشعراء الذين كان من بينهم رمزيون وأصحاب نزعة روحية (بودلير، روزيتي، وسينبرني)، ما أبعده عن جو الرسامين الذين، تحت رعاية فانتان – لاتور، كانوا قد قادوه نحو ما يشبه الواقعية. وسيبدو هذا الفارق متجلياً حتى في بعض المشاهد البحرية التي رسمها ويستلر في ذلك الحين، وصولاً إلى تأثره، منذ عام 1864 في الأقل بالفن الياباني، ما تجلى خصوصاً في لوحته "الشاشة الذهبية" ذات السمات اليابانية الخالصة، التي تبدو فيها حتى جوهانا، يابانية بشعر معقود خفف من فقاعة لونه الأحمر. والحقيقة أن جوهانا لم تكن الوحيدة التي سيرسمها ويستلر على الطريقة اليابانية، غير أنه سيعود لرسمها، ليس يابانية وإنما وسط مناخ ياباني في "السيمفونية باللون الأبيض2" التي حققها عام 1864. هنا، وقد أحل مرآة فوق مدخنة محل الستار الأبيض، كخلفية لوقفة الفتاة، صور هذه الأخيرة واقفة بثوب من الموسلين، رسمه بدقة رسم النهضويين المتأخرين لأقمشة الملابس، وهي تنظر جانبياً نحو مكان غير محدد، إنما تبدو نظرتها مزدوجة بفضل المرآة. أما الآنية والمروحة والزهور فتضيف إلى اللوحة تلك السمات اليابانية التي لم يكن ويستلر ليريد التخلي عنها بتلك السرعة. والطريف أنه حين عرض ويستلر هذه اللوحة الجديدة، انتقده البعض لتسميتها هي أيضاً "السيمفونية باللون الأبيض" على أساس أن اللون الأبيض لم يعد غالباً فيها، بل صار متجاوراً مع ألوان أخرى لا تقل غلبتها. قال "يا له من أحمق من يقول هذا. هل تراه يعتقد أن سيمفونية من مقام 'فا' لا يمكنها أن تضم من أولها إلى آخرها، سوى نوتات فا.. فا.. فا.. فا..؟!".