بغداد - العالم
في العدد 11 من جريدة الجديد والصادر في 4 حزيران عام 1953، كتب محمد مهدي الجواهري مقالًا يتحدث فيه عن الأحكام العرفية والحريات الصحفية التي كانت تحت الرقابة العسكرية حينها. في ما يلي المقال كاملًا:
تنفست الصحافة العراقية يوم أمس الصعداء برفع كابوس الرقابة العسكرية المفروضة عليها بموجب الأحكام العرفية وأراح الرقيب نفسه وقامه الأحمر، وأراح أصجاب الصحف والمحررين في أنفسهم وأعصابهم. وعمال المطابع المتعبين في صف الحروف و"تفليشها"، وأصبح رؤساء تحرير الصحف يوم الأربعاء "أمس" وهم غيرهم يوم الثلاثاء أول من أمس، يمسكون بأقلامهم أحرارًا لا تزعجهم أشباح الرقباء ولا يفكرون وهم يكتبون فيما يحتمل أن يزعج هذا الرقيب أو ذاك وفيما يحتمل أن يرضيه من هذا المقال أو هذا الخبر أو هذا التعليق. لقد تنفست الصحافة العراقية الصعداء يوم أمس الأول عندما أفهم المسؤولون بجرة قلم من أيديهم وبكلمة واحدة مختصرة من أفواههم الرقيب أن يذهب فيستريح ويريح، وللصحفي أن يحرر ما يشاء على مسؤوليته. وللعمال أن لا يبقوا ساعات طويلة من كل يوم وكل ليلة خائفين وجلين من أن "يفلشوا" من حروفهم ما بنوه. وأن يتعبوا في سد الفراغ المستجد، علاوة على تعبهم المستمر، وأكثر من هذا كله عندما أفهم الفكر الذي ولد حرًا طليقًا أنه الآن حر طليق. هذا صحيح لا جدال فيه، ولكن هل أن هذه الراحة الممنوحة لهؤلاء وهؤلاء يسندها ضمان ويكفل دوامها أو الإطمئنان إليها كفيل؟ وهل أن العبرة برفع الرقابة أو بفرضها شأن كل قيود تعسفية جائزة خارجة عن طبيعة النظم الديمقراطية الحقة – هي في مجرد الاستناد إلى هذه المادة أو تلك من هذا القانون أو ذاك في فرضها، وإلى هذه المادة أو تلك من هذا القانون أو ذاك في رفعها. أم أن العبرة والضمان والكفيل في ذلك هي في أن تشيع في صدور الحاكمين ونفوسهم وضمائرهم نزعة حب الحرية والعدالة والمساواة أولا، ثم أن يشيعوها بدورهم بين الجماهير في كل مرافق الحياة وفي كل مجالات التفكير والعيش والعمل وفي كل مضرب من مضطرباتها، وأن ينزلوا في كل ما يوردون ويصدرون من أحكامهم على سلطان الغي، وعلى ميزان من وضضع أنفسهم في مواضع غيرهم، وعلى حساي من مدى تحملهم من عسف الحكم، او عنت القانون، أو جور التطبيق والتنفيذ، أو تحيز المطبقين والمنفذين أنفسهم كيما يتصوروا حق التصور مدى تحمل غيرهم لكل ذلك.
هذه هي العبرة الحقة في رفع الرقابة الصحفية اليوم، وفي رفع الأحكام العرفية غدًا وفي كل ما يمس حريات الجماهير ومصائئهم وكراماتهم ومصالحهم وهذا هو الضامن والكفيل في اطمئنان النفوس من هذه الجماهير وإلى دعتها وركونها إلى يومها وغدها وإلا فليس هناك أثر كبير في أن ترفع الرقابة الصحفية اليوم ومفهومها المنطقي أن الصحفي حر بنفسه ورقيب عليها في وقت واحد من الشطط والزيغ، على أن يتعرض غدًا في الجو الطليق من هذه الرقابة ومتاعبها في الظاهر لأكثر مما كان يتعرض له في ظلها أمس. أي أن يقول المسؤولون والمختصون لهذا الصحفي البريء فير الشاط ولا الزائغ لقد قوضنا كل ما بنيت، وأهدرنا كل ما حميت في أعوام أو شهور على الأقل، بلحظة واحدة وبجرة قلم لأن "مقالك" هذا لم يعجبنا ولأن "خبرك" هذا لم يرقنا، ثم يستندون في ذلك كله إلى "مادة" من قانون المطبوعات أو غيرها، يقال هذا كما ذكرنا في الصحافة وحرياتها – وهي عنوان لكل الحريات – كما يقال لكل ما يمس حياة الناس ومصالحهم ومصائرهم.
لا عبرة ولا ضمان ولا كفالة لكل أشكال الحريات لكل مظاهر التشريع والتنفيذ، ولكل بوادر الحكم الديموقراطي حتى تتساوى مع مخابرها وجوهرها وحقيقتها، وحتى تشيع في نفوس الحاكمين وضمائرهم نزعة الأخذ بها أخذًا صادقًا حقًا، ورغبة اشاعتها بين الناس إشاعة عادلة صادقة مجردة من عوامل التجرد والميل الفردي وضيق الصدر ونزعة الحقد والانتقام، فعسى أن يكون المسؤولون قد أدركوا كل هذا عاملين على تحقيق ما أدركوا.