الان رسبريدجر
عبر جيف بيزوس عن ذلك بصورة صحيحة، إن لم تكن بوسعك محاربة بلطجي، فالاستسلام هو السبيل الأفضل. لعلك لن تُدرج أبداً ضمن أشهر عظماء الصحافيين [في إشارة إلى ملكية جيف بيزوس لصحيفة "واشنطن بوست"]، ولكنك ستعيش لتخوض المعركة في يوم آخر.
بيد أن إيلون ماسك قرأ الأمر بصورة أفضل حتى، فمنذ وقتٍ ليس ببعيد، كان أحد المنتقدين المعتدلين لترمب - لكنه هو أيضاً أدرك أن المسار الأفضل يكمن في أن يصبح مشجع الظل للرئيس العتيد حرفياً.
ويحتل حالياً مكانة الشرف وإن لم يخفكم هذا المشهد، فإذاً فقدتم تركيزكم.
بالكاد استطاع ماسك إخفاء سعادته الطفولية لكونه جزءاً من الحشد الغوغائي، لا شك أنكم تتذكرون تلك اللحظة السريالية التي وصل فيها إلى الباب الأمامي لمقر شركة "تويتر" التي اشتراها حديثاً وهو يحمل حوض مطبخ بيده؟ حسناً، بعد ساعاتٍ من تأكيد فوز ترمب، نشر ماسك صورة مزيفة تظهره داخل المكتب البيضاوي - وهو يحمل حوض مطبخ مجدداً!
تشير التقديرات بأن ترمب سيجعل ماسك أكثر ثراءً، فمن المتوقع أن يجمع الرجل ذو التصرفات الطفولية حوالى 20 مليار دولار (15.4 مليار جنيه إسترليني) من خلال شركة "تسلا" وحدها - وهذا قبل أن تدخل عقود الفضاء التي تبلغ قيمتها عدة مليارات من الدولارات حيز التنفيذ، ويتمثل الأمر الأكثر إثارة للقلق في الجمع بين شخصيتين غريبتين ومثيرتين للجدل تترابطان مع بعضهما البعض لترؤس العالم الحر، ناهيك عن الفارس الثالث – ذلك الشخص الغريب الأطوار المتملق، روبرت أف. كينيدي الابن.
بحنكته المعهودة، اقتنص المخرج أرماندو إيانوتشي هذه اللحظة لإطلاق نسخة مسرحية من فيلم الرعب الكوميدي الكلاسيكي "دكتور سترينجلوف" Dr Strangelove الذي يعود إلى فترة الحرب الباردة، يروي الفيلم قصة جنرال في القوات الجوية الأميركية مصاب بجنون العظمة ويعتقد بأن إضافة مادة الفلورايد إلى إمدادات المياه في الولايات المتحدة هي مؤامرة سوفياتية الهدف منها تسميم المواطنين، فيأمر بقصف موسكو، مما يضع العالم على مسار محرقة نووية.
لا شك أنها فكرة سخيفة مبالغ بها، ومع ذلك، هناك أمر مشترك بين شخصية سترينجلوف والفريق الذي يستعد للانتقال إلى البيت الأبيض.
في هذا السياق احتفل روبرت أف. كينيدي الابن بفوز ترمب بالأمس من خلال نشره وعداً بأن أول خطوة سيتخذها الرئيس الجديد ستتمثل في نصح جميع أنظمة المياه في الولايات المتحدة بإزالة الفلورايد من المياه العامة، لأن الفلورايد (من وجهة نظر كينيدي) قاتل صامت، حبذا لو كان [الممثل الإنجليزي الكوميدي] بيتر سيلرز على قيد الحياة ليلعب دور الشخصيات الثلاث.
يكن إيانوتشي ازدراء خاصاً لماسك، وهو الذي قال أخيراً "بوسعكم الاستمتاع على حساب ماسك، ولكنني أجد في الأمر تهديداً بأن الأشخاص المسؤولين عن المعلومات هم الذين يمنحون الأولوية للإشاعات والأكاذيب التي تتوافق مع وجهة نظرهم".
فقد نصب ماسك نفسه حكماً لآراء 350 مليون شخص أو أكثر، وهو يقر باعتقادٍ طفولي مفاده أن الحقيقة سوف تنتصر بطريقة ما في الفضاء الفوضوي الذي خلقه. كما أنه يشعر باشمئزاز شبه هوسي تجاه جميع وسائل الإعلام الرئيسة، إذ قال أخيراً لإعلامي دعائي سابق على قناة "فوكس نيوز"، تاكر كارلسون، "منصة ’أكس‘ هي المكان الوحيد الذي يمكنك أن تستقي منه الحقيقة - المكان الوحيد حصراً".
وبالتزامن مع الإعلان عن فوز ترمب، كتب ماسك منشوراً لمتابعيه البالغ عددهم 200 مليون شخص قائلاً "أنتم الإعلام الآن".
أنا أيضاً لا أعلم ما الذي يعنيه هذا الأمر، ولكنه هو ورفاقه الشعبويون يتشاركون فكرة أنه إذا قمتم "بإغراق المنطقة بالهراء" فسوف تطغون على قدرة أي شخص على التوسط في نقل المعلومات، وبالتالي تعطيل الطريقة التي اعتادت من خلالها المجتمعات الديمقراطية ترسيخ أنفسها في الحقائق والواقع، وقد أطلق على هذه التقنية تسمية "العدمية المصطنعة" manufactured nihilism.
والمفاجئ في الأمر هو أن البعض يأخذونه على محمل الجد، فالأسبوع الماضي نشرت صحيفة "ديلي تلغراف" Daily Telegraph تغريدة كتبها ماسك انتقد فيها التغييرات التي اقترحتها وزيرة الخزانة البريطانية راشيل ريفز على ضريبة الميراث على بعض الأراضي الزراعية، على رغم أن فهم ماسك الفعلي بأي أمرٍ يتعلق بالحياة أو بالسياسة البريطانية لا يتعدى إطار 280 حرفاً على منصة "إكس".
والأكثر إثارة للقلق في ميله إلى التصرف محلل مستقل في السياسة الدولية، وطمس كل الخطوط الفاصلة بين الأمن القومي والدبلوماسية الزائفة والمكاسب الشخصية، وفي هذا الصدد نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أخيراً أن ماسك كان على تواصل دائم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أواخر عام 2022 في وقت زعم بأن محادثاتهما تركزت على "مواضيع شخصية ومسائل متعلقة بالأعمال والتوترات الجيو-سياسية".
وأفادت تقارير بأن ماسك الذي يدعي أنه يتمتع بتصريح أمني سري للغاية وبأنه أقام علاقات تجارية عميقة مع الجيش الأميركي ووكالات الاستخبارات، تلقى طلباً من بوتين لتجنب تفعيل خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية "ستارلينك" فوق تايوان كخدمة للزعيم الصيني شي جينبينغ.
كما يُعد برنامج "ستارلينك" الذي يملكه ماسك أمراً حيوياً وأساساً في الحرب الأوكرانية في حين أن منصة "إكس" غارقة في حملات التضليل الروسية، كما نُقل بأن ماسك أجرى محادثات مع النائب الأول لإدارة الرئيس فلاديمير بوتين، سيرغي كيريينكو، الذي اتهمته وزارة العدل الأميركية الشهر الماضي بإنشاء 30 نطاق إنترنت، وبعضها على منصة "إكس"، لنشر المعلومات المضللة الروسية التي يُراد منها الحد من الدعم لأوكرانيا والتأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن بين التكتيكات التي عمدوا إليها، تقليد المنظمات الإعلامية الأميركية الحقيقية، بما في ذلك صحيفة "واشنطن بوست".
وفي هذا الإطار، قالت التي شغلت منصب كبيرة مديري قسم الشؤون الأوروبية والروسية في البيت الأبيض خلال إدارة ترمب السابقة وعملت كمستشارة في شؤون الدفاع للحكومة البريطانية، فيونا هيل "إنها قصة عن استيلاء الأوليغارشية على الولايات المتحدة، إذا نجح أشخاص مثل ماسك في إعادة انتخاب ترمب، سيتوقعون الحصول على كافة أنواع الهدايا التنظيمية والمرتبطة بالقوانين لمصلحتهم. إنه في وضعية تسمح له بالسيطرة على العقود الحكومية، وربما الحصول على منصب حكومي، كما أن كثيراً من الجيوش في جميع أنحاء العالم تعتمد على أنظمته، وليس آخرها أوكرانيا".
في الواقع، أسهم إيلون ماسك أكثر من أي شخصٍ آخر، في إعادة انتخاب ترمب، وكرس مئات ملايين الدولارات لخدمة إعادة انتخاب ترمب كما أنه وضع منصته للتواصل الاجتماعي تحت تصرف ترمب فعلياً، في غضون ذلك، زعمت تقارير أنه كان على تواصل سري خاص مع العدو الأول لأميركا، الذي يشن حرباً ضد أحد حلفاء أميركا.
لقد أضر استسلام بيزوس الاستباقي بسمعة صحيفة عظيمة وصب في خدمة شركاته الأخرى، وقريباً سيتم نسيان اسم روبرت كينيدي جونيور.
أما النسخة المحدثة من ترمب، وبناءً على أدلة ظهوره الأخير في الحملة، فليست سوى ظل مشوش وثرثار لذاته السابقة، ولا شك أنه سيلحق ضرراً بالإدارة، ولكن قد يتبين مع مرور الوقت أن ماسك هو الشخص الذي يجب أن نقلق في شأنه فعلاً.