رعد كريم عزيز
الكاتب محمد سعدون السباهي مابين رواية كوكب المسرات ومختارات طيور القيامة وصولا الى كتاب رمية النرد الاخيرة يشكل مفهومه في كتابة نص جذوره كتابة القصة وثماره في سياحة نصية تمتزج فيها السيرة والتعليق النقدي وكتابة المذكرات .
والمهم في هذه التجربة معرفة الكاتب ببواطن اشتغاله دون ان ينشغل بالتنظير فهو كاتب حسي بامتياز يتبع المفردة والاحساس بانغماس عميق يكشف عن تماهي لا ينفصم بين الرؤية والرؤيا ومساعي القصد,لذا فهو ينبه في طيور القيامة الى اتباعه النص الجديد الذي تتداخل فيه دواعي الكتابة بين القص والمذكرات والاستفادة من الرواية وهدوئها وصخب الشعر ,مما يتيح له الحرية في اكتشاف مجاهيل كتابية جديدة.والكاتب محمد سعدون السباهي كاتب حذر في خطواته فان استفاد من التجريب والحداثة وتنافذ الاجناس فانه لا ينجر نحو مصطلحات ,الحداثة وما بعد الحداثة واللغة وتفجيرها والشكلانية على حساب المضمون ,لانه يريد ان يبقى قريبا لنفسه ,وغير بعيد عن القارئ وهو يتبع البحر والغرانيق_ البشرية- التي تستعرض مفاتنها امامه وهو يدقق في تفاصيل اللحظة التي عاشها ,والذين يكتبون يعرفون قيمة هذه المكابدة ووعورة عيشها بانتباه قاس حتى وان كان الكاتب يدون لحظات جمال وعشق ومتعة ,وقد اتاح لنا كتاب (رمية النرد الاخيرة) معرفة التفاصيل السياحية مع فرشة تاريخية واضحة ودقيقة وهو يذهب بعيدا في تاريخ تركيا ومصر,وكل ذلك ياتينا عبر مكابدة وتذكر المعاناة المقارنة بين كل ما يشاهده وبين ما عاشه في العراق عبر تجربته من الاهوار وحواضر المدن العراقية والسجون وحكم البعث.
وهذا ما يستدعي الوقوف عند هذا التوازي بين المشاهدات السياحية في كتاب عن الرحلات وبين التعليق السياسي والموقف الوجودي مما جعل هذه الكتابات الجديدة تخرج عن السياق الاعتيادي الذي كان فيه الكاتب السابق يذهب ليسجل ما شاهده في بلدان اخرى وكانه باحث جغرافي فقط لذا فان السباهي يقول في طيور القيامة(مواضيع مختلفة تشتغل على خطابات معرفية متنوعة يجمعها ما يمكن ان نسميه بالخطاب المعرفي) ص 6
وهو بذلك يشترط الحرية في اختياره طبيعة جنس الكتابة لكي يخرج علينا بصفته قاصا متمرسا ورحالة مفتوح العينين وذاكرة نشطة ترقب الاشياء الصغيرة مع تاويلها وكانه يفحص بعدسة مكبرة.
وهو في كتابه المعنون رمية النرد الاخيرة الذي فاز بجائزة ناجي جواد الساعاتي عن اتحاد الادباء في بغداد الا ان السباهي دائما ما يريد الاشياء كاملة بدون شوائب فهو يبدو عاتبا على القائمين بالجائزة لانهم لم يطبعوا الكتاب ولكنه لا يمل ولا يكل من مواجهة الاخرين متدرعا بنقاوة نيته الواضحة,فيبدو في هجومه كاسحا وحادا كحافة صخرة صلدة رغم انه في الكتابة يملك رقة جناح فراشة في اثير الغبش ,ماسكا مفاتيح السرد بروحية الشعر(فجأة انبثقت في غلالة المساء الرقيقة ,ثلاث زهرات من الليلك الاسود الفاتن ,او ثلاثة هداهد منمقات,او ثلاثة طواويس مريشة,او ثلاث باقات قرنفل بنفسجي,ثلاث جنيات من الشكولاتة المحمصة تتمشى واحيانا تتلفت كما تفعل الالهات في قديم الزمان) ص 78 .
كل ما يشاهده ويعيشه السباهي في البلاد التي يكتشفها فاحصا مندهشا وملما بكل التفاصيا المرئية مضافا لها حصافته في ربط الاشياء بجذورها الا انه سرعان ما يرجع الى مرارة الذكريات في بلاده مقارنا بحدة بين بلاد وبلاد ,بين مدينة تطرده مختنقا وبين مدينة تستقبله بابسط الحاجات الانسانية,السكن والمأكل والمشرب وجمال الطبيعة ولكن مع حرية شخصية تتيح له التنفيس عن مشاعره ومسيرته الحياتية(جلست على احدى المصاطب المنتشرة هناك ,اخرجت غليوني ,فعادت بي الذكرى الى شتاء عام 1976 حين زرت اسطنبول اول مرة وانا بطريقي الى دول اوربا الشرقية ,شأن معظم العراقيين في ذلك الزمن الجميل ,قبل ان يضرب البلاد طاعون اسود اسمه صدام) ص 63 .ان السباهي سائح لايسير الى الامام دوما بل يرجع بين الحين والاخر الى ذاكرته العراقية بقسوة وعتاب مريرين.وحتى تركيا محور الكتاب الرئيس فانه يسترجع التاريخ العثماني وكيف تم غزو العالم جنوبا وشرقا حتى جاء اتاتورك ونفي الاسرة الحاكمة الى فرنسا.وان دخل الاردن فان مقاهييها تبدو واضحة في ذاكرته وان دخل القاهرة فان الاسكندرية والافلام المصرية وتاريخ انتاجها وابطالها حاضرة في كتابته ,انها سياحة ثقافية تحلل المشاهدة وترجعها الى اصولها بالشواهد والقراءات المتعددة.
وكذلك كوردستان باعتبارها تطورت اكثر من مدن العراق الاخرى وهذا موضوع مقارنة واضحة لديه وكئلك الشام وازقتها وناسها.
لقد نجح السباهي في تقديم درس يمتزج فيه القص مع الذكريات الشخصية والتسجيل الحي بعين ناقدة غير هيابة فهو يقدم نموذج مماحكا لا يرغب الا بالحرية لذا فهو يطارد الهواء كي يحوز كسرة من خبز لا يراقبه احد وهو يمضغ على مهل احلامه وتمنياته.
ومن الشواهد المهمة في كتابه (رمية النرد الاخيرة) حيازة فهم عالم السرد والحياة والعلاقات الانسانية سيما المراة وتقلبات مزاجها وتنويعات اشراقات جمالها وحيويتها وهي تجلس في المقهى او على البحر.
ويختصر السباهي رؤيته عن السفر (المشاعر الوجودية التي يفجرها السفر لدى الرحالة ,قديما وحديثا ليس من اليسير حصرها في كلمات معدودة ,اذ السفر لديهم هبة الهية عظيمة,خصهم بها الرب دون غيرهم من العالقين طوال سنوات حياتهم في محيطهم ,مثل دجاجات منتوفة الريش,يقوقئن من دون توقف)ص7 . ونحن نكتشف معه كل سياحته ليلا ونهارا في الفنادق والشوارع والباصات والطيارات ولاينسى ذكر من كتبوا عنه نقديا ,ان رمية النرد الاخيرة كتاب عن رحلات السباهي مسافرا وقاصا وناقدا ادبيا وسياسيا واجتماعيا وفق خبرة حياته التي تجاوزت الستين وعاشها بالطول والعرض متقدما نحو الامام عابرا للحدود ,ولكنه يجر معه حقيبته ذكرياته اينما حل او رحل.