احمد جعفر
مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية في العراق، تتكشف بوضوح ملامح أزمة بنيوية عميقة تطال النظام الانتخابي والسياسي برمته. فالمشهد السياسي بات اليوم أكثر ارتباكًا، في ظل تصاعد وتيرة الانسحابات الحزبية، وتزايد الدعوات إلى المقاطعة، مقابل إصرار قوى أخرى على خوض المعترك الانتخابي كخيار دستوري لا بديل عنه.
ورغم الطابع الدستوري للانتخابات باعتبارها الأداة الأهم في تداول السلطة، فإن البيئة المحيطة بها تبدو غير محفزة، سواء على مستوى التنافس السياسي أو المشاركة الشعبية. فما يجري لا يمكن عزله عن سياق أوسع من التحولات المحلية والإقليمية التي ألقت بظلالها على ثقة المواطن في فعالية صندوق الاقتراع كوسيلة للتغيير.
من أبرز ملامح هذه الأزمة، التحوّل التدريجي في طبيعة المنافسة الانتخابية. فبدلًا من أن تكون قائمة على البرامج والمشاريع السياسية، بات المال السياسي والنفوذ السلطوي أدوات الحسم الرئيسة في السباق. هذا التوجه لا يُقصي القوى الجديدة فحسب، بل يُكرّس احتكار الساحة من قبل منظومة تقليدية تستثمر في السطوة والامتيازات.
لقد فقدت الحملات الانتخابية مضمونها البرامجي لحساب خطاب مبهم، ووعود فضفاضة، فيما بات الإنفاق الانتخابي، في بعض الحالات، يتجاوز سقوفًا مالية فلكية، دون رقابة فعلية أو مساءلة.
يزداد المشهد تعقيدًا مع استمرار العمل بقانون انتخابي يواجه انتقادات حادة بسبب ثغراته التي تتيح إعادة إنتاج النخب ذاتها. فبدلاً من أن يضمن عدالة التمثيل، وتكافؤ الفرص، يسمح القانون الحالي بقياسات مفصّلة على مقاسات القوى المتنفذة، في ظل غياب تعديل تشريعي يعيد الاعتبار للعدالة السياسية.
في المقابل، لا تزال مفوضية الانتخابات تعاني من فجوات تقنية وإدارية، سواء على مستوى الرقابة، أو في ما يخص الجوانب التكنولوجية المرتبطة بسلامة العدّ والفرز، ما يعزز الشكوك حول نزاهة العملية برمتها. في قلب هذه المعادلة المعقدة، يظهر ما يُعرف بـ"الجمهور الرمادي"، وهو الشريحة الأوسع من الناخبين الذين باتوا يتخذون موقف العزوف أو اللامبالاة. هذا الجمهور لا يتحرك إلا بدافع الثقة، والتي تآكلت بفعل الإخفاقات المتكررة، والوعود التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
اللافت أن هذا الجمهور لم يعد يتجاوب مع خطابات التحشيد التقليدية، بل يراقب من بعيد صراع النخب، دون أن يشعر بأن صوته قد يُحدث فارقًا في المشهد العام.
الانسحابات المتتالية من بعض القوى، سواء لأسباب مبدئية أو حسابات سياسية، تشير إلى أن العملية الانتخابية فقدت جزءًا كبيرًا من مشروعيتها التنافسية. فما معنى الترشح في سباق محكوم مسبقًا بنتائج محسومة سلفًا لصالح من يملك المال والسلاح والمنصب؟
هذا المشهد يعيد طرح تساؤلات قديمة متجددة: هل يمكن فعلاً إنقاذ النظام السياسي من خلال انتخابات تُجرى في ظل منظومة لم تتغير؟ وهل يملك الناخب أدوات التغيير في ظل ضعف القوانين، وتراجع ثقة الشارع، وسيطرة مراكز القوى؟ إذا كانت الانتخابات مدخلاً ضرورياً للتغيير، فإنها لن تحقق هدفها ما لم تُسبق بإصلاحات جذرية، تشمل تعديل القانون الانتخابي، تنظيم الإنفاق، وتفعيل قانون الأحزاب بما يضمن منع الفصائل المسلحة والجهات المرتبطة بقوى خارجية من المشاركة. كما أن إعادة الاعتبار للعملية الانتخابية يقتضي حصر السلاح بيد الدولة، وفصل المال العام عن المال الانتخابي، وضمان استقلالية المفوضية بشكل فعلي لا صوري.
المشهد السياسي الراهن يؤكد أن الانتخابات وحدها لم تعد كافية لإحداث التحول المطلوب. فدون معالجة الاختلالات في البيئة السياسية، ستبقى الاستحقاقات الانتخابية محطة شكلية تُعيد إنتاج الأزمة بدل حلّها. التغيير الحقيقي لن يكون مجرد حدث انتخابي، بل عملية تراكمية تبدأ من الاعتراف بالأزمة، وتفكيك أدواتها، والسير نحو منظومة حكم تستند إلى العدالة، والكفاءة، والمساءلة.