السيد عمار أبو رغيف
ضروب اليقين
اليقين لا يأتي متواطئاً، علی نحوٍ متطابق مع بعضه، بل يتنوع أبلغ ألوان التنوع، شأنه شأن ظواهر عالم الوجود، التي يوحدها الوجود، وتتعدد بتعدد تشخصاتها، تبعاً لآنات وجودها وتعيّنها، في أصقاع عالم الوجود، الذي لا تتناهی تعيّناته، ولا تستوعبه الأعداد بصحيحها وبكسورها. لكننا هنا نتابع بالمرتبة الأولی ما طُرح في الدراسات، التي يعنينا البحث في أطرافها، وهي تلك الدراسات، التي اتضح من خلال مدخل بحثنا الراهن أهميتها الملّحة لدينا.
أشرنا فيما تقدم الی ضروبٍ من «اليقين» طُرحت في أبحاث الحكماء والمناطقة وعلماء اصول الفقه، كما أشرنا الی بعض الإشكاليات الأساسية، التي قارب بعض الدارسين ـ في ضوئها ـ ظاهرة اليقين. نحاول هنا أن نتسلسل ـ وفق السياقات التاريخية للدرس المنطقي والفلسفي ـ في متابعة ضروب اليقين، وما لابسها من إضاءات ونقاشات، وأسئلة جادة.
أوضح أشكال «اليقين» هو اليقين المستند الی النزعة التلقائية، وما يصطلح عليه كثير من دارسي الفلسفة المحدثين «اليقين وفق الموقف الطبيعي للإنسان». ومن المؤكد أنه أول أشكال اليقين، التي يتعامل معها الإنسان بعفوية، ولم يخضع هذا اللون من اليقين للدرس الفلسفي الجاد، الا في مطلع القرن العـشرين، حيث أضحی إشكالية [جورج مور ـ برتراند رسل ـ فتجنشتين]، وهذا يعني أننا سنأتي الحديث عنه، ونعمد الی تمحيصه في القادم من درسنا الراهن.
أما اليقين العلمي فأول أشكاله هو اليقين المنطقي والرياضي، ومن الثابت تاريخياً أن «حكماء ما قبل سقراط»، خصوصاً طاليس وفيثاغورس اشتغلوا بالعلوم الرياضية. الی جانب اشتغال ما عُرف بـ «الحكماء السبعة» بالعلوم الطبيعية، حتی أضحی لقبهم عند «أرسطو» الطبيعيين. أطلقوا أحكامهم بشكلٍ يقيني جازم وبقطعٍ واضح، دون أدنی تردد، سواء أكانت أحكامهم من جنس المنطق والرياضة، أم كانت أحكاماً تنصب علی الطبيعة، وتكشف عن قوانينها.
لم يدعِّ أحدٌ من مؤرخي الفلسفة والعلم أنه اكتشف طبيعة اليقين، الذي خلص إليه «حكماء ما قبل سقراط»، هل هو يقين منطقي برهاني، علی غرار اليقين البرهاني الأرسطي، وقد سبقوا أرسطو في اكتشاف أساس نظرية البرهان لديه، أم هو يقين حدسي لا يستند الی منهج رياضي أو منطقي مدروس؟
لكن المؤكد هو أن فكرة اليقين المركب من الإذعان بالنسبة والتصديق بالعلاقة بين الموضوع والمحمول، والتصديق باستحالة خلافها هي فكرة طُرحت بوضوح في «منطق أرسطو»، وتابعها حكماء المدرسة الأرسطية، وهي جزء من أرث أرسطو الذي تمسك به الفلاسفة المسلمون، بما فيهم «الغزالي»، الذي هاجم الفلسفة وذهب بعيداً في «تهافت الفلاسفة»، وكان منشأً لمنازعات لم تنته بعد، بين الفلاسفة والمتكلمين، وبين اتجاهات الفلسفة العقلية وبين المحدثين، واتجاهات النص ومدرسة الحديث والأخبار. اذن؛ لنبدأ الحديث عن اليقين المنطقي تحليلاً وتفسيراً ونقداً:
اليقين المنطقي:
اليقين المنطقي عند أرسطو يشمل اليقين الرياضي، واليقين المنطقي حسب نظرية القياسي الأرسطية، واليقين التجريبي. بلی المعرفة العلمية في مدرسة أرسطو هي المعرفة اليقينية البرهانية، أي ما يدخل تحت غطاء نظرية البرهان وصناعته، وما سواها يدخل في صناعة الجدل، وغيرها من الصناعات الخمسة الأرسطية. من هنا نلاحظ أنّ البرهان في حدوده وشروطه ـ حسب مدرسة أرسطو( ) ـ هو حجة العلوم، ومن خلال إقامته علی أي نظرية من النظريات يتولد اليقين الذي لا ينفك بهذه النظرية، ومن ثم تدخل هذه النظرية في دائرة المعرفة العلمية.
البرهان المنطقي والرياضي، الذي يُنتج اليقين، الذي لا يزول ـ حسب أرسطو ومدرسته ـ يستند علی قاعدةٍ من البديهيات اليقينية. أما اليقين التجريبي الإستقرائي ـ حسب المدرسة الأرسطية ـ فهو ناتج عن استقراء الظواهر وتكرر وقوعها، وضمّ قاعدة عقلية بديهية «الدائمي والأكثري لا يكون صدفه».
أي أن الاستقراء وحده لا يُنتج اليقين، فمهما تراكمت القرائن والشواهد علی صدق العلاقة بين أ ـ ب، لا يبلغ صدق هذه العلاقة الی مرحلة اليقين، ما لم ينضم الی هذه القرائن مبدأٌ بديهيّ مدرك ادراكاً أولياً سابقاً علی التجربة والحس (معطی عقلي خالص). ومن المؤكد أنّ هذا المبدأ البدیهي، وسائر المبادئ البدیهیة في المنطق والریاضة والأخلاق هي مبادئٌ یقینیة، وفق أصحاب هذه البدیهیات.
من هنا یُطرح أمامنا یقینٌ ذو طابع خاص، وهو: «الیقین البدیهي». هذا الیقین الذي لم تُغادر دائرة النقاش حوله، فهو بدایة المعرفة، وهو إشكالیتها علی مستوی حجج المعرفة الإنسانیة الإستنباطیة والإستقرائیة. المعرفة الإنسانیة (ككل تعیّنات عالم الوجود «عالم الإمكان») لابد أن تكون لها بدایة، فهل تبدأ من قضایا یقینیة، نصطلح علیها بالأولیات، أو الاصول الموضوعة، أو البدیهیات؛ أم لا تتعدی بدایات المعرفة المواضعات، وما تتفق علیه الجماعات العلمیة من قضایا؟ هذه إشكالیة أساسیة من صلب نظریة المعرفة في عصر الحداثة، وقد تحریت مقاربتها في الجزء الأوّل من كتابي «نظریة المعرفة»، وأظن أنّ متابعتنا اللاحقة لنظریة المعرفة تضطرنا الی الوقوف مجدداً علی معالجة هذه الإشكالیة.
یهمنا هنا بذل المستطاع في فهم «البداهة ویقینها»، أي تحدید مصطلح البدیهي، وتحلیل طبیعة الیقین الذي یكمن في المدركات البدیهیة، التي تتمثل في قضایا، یمكن وصفها بالصدق والكذب، إذ الیقین ینصب علی النسب والعلاقات، نفیاً أو إثباتاً.
كنت اعتقد أنّ مفهوم «البدیهی» في المعرفة الإنسانیة ینبغي ان نسأل عنه فیثاغورس واقلیدس، ونحلة علماء الریاضیات. لكن متابعاتي التاریخیة، خصوصاً لما كتبه مؤرخ العلم الكبیر «جورج سارتون» أفضت الی تغییر قناعاتي؛ ذلك أن نظام المعرفة والعلم الإنسانیین لم یتعرف علیه فیثاغورس، رغم ان بعض ما اُشتهر عن فیثاغورس في مسألة مساحة المربع المُقام علی ضلع المثلث قائم الزاویة یعبر عن ومضة من النبوغ الهندسي المبكر في بلاد الیونان. ولم یكن «اقلیدس» الا خلفاً لأرسطوطالیس ومتتلمذاً علی عطاء أرسطو، ونظام تفكیر المعلم الأول معرفیاً.
إن النظام الریاضي في هندسة اقلیدس یمثل في جوهره وجهاً من وجوه نظریة «البرهان» الأرسطیة، وإن ما طرحه اقلیدس في «الاصول»، كمنهجٍ لنظریة الإستنباط الهندسي، ینبغي التماسه في «التحلیلات الثانیة» من منطق أرسطو، وعموم نظریة البرهان في المعرفة الأرسطیة، أي الفهم الأرسطي لنظریة الاستنباط في المعرفة الإنسانیة عامة، وموقع الیقین فیها، مما یضيء فهمنا بشكلٍ جلي لمفهوم الیقین البدیهي.
كيف تبدأ المعرفة الإنسانية في مدرسة أرسطو؟
تبدأ المعرفة الإنسانیة في مدرسة أرسطو من قضایا أُصطلح علیها منذ أرسطو «الأوائل والمبادئ»، وقد تداولها الحكماء المسلمون. جاءت ـ كما دونها الشیخ الرئیس ـ في القضایا التالیة:
«والواجب قبولها أولیات، ومشاهدات، ومجربات وما معها من الحدسیات والمتواترات، وقضایا قیاساتها معها»( ). أما الأمثلة التي أوردوها عن هذه المبادئ الست فهي:
أوّلاً: الأولیات، وهي القضایا التي یوجبها العقل الخالص لنفس تصوّر أجزاء القضیة، وبمجرّد هذا التصوّر، ودون الاستعانة بما هو خارج هذا التصور. نظیر: استحالة اجتماع النقیضین، واستحالة ارتفاعهما، ومبدأ العلیة. أما نفس التصور فهل هو أمر بدیهي لا یتكأ علی تصور آخر، أم هو مشتق من تصورات اُخری؟ الإجابة علی هذا الاستفهام نتوخاها في بحثنا عن نظریة المعرفة. وفي سیاق هذا البحث نطرح اشكالیات مبدأ التناقض، ومبدأ العلیّة.
ثانیاً المجربات «وهي ما استقر الاصطلاح علیها بالتجریبیات». وهي قضایا تستند الی تكرار وقوع هذه القضایا، یقترن فیها الموضوع بالمحمول بشكلٍ دائم أو أكثري. ولا یحصل الیقین بهذه القضایا الإستقرائیة ما لم ینضم إلیها قیاس خفي، یقرر أنّ الدائم والأكثري لا یكون اتفاقاً وصدفة، إنّما هو اقتران علِّي.
والسؤال الجدیر بالبحث هنا هو: هل یصح أن تكون التجریبیات من مبادئ المعرفة الإنسانیة وأصولها التي تشكل نقطة انطلاقٍ للعلوم عامة؟ وهل أحكامها أحكام مطلقة ضروریة (واجبٌ قبولها)؟ لقد أثرت في بحوثٍ سابقة، وقبل أكثر من ثلاثین سنة، إشكالیة حول المعرفة التجریبیة في مدرسة أرسطو، انصبت حول برهانیة قضایا المعرفة التجریبیة، وفق إصطلاح مدرسة أرسطو. واعتقادي الذي أخذ یترسخ أنّ نصوص الأوائل (من الحكماء والمنطقیین الأرسطیین) مشبعة في التهافت، وهذا ما یتطلب بحثاً مستأنفاً، ومن المؤكد اننا سنتعرض لهذا البحث، بشكلٍ مستوعب في القادم من دروس.
ثالثاً: المشاهدات وهي الحسیات سواء أكانت محسوسة بالحواس الظاهریة أم الباطنیة، كالحس والشعور بالألم، ویضیفون الیقین بوجودنا وبوعینا ـ ثم یردفون بان الحسیات كالتجریبیات بوجه، ویریدون بذلك انها مشاهدات وقیاس خفي. والإنصاف یقتضینا القول أنّ أمر الحسیات أو المحسوسات لا یختلف عن التجریبیات في أنّ نصوص السلف من كبار المناطقة والفلاسفة المسلمین ـ علی أقل تقدیر ـ تتطلب بحثاً مستأنفاً.
رابعاً: المتواترات، وهي القضایا الإخباریة، التي تكررت بشكلٍ یورث هذا التكرار الیقین بصدقها. وهنا یطرح شارح الإشارات «نصیر الدین الطوسي» فكرةً تستدعي التأمل، حیث یقول: «واعلم أن المتواترات أیضاً یشتمل علی تكرار وقیاس الا أن الحاصل بالتواتر هو علم جزئي من شأنه أن یحصل بالإحساس ولذلك لا یعتبر بالتواتر الا فیما یستند الی المشاهدة فحكم المتواترات حكم المحسوسات ولذلك لا یقع في العلوم بالذات»( ).
من المتوقع ان یطرح القارئ الحصیف أسئلةً:
السؤال الأول: لا شك أنّ الخبر المتواتر هو واقعة جزئیة، فكیف یصح أن تكون القضیة الشخصیة، التي لا یراد الا إثباتها واقعة في صغری قیاس الإستنباط؟
السؤال الثاني: كیف تكون الحسیات، التي تنتج عادةً حكماً كلیاً، یتجاوز المحسوسات الجزئیة المشاهدة لا یقع في العلوم بالذات وهو علم جزئي، مع إن ما یراد إثباته فیها قضایا كلیة؟
خامساً: الحدسیات، ونقطة البدء في فهم المراد بالحدس والحدسیات هي: معرفة المراد بالحدس والفكر؛ لإنهم ذهبوا ان القضایا البدیهیة لا تتطلب نظراً وفكراً، خلافاً للنظریات حیث تلمع في العقل وتنبع منه بلا إستعانة بنظرٍ وإجالةٍ للفكر. نعود لنستمع لشیخ حكماء المسلمین في النمط الثالث من «الإشارات والتنبیهات»، حیث قال: «لعلك تشتهي الآن أن تعرف الفرق بین الفكرة والحدس، فاستمع: أما الفكرة فهي حركة ما للنفس في المعاني... یطلب بها الحد الأوسط أو ما یجري مجراه مما یُصار به الی العلم بالمجهول... وأما الحدس وهو أن یتمثل الحد الأوسط في الذهن دفعة...»( ). یؤكد الشیخ وشارح الإشارات ان الفكر قد یتأدی الی المجهول وقد ینبّت ویفشل، اما الحدس فهو لا ینبّت. ثم ان قوة الحدس تتطلب ثقافة وهي غیر متشابهةٍ في الجمیع، أط جمیع الآدمیین.
هنا نحاول إثارة الإسئلة، التي لا محیص من إثارتها بجدیة، والمثابرة علی استیضاح الإجابات علیها؛ خصوصاً إیضاح العلاقة بین مبادئ المعرفة الإنسانیة، وبین كونها أي المبادئ الأولیة ترتهن بذات العارف، وموهبته الحدسیة، ومن هنا نتساءل كیف یكون الحدس قاعدةً مرجعیة للمعرفة الإنسانیة، وهو أمرٌ تحظی به قوی عقلیة خاصة؟ قال الشیخ الرئیس:
«ألست تعلم أن للحدس وجوداً، وأن للإنسان فیه مراتب وفي الفكرة فمنهم غبي لا تعود علیه الفكرة برادةٍ، ومنهم من له فطانة الی حدٍ ما ویستمتع بالفكر، ومنهم من هو اثقف من ذلك وله إصابة في المعقولات بالحدس. وتلك الثقافة غیر متشابهة في الجمیع، بل ربما قلت وربما كثرت.»( ).
حینما یكون الحدس قوةً خاصةً بصنف من البشر من ذوي النبوغ والصفاء الذهني عندئذٍ لا یعود الحدس مبدءاً للمعرفة الإنسانیة، لأنه سوف لا یرتبط بذات الذهن الإنساني السلیم، إنما تختص به مواهب من البشر. ومن ثم لا تُبنی المعرفة الإنسانیة عما تجود به قوة الحدس التي یتمتع بها المبدعون، بل سیطالبون بالدلیل، حتی في دائرة المعرفة العلمیة، مادام الوصول الی الیقین الحدسي لیس مُتاحاً لكل الجماعة أو الجماعات العلمیة. علی غرار كثیر من الحدوس العلمیة، التي طرحها نوابغٌ من العلماء، لكنها بقیت لزمنٍ طویل لا تتعدی الفروض، والنظریات التي تستدعي التدلیل علیها. أما الیقین الحدسي فهو یقین ذاتي لا یضیف الی مسیرة العلم شیئاً.
أضف الی ذلك أنّ إتجاهنا الموضوعي في تفسیر المعرفة الإنسانیة لو تنازلنا عنه، وذهبنا مذهباً ذاتیاً في تفسیر المعرفة؛ یبقی الحدس الذاتي (الذي تحظی به بعض الذوات من البشر) لیكون مبدءاً للمعرفة أمام مشكلةٍ لا مفر منها، وهي انه لا یصلح ان یكون مبدءاً للمعرفة الإنسانیة، ما لم یكن متاحاً لعامة الذوات والإذهان البـشریة. ثم كیف جاز تشبیه الحدسیات بالمجربات، واقتران التصدیق بها بقیاسٍ لم تحدد كبراه بشكلٍ حاسم؟ فهذا أمره متروك لبحثٍ في المعرفة ونظریتها عامة. أما النظریة الحدسیة في تفسیر أصول الریاضیات الحدیثة فسنأتي علی مقاربه «الحدس»، ومفهومه في هذا الحقل المعرفي.
سادساً: الفطریات( ) (القضایا التي قیاساتها معها)، والاجدر بالإختصار ان نرجع الی الشیخ الرئیس، وننقل نصه:
«وأما القضایا التي معها قیاساتها فهي قضایا تصدق بها لأجل وسط لكن ذلك الوسط لیس مما یعزب عن الذهن فیحوج فیه الذهن الی طلب بل كلما أخطر بالبال حدّ المطلوب خطر الوسط بالبال مثل قضائنا بأنّ الاثنین نصف الأربعة.»( ). أما كیف یتألف القیاس هنا فلأن «الاثنین عدد قد انقسمت الأربعة إلیه وإلی ما یساویه وكلما ینقسم عدد إلیه وإلی ما یساویه فهو نصف ذلك العدد.»( ).
السؤال الأساس هنا هو: من أین یأتي الیقین بمثل هذه القضایا، التي تسمی «فطریات»؟ من المؤكد أن السلف من المناطقة والحكماء ـ كما تبین من النص المتقدم، وسائر نصوصهم الاُخری ـ یعزون الیقین فیما أسموه «الفطریات» الی یقین مصدره قیاس منطقي توأم القضایا الفطریة، ولكي یتضح جوهر القیاس المنطقي، الذي ذهب إلیه السلف، نعود الی النص المتقدم للشیخ الرئیس، حیث قال فیه ما مضمونه:
[إن التصدیق والیقین بالقضایا، التي معها قیاساتها یتم لأجل وجود حد أوسط لا یغیب عن الذهن، بل كلما اُخطر بالبال حد المطلوب إثباته خطر الوسط بالبال].
الحد الأوسط في مثال العدد «س» نصف العدد «ص» لا یتوائم مع الموضوع والمحمول فتُنجب النتیجة من مجرد تصور موضوعها ومحمولها، إذا بلغنا حداً من الأعداد، فالوسط الفطري والنتیجة الفطریة المفروزة في عقل الإنسان ـ كما قالوا ـ یتعطل دورهما في أغلب الأعداد، لنستمع الی الشیخ الرئیس في نص «الشفاء»: «وإما أن یكون المعین غریزیاً في العقل أي حاضراً ـ وهو الذي یكون معلوماً بقیاسٍ حده الأوسط موجود بالفطرة وحاضر للذهن. فكلما اُحضر المطلوب مؤلفاً من حدین أكبر وأصغر تمثل هذا الوسط بینهما للعقل من غیر حاجةٍ الی كسبه. وهذا مثل قولنا: ان كل أربعةٍ زوج؛ فإن من فهم الأربعة وفهم الزوج تمثل له أن الأربعة زوج، فإنه في الحال یتمثل أنه منقسم بمتساویین. وكذلك كلما تمثل للذهن أربعة، وتمثل الأثنان، تمثل في الحال أنها ضعفه لتمثل الحد الأوسط. وأما إذا كان بدل ذلك ستة وثلاثین أو عدداً آخر، افتقر الذهن الی طلب الأوسط. فهذا القسم الأولی أن یُسمی مقدمة فطریة القیاس.»( ).