ابراهيم العريس
لم تكن لأي منهنّ قامة إرنست همينغواي ولا مخيلة كارسن ماكالرز ولا لغة ويليام فوكنر ولا حتى صلابة أسلوب تينيسي وليامز، لكن فعل كل واحدة منهنّ في حراك المجتمع الأميركي وإنجازاتها في إضفاء قدر هائل من الشعبية إلى آداب القسم الشمالي من "العالم الجديد"، كان يفوق فعل هؤلاء الكتاب الكبار مجتمعين، ولا سيما حين حلّ عصر السينما ونقلت إلى الشاشات الكبيرة حكاياتهنّ الرئيسية، فإذا بكل حكاية من تلك الحكايات يتضاعف تأثيرها ليس في المجتمع الأميركي وحده بل في العالم أجمع. ولعل ما يؤكد على ما نذهب إليه هو أنه لم يشتهر لكل واحدة من هؤلاء الكاتبات الثلاث سوى عمل واحد خيّل معه لكثر أن الواحدة منهنّ لم تكتب سوى ذلك العمل الواحد، ولم تحصل أي منهنّ على جائزة مرموقة تكشف عن مكانة كبيرة في عالم الأدب. ولعل ذلك كان على المستوى الشعبي خيراً لهنّ. وذلك لأن كل واحدة منهنّ فازت بجائزة أعظم كثيراً كما رأت أغاثا كريستي ذات يوم: جائزة جمهرة القراء، ومن بعدهم جائزة جماهير مشاهدي الأفلام السينمائية. ونتحدث هنا تباعاً، وفي ترتيب زمني، عن هيريت ستو (1811 - 1896)، وعن لويزا ماي ألكوت (1832 - 1888)، وعن مارغريت ميتشل (1900 - 1973) الوحيدة بينهنّ التي عاشت في القرن الـ 20، وأدركت عصر السينما التي اقتبست، وبشكل يكاد يكون أسطورياً، روايتها الكبرى والأشهر "ذهب مع الريح" في فيلم ظل حتى سنوات الـ 80 يحتل المركز الأول عالمياً بمردودات ضخمة حققها له مئات ملايين المتفرجين.
حتى سنوات الـ 80 كان "ذهب مع الريح" من إخراج فيكتور فليمنغ وإنتاج ديفيد سيلزنيك يعتبر أعظم فيلم في تاريخ السينما، ويعتقد كثر أن كاتبته لم تكتب رواية أخرى غير تلك التي اقتبس منها. أما المصير السينمائي لـ "نساء صغيرات"، رواية لويزا ألكوت التي إذا كانت كاتبتها قد كتبت سواها، فإن ما كتبته بقي على الدوام تنويعاً على تلك الرواية يتابع حكايات بطلتها جو مارش التي لم تكن في حقيقتها سوى أنا/ أخرى للكاتبة نفسها. وهي كانت واحدة من أربع بنات أنجبتهنّ أسرة الدكتور مارش، وعرفت كيف تتوجه باكراً إلى الأدب جاعلة من حياتها انعكاساً موارباً لحلم العصامية والنجاح الذي منه صنع الحلم الأميركي في جانبه النسائي على الأقل، والحقيقة أن قضية المرأة كانت القضية التي أضفت هالة تقدمية على روايتي لويزا ألكوت ومارغريت ميتشل، ولو غالباً بصيغة مواربة.
ولا بدّ لنا من أن نذكر هنا أنهما عملان نسويان وليس فقط لأن امرأة تتولى البطولة في كل منهما. وتحديداً امرأة تعوض على افتقارها للحب والحنان بمكاسب أخرى: الكتابة وعيش الحرية بالنسبة لجو مارش، الشخصية المحورية في "نساء صغيرات"، والتعالي على بؤس المصير كما على الحب دفاعاً عن قضية الجنوب على الضدّ من الشمال في حرب الانفصال التي وقف فيها الشماليون مع تحرير العبيد من منطلقات مواقف الرئيس أبراهام لينكولن، فيما وقف الجنوبيون على الضدّ من ذلك.
ولعل من اللافت هنا أن سكارليت أوهارا، المرأة الجنوبية ومن خلال غرامها بالأرعن ريت بتلر، وهو يمثل عقلانية الشمال ودهاءه، تبدو مميزة في الرواية كما في الفيلم من خلال شخصية تحمل كل التباسات المرحلة.
مما تقدم يتبيّن لنا أن امرأة "ذهب مع الريح" تستمد شعبيتها، بل حتى شعبويتها إذا جاز لنا القول بالنظر إلى أنه لم يكن ثمة إجماع دائم من حول تلك الشخصية بين مؤيدين لمواقف أهل الجنوب وآخرين لمواقف أهل الشمال، علماً أن الرواية نفسها في تحليلها الأيديولوجي تتسم بقدر كبير من النزعة الرجعية "الجنوبية" حتى ولو أن الفيلم حين فاز بالعدد الكبير من جوائز "الأوسكار" تميّز في هذا السياق، إذ أعطى للخادمة السوداء السعيدة لسعادة سادتها، أهل سكارليت، والتعيسة لتعاستهم، أول جائزة تعطى لفنان أسود في تاريخ السينما الأميركية ما اعتبر موقفاً "تقدمياً" يصبّ لمصلحة الفيلم في الزمن الذي باتت فيه قضية تحرر السود أمراً بديهياً، غير أن هذا ليس لبّ موضوعنا هنا. ليس من مهماتنا توزيع التقدم على هذا الفريق أو ذاك، كما أن مارغريت ميتشل نفسها كانت حين تُسأل عما إذا كانت قد أرادت من روايتها هذه رداً جنوبياً على رواية هيريت تستو "كوخ العم توم" التي ظهرت قبل ظهور "ذهب مع الريح" بما يقرب من قرن من الزمان، أنكرت ذلك تماماً بل حتى استنكرته معتبرة روايتها استكمالاً لرواية تلك الكاتبة المناضلة التي يمكن اعتبار روايتها واحداً من أول الأعمال الأدبية التي نصرت قضية السود.
بل إن ستو كانت تعتبر نفسها مناضلة في سبيل إلغاء كلمة العبودية من قاموس المجتمع الأميركي، وكانت دائماً ما تؤكد أن "كوخ العم توم" إنما هي سلاح في يدها أوجدته موهبتها الأدبية في سبيل دعم قضية تحرر أولئك السود. والحقيقة أن ملايين القراء الذين قرأوا هذه الرواية الفذة إنما قرأوها ليس من أجل الحصول على متعة أدبية، على غرار ما سيكون الأمر مع "نساء صغيرات"، أو على متعة عاطفية كما الحال مع "ذهب مع الريح"، بل على سبيل المشاركة في النضال التحرري الذي خيض في الولايات الأميركية منذ زمن مبكر من جانب السود ومن أجلهم. ومن هنا تلك الأعداد الضخمة لقارئي تلك الرواية التي سيقول المؤرخون إنها حققت غايتها بوصفها سلاحاً، وعلى الأقل في الولايات الشمالية الأميركية التي ستبقى دائماً أكثر تطوراً ونزعة اجتماعية من ولايات الجنوب، حيث حددت أسس محو العبودية فكانت "إنجيلاً" لنوع شديد الأميركية من التحرر الاجتماعي عرف كيف يدخل كل البيوت جاعلاً من العبودية ومحوها قضية كل بيت، ولا سيما تحت وقع تطور اقتصادي حوّل الشمال إلى مناطق صناعية تحتاج إلى أيد عاملة، بينما ظل الجنوب أراضي زراعية شاسعة يملكها إقطاعيون يحتاجون إلى أن يكون العاملون في خدمتهم عبيداً مملوكين لا ينفق عليهم سوى كلفة إقامتهم في المزارع وكلفة طعامهم وشرابهم التي يوفرها ما يجنى من خير الأراضي التي يزرعونها ويحصدونها وتذهب مردوداتها إلى السادة الإقطاعيين.
صحيح أن رواية لويزا ألكوت لا تهتم كثيراً بهذا الجانب السوسيو – أيديولوجي، لكنها إذ تركز همها على قضية المرأة وعلاقتها بالحلم الأميركي منتصرة للخيارات المناوئة لما يرتئيه المجتمع نفسه، في نضال قد يبدو أنه يتسم بقدر كبير من النزعة الفردية، من خلال التركيز على تحليل شخصية جو مارش نفسها، وانخراطها في فعل الكتابة كأداة تحرر ينطلق من الفرد (الكاتبة جو مارش) إلى المجتمع ككل، غير أنه وكما تم تلقي الرواية من قبل ملايين القراء، ثم تلقي اقتباساتها السينمائية ولا سيما على يد جورج كيوكور الذي عرفته هوليوود بوصفه مدافعاً عن المرأة ومكانتها في المجتمع في أفلامه، ولعل من أهمها هذا الفيلم الذي اعتبر منذ ظهوره عام 1938 صرخة من أجل المرأة وحلمها الأميركي، حتى النسخة الأخيرة التي ظهرت قبل أعوام قليلة لتعتبر إعادة تلك الرواية الفذة إلى الواجهة باعتبارها الرواية الأميركية بامتياز. علماً بأن ظهور هذا الفيلم شكّل مناسبة للعودة إلى الحديث عن "ذهب مع الريح"، ولكن أيضاً عن "كوخ العم توم" باعتبار ذكر الفيلمين الآخرين لا ينفصم عن ذكره، ومن جديد باعتبار أن هذه الروايات "النسائية" الأميركية الثلاث هي الأعمال المؤسسة للأدب الشعبي الأميركي على الضدّ من تلك الأعمال الأدبية النخبوية التي أعطت للأدب الأميركي بصورة عامة، وغالباً من خلال الجوائز الأدبية الكبرى وعلى رأسها جائزة "نوبل"، أكاليل الغار في وقت تنسى فيه ستو، وألكوت، وميتشل إلى حين تلوح في الأفق مناسبات تجعل ذلك النسيان منسياً... ولو إلى حين!