مشروع الحداثة الاستعماري بين جرجي زيدان وانتصار أحمد
14-آب-2023
صالح الرزوق
ترى انتصار شوقي أحمد في كتابها "جرجي زيدان ومشروع الحداثة الاستعماري"* أن كتابات زيدان قدمت للأدب العربي أكثر من عشرين رواية تاريخية استفادت من الماضي الإسلامي، وأعادت التنقيب عن الحقائق المستترة تحت ركام من الخرائب والأنقاض، ومنها مسائل لها علاقة بالوجدان وأسلوب الحكم والحرية الممنوحة للنساء (ولا سيما مركزية المرأة وعلاقتها بالعمل السياسي الانقلابي وضرورة التمدن). ولكن هذا لا يلغي وجود نزاع حول ريادته للرواية لعدة أسباب منها ضعف الحبكة، وإعادة كتابة التاريخ وليس إحياءه، والخروج "على أصول الفن الروائي".
مع الاهتمام بما له علاقة بالواقع الراهن، والانحياز للحداثة والمعاصرة. فقد بدأ سلسلة أعماله مع "المملوك الشارد" وصعود نجم شخصية محمد علي، وختمها بقصة غرامية هي "جهاد المحبين". وبرأيي يصلح هذا العنوان لمجمل السلسلة لأنه، كما لاحظت انتصار أحمد، لا تخلو رواية له من قصة حب عنيف يتخللها عقبات ودسائس. ولكن كانت مراجع زيدان تتراوح بين الموثوقة والضعيفة. فقد بنى أحداث رواياته على مدونات موجودة حتى الآن مع مدونات لم نعد نعرف عنها شيئا. واعتمد على مؤلفات بعض المستشرقين مثل بروكلمان، وكانت لا تخلو من التسرع وسوء التفسير وأحيانا عدم الدقة في فهم الأصل. بالإضافة إلى كتب سيئة السمعة والصيت، منها "التقويم العام" الذي استفاد منه في كتابة روايته "الحجاج بن يوسف الثقفي"، و"صحيح البخاري" المتهم بملاحقة الحياة الجنسية للرسول وإهمال أكثر من ألف خطبة ألقاها في مناسبات عامة.
ثم تتوقف انتصار أحمد مع رواية "الانقلاب العثماني" وترى أنها تعمل على تدمير سلطة الأب". وهذا شيء له وجود في المعنى الرمزي لفن الرواية بشكل عام. ولا تخلو رواية من عقدة التلصص ثم الصراع بين الأخوة ومحاولة امتلاك الأم. ولكن مركز الثقل يتبدل من محور لآخر، فيكون التركيز على التنافس من أجل الأم (في العقدة الغرامية) أو على الخلاف بين الأخوة (في روايات الحروب والنزاع على الأرض). ولا يجوز أن يغيب على الذهن أن "الانقلاب العثماني" رسالة يوجهها رجل مغبون إلى كل الأمة، ولا سيما أن الحبكة تبدأ مع رامز الذي فقد أمه، وأخذ من والده مبادئ الحرية والمساواة وكره المظالم. وبلغة الخطاب الفني: قدمت الرواية سيرة حياة أسرة غير أوديبية ضد قدر ظالم بأسلوب الراوي العليم. وهو ما يقودنا لمشكلة لها علاقة بدكتاتورية الراوي وديمقراطية المضمون. فالراوي العليم الذي "يدير كل شيء بنفسه وينوب عن صوت الراوي المباشر" يؤله نفسه من خلال ثنائية الغياب والحضور. ومن البديهي أن التستر والاستدلال على الموجود بالأثر شيء من صفات الإله أو الشيطان. كلاهما يلعب دورا مؤسساتيا دون أن يكشف نفسه. ومع أن هدف الرواية هو التنديد بالاستبداد لا نشعر بأي خلل عضوي في تغليف الحكاية التحررية بغلاف استبدادي. فالراوي لم يكن جاهزا للحوار، ولم يسمح لأصوات الآخرين أن يعبروا عن أنفسهم. ويمكن الإقرار أن جرجي زيدان أخذ دور مصور محايد أعاد تركيب الصور بعدسة انتقائية. وأفاد ذلك بإلغاء نثرية الحبكة ورفعها إلى مستوى أقول عنه شعرية الحكاية. وهذه الانتقائية هي التي رشحت رواية "الانقلاب العثماني" لتكون سيرة روائية لعبد الحميد الثاني وصراعه مع جمعية الاتحاد والترقي ومن يقف وراءها.
وتبني انتصار أحمد على العتبات - بالأخص العنوان والاستهلال والنهاية - عدة استنتاجات. فهي تضع القارى في جو العمل، أو أنها تبرم معه ميثاقا. ولذلك يوحي عنوان "الانقلاب العثماني" أنه يتناول أحداثا مفصلية في تاريخ الدولة. في حين أن رواية مثل "أسير المتمهدي" تصور بداية اضطرابات في إطار ثوري كاذب ومخادع. وقل نفس الشيء عن الاستهلال - أحيانا يأتي بشكل مقدمة وتحت عنوان "فذلكة تاريخية". وتعتقد أن ذلك يهدف إلى استكمال السجلات التاريخية بتذييل أو استطرادات مكملة تسميها مع دريدا supplementarity. وهذا يعني وجود فراغات وعجز في سجلاتنا التاريخية. ويؤكد زيدان أنه لاحظ هذه الفراغات بجولة استطلاعية قادته من مصر إلى السودان، الساحة التي جرت فيها أحداث روايته.
غير أن انتصار أحمد ترى في لقب المتمهدي إساءة للثائر السوداني المعروف. وأعتقد أن ذلك بسبب الخوف من مقص الرقابة الإنكليزية، وليس ناجما عن مقت شخصي. وإذا قارنا "أسير المتمهدي" مع "شوق الدرويش" للسوداني حمور زيادة لا بد إلا وأن ننتبه للانزياح في المضامين والأساليب. فرواية زيدان مكتوبة بإملاءات الرواية الطبيعية، بينما اعتمد زيادة على عدة أصوات ومستويات لقراءة الواقع التاريخي. وإن أكلت الحرائق والمجاعة البشر والمدن عند زيادة فقد غطت على هذه القسوة عند زيدان قصة الحب المتخيلة. والمتبقي في النهاية هو التناقض وتمثيلاته بشكل حركة تمرد عند زيدان وحركة تحرير عند زيادة - وكلتاهما تنطبق عليها حبكة الرواية الكورية التي أصبحت تعرف باسم "جريمة الابن الصالح"، وهي محاكاة صغيرة وعلى نطاق أضيق لخطيئة دستويفسكي، السفاح قاتل المرابية العجوز في "الجريمة والعقاب". وهكذا يصبح الفرق بين الطرفين له علاقة بالأسلوب وليس الاتجاه، الأول يلجأ للذاكرة، والثاني لصوت الشخصيات كما تقول نشوة أحمد في دراسة لها عن الأدب الكوري. كما أن زيدان لم يستسلم للسلطات الاستعمارية طوعا، وأشار لمظاهر التمدن باسم "التفرنج"، وهو لغويا ليس بعيدا جدا عن "التمهدي". وللكلمتين معنى التشبه والمحاكاة. وأكد علنا "أن إبراهيم - والد بطل الرواية ليس إفرنجي النزعة، كما أن شفيق لم يكن مرتاحا للكلام بالفرنسية لأنها تخون روحه الشرقية ولا تحسن التعبير عنها". وأما نفور جرجي زيدان من موكب الدراويش فهو مجرد دليل آخر على الشك وعدم الثقة بكل الإحالات الدينية والأصولية التي سوقها العثمانيون وجاء الغرب ليضع حدا لها. كما أنه لم ينتقص من المهدي نفسه ورأى أنه طويل خفيف العضل كبير العينين (علامات فيزيائية) وفي وجهه مهابة ولطف (علامات روحية).
بالنتيجة كان مشروع جرجي زيدان عروبيا بالمعنى التنموي للكلمة - على شاكلة مشروع الشريف حسين. وهذا يعني التأكيد على أربع مكونات.
1- البطولة الفردية والاعتراف بالسلطة المطلقة لكل فرد على نفسه. ولذلك حملت معظم رواياته أسماء شخصيات هامة.
2- فرض سياسة التنوير بكافة أشكالها أو ما أسميه التصوير بدرجة سطوع تامة.
3- استعمل حبكة روايات ثوب الزفاف، بمعنى أن الأحداث تتحرك بدافع غرامي نظيف.
4- لم ينتمِ عضويا لمذهب واضح. وعلى فرض أنه قريب من حركة الاستشراق، لم يتأثر بأطروحتها الأساسية. وتخلو أعماله من أوهام ألف ليلة وتمثيلات شهرزاد. ولم يفرض علينا في أعماله الصور النمطية للمغامر الشاطر والفهلوي، ولا نموذج الفاتنة والماكرة دليلة.

*جرجي زيدان ومشروع الحداثة الاستعماري. انتصار شوقي أحمد. مؤسسة هنداوي. 2023/ 264 ص.
الاقتصاد النيابية تبحث المواصفة العراقية لاستيراد المركبات مع جهاز التقييس
3-نيسان-2024
وزير العدل خالد شواني لـ"العالم": نعمل على "أتمتة" عمل التسجيل العقاري وكتّاب العدول
25-آذار-2024
الحسناوي لـ"العالم": حصة المواطن من الموازنة العامة سنويا 4 آلاف دينار
23-آذار-2024
وزير الداخلية لـ"العالم":نخطط لاستبدال المنتسبين الرجال في المطار بكادر نسوي
12-آذار-2024
حادث سير يودي بحياة "مشرفين تربويين" على طريق تكريت - موصل
12-شباط-2024
العراق يتأثر بحالة ممطرة جديدة تستمر لأيام تتبعها ثالثة "وربما رابعة"
12-شباط-2024
هزة أرضية تضرب الحدود العراقية التركية وسكان يستشعرون قوتها في دهوك والموصل
12-شباط-2024
العراق يدعو إلى تدخل دولي لمنع خطط التهجير الجماعي لسكان جنوب غزة
12-شباط-2024
بمشاركة السوداني وبارزاني إنطلاق قمة عالمية بدبي للحكومات
12-شباط-2024
الأمن والدفاع: العراق لا يستطيع حماية أجوائه من المسيرات
12-شباط-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech