(الحلقة الخامسة عشرة)
د. شاكر الحاج مخلف
بداية المحنة
سادت الفوضى المسجد بعد تهديد مروان بن الحكم ، الأمر الذي استوجب ان يرد الخليفة غاضبا ، قال موبخا بن الحكم :
- أسكت ، دعني وأصحابي ! ، ما منطقك في هذا ..؟، ألم أتقدم إليك ألا تنطق ..!؟
سكت مروان على مضض وكان يهدف إلى تأجيج حالة الغضب والتمرد ويضع الخليفة في موقف لا يحسد عليه أمام كبار المسلمين ،نزل الخليفة عن المنبر، والمسجد يموج بغضب ورفض الناس لقول بن الحكم ، عظم عليهم ان يسمعوا بحضوره ذاك التحدي وتلك الاستهانة بوجودهم وهم أوائل الذين أمنوا بالإسلام وناصروا الرسول وجاهدوا معه ، تدارسوا كلمات التهديد وصار الأمر بينهم الوصول إلى العهد – تعاهد عشرة من كبار المهاجرين وقرروا ان يكتبوا بمطالبهم وتصوراتهم لتصحيح الخلل الذي صار يتصاعد ويهدد وجود المسلمين ودولتهم ..
عمار يحمل الكتاب
انتدبوا من بينهم الصحابي " عمار بن ياسر " ليحمل الكتاب إلى الخليفة ، توجه عمار حاملا الكتاب الى عثمان بن عفان وتصادف دخوله مع وجود مروان وعدد من كبار رجال بني أمية الذين ما انفكوا يلازمون الخليفة بشكل دائم ، قرأ الخليفة عثمان الكتاب الذي يطالب مضمونه بتغيير الولاة على الأمصار من بني أمية وإعادة ما اقطعهم من أرض وما اعطاهم من أموال وعطايا إلى بيت مال المسلمين ، فكر الخليفة بتلك المطالب والجرأة المنفلتة ضد حكمه وقراره ، سأل عمار :
- من ساعدك في كتابة هذا الكتاب ...؟ ، قال عمار :
- نفرتفرقوا فرقا منك .. قال الخليفة عثمان :
- ولك اجترأت علي من دونهم ... من هم ...؟! ، رد عمار بن ياسر :
- لا أخبرك... ،
وهنا حانت الفرصة لمروان بن الحكم ليتدخل محقرا عمار بن ياسر ، قال للخليفة :
- يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود ، قد جرأ عليك الناس ، وإنك إن قتلته أعتبر من وراءه ...
أمر الخليفة وقد استبد به الغضب ان يضرب عمار ، فضربه مروان وتكاثر عليه بقية بنو أمية حتى فتقوا بطنه ، ثم جروه حتى طرحوه على باب دار عثمان ، كان اليوم باردا من أيام الشتاء القارص ، والمطر ينهمر بغزارة ، بقي عمار بن ياسر مغشيا عليه تحت المطر ، رأته أم المؤمنين " أم سلمة " وطلبت من معها إدخاله إلى منزلها واشرفت على علاجه ....
مواجهة عاصفة بين علي وعثمان
تلك الواقعة التي طالت عمار بن ياسر حركة الغضب بشكل أكبر ، وغضب " بنو المغيرة " وكانوا حلفاء عمار بن ياسر ، فلما خرج عثمان للصلاة قطعوا عليه الطريق وأطلقوا بوجهه التهديد القوي ، قال كبيرهم :
- أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لنقتلن به رجلا مهما من بني أمية " كانوا يقصدون بقولهم الخليفة عثمان بن عفان " وتطور الأمر أكثر عندما ألتقى عثمان في المسجد ب علي بن أبي طالب وكان يعاني من وجع في رأسه وهو معصوب الرأس ، قال له عثمان :
- والله يا أبا الحسن ما أدري أأشتهي موتك أم أشتهي حياتك ..؟! فوالله لئن مت ما أحب أن أبقي بعدك لغيرك لأني لا أجد منك خلفا ..فأنا منك كالأبن العاق من أبيه : ان مات فجعه ، وإن عاش عقه ، فإما سلم فنسالم ، وإما حرب فنحارب ! فلا تجعلني بين السماء والأرض ، فأنك والله إن قتلتني لا تجد مني خلفا ، ولئن قتلتك لا أجد منك خلفا ... رد علي بن أبي طالب :
- إن فيما تكلمت به لجوابا ، ولكني مشغول بوجعي ، أقول كما قال العبد الصالح يعقوب : فصبرا جميل والله المستعان على ما تصفون ... ثم وجه له النصيحة طالبا منه لحل المعضلة بأن يقصي مروان بن الحكم ، ويعزل حكامه على الأمصار ، ويحاسبهم ، ويسترد ما وهبهم بغير حق من الأموال والاقطاعات ، ويعمل على إرضاء المسلمين فإن الفتنة أوشكت أن تطل بقرونها وأعداء الإسلام والدولة الفتية الجديدة يتربصون ،ثم قام رجل من الأنصاريسأل الخليفة أمام الناس المتجمعين في المسجد :
- ما بال هؤلاء النفرمن أهل المدينة يأخذون العطايا ولا يغزون في سبيل الله ؟! إنما هذا المال لمن غزا فيه ، وقاتل عليه ، إلا من كان من الشيوخ من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام .. رد الخليفة على المعترض ، فقال :
- أستغفر الله وأتوب إليه أيها الناس ، با أهل المدينة من كان له زرع فليلحق بزرعه ، ومن كان له ضرع فليلحق بضرعه ! فاإنا والله نعطي مال الله إلا لمن غزا في سبيله إلا من كان من شيوخ الصحابة ... عند ذاك سأله رجل من شيوخ المهاجرين فقال :
- فما بال هذا القاعد الشارب لا تقيم عليه الحد ؟! " كان الرجل يقصد والي الكوفة " الوليد بن عقبة " كان سكيرا وحصل أن صلى الصبح بالناس أربع ركعات وهو سكران ، فلما نبهوه عربد وجلد بعض المصلين وقال متوعدا " ان شئتم أزيدكم صلاو زدتكم " وكان علي بن أبي طالب قد أفتى بإقامة الحد على والي الكوفة لفعلته تلك ، فأمر عثمان به فأقيم الحد ، وجلد ثمانين جلدة امتثالا لتلك الفتوى ....
التهديد بنفي عماربن ياسر
لما عولج عمار بن ياسر وشفى من جراحاته ، خرج إلى الناس ووقف في باحة المسجد وقت الصلاة وجهر القول بنقد عثمان بن عفان وعاب عليه أنه خص بني عمه وذوي قرباه من بني أمية بالإمارة على الأمصار ، دون الصحابة ، وأنه ترك مبدأ الشورى ، وما يستشير أهل التقوى ، ولا يستعملهم على أمر من أمور المسلمين ، بل جعل ذلك كله لبني أمية وحدهم ، ثم أنه يدر الأرزاق والضياع والأعطيات على أقوام بالمدينة ليسوا من الصحابة ولا من السابقين إلى الإسلام ، وأهل البلاء فيه ولا هم من ذوي الحاجة ، وفيهم الغلمان والأحداث وكلهم من بني أمية ! ثم إنه ترك مروان يبني القصور من مال المسلمين ويغترف من بيت المال!! " أجتمع الناس في المسجد مؤيدين ما ورد في كلام عمار بن ياسر ، ووصل الأمر الى الخليفة عن طريق مروان بن الحكم ورجاله وأشار على الخليفة عثمان أن ينفي عمارا ، فدعاه الخليفة وهدده إن تكلم بشيء من هذا بعد أن يخرجه من المدينة ، ويواجه ذات المصير الذي انتهى إليه أبا ذر الغفاري ، شكا عمار بن ياسر تهديد الخليفة له إلى علي بن أبي طالب الذي ذهب ليقابل عثمان بن عفان وقال له :
- ياعثمان ! أتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين ، فهلك في تسييرك ، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ، " فقال عثمان :
- " وكان مروانما أنفك يوغر صدره على علي بن أبي طالب " أنت أحق بالنفي منه .. " رد علي وقال :
- رم ذلك إن شئت ..." ولما أنتشر خبر تلك المواجهة المتصاعدة بين الخليفة وابن عم الرسول " ص " بين شيوخ المهاجرين والأنصار شكلوا وفدا ذهب لمقابلة الخليفة معترضا ، قالوا للخليفة بغضب :
- إن كنت كلما كلمك رجل بالحق سيرته ونفيته ، فإن هذا شيء لا يسوغ ، فكف يدك عن عمار بن ياسر ...
-
الغضب يزداد في الأمصار
تزامن مع ذلك اشتداد غضب الناس في الأمصارضد أفعال ولاتهم واتباعهم فجاءت للخليفة وفود منتخبة من مصر والكوفة والبصرة ، جاءوا يحملون سلاحهم معهم ، جاءوا غاضبين يشكون أمرائهم أقارب عثمان ويطالبونه بعزلهم عن الولاية ، وسادت الفوضى في المدينة ،وتوجس علي بن أبي طالب خيفة مما يراه وما يحدث وطريقة معالجة الخلل من قبل الخليفة ، قال لبعض المقربين منه :
- لقد حرك السخط افعال الناس ،إن أعداء الإسلام سيندسون ليشعلوا الفتنة ، ومن يدري ؟! ان الذين تأمروا على الخليفة عمر بن الخطاب " رض " فقتلوه لم يعرفهم أحد قط ... " تصاعد القلق والخوف في المدينة وشعر عثمان بن عفان بإزدياد الخطر من حوله وإن مقاليد الأمور بدأت تفلت من يده ، جاءإلى دار علي بن أبي طالب يستنجد به ويستغيثه ويطالبه ان يقف معه ويرد وفود الأمصار وهم من أهل التقوى ، وطلاب العدل ، والمساكين ، ومن وقع عليهم حيف الولاة ، من وجهاء البلاد ورجالها ... كان عثمان يعرف مكانة علي بن أبي طالب في قلوب القوم الذين يعترضون ،وكيف يتعلقالمظلوم والمسكين ومسلوب الحق به ، ويعرف ابن عفان ان علي بن أبي طالب كما وصفه النبي محمد " ص " إمام المتقين وناصر المظلوم والمحروم ومعين الفقير ، قال علي للخليفة :
- يأ أمير المؤمنين على أي شيء أردهم ...؟ ، قال الخليفة عثمان بن عفان :
- على أن أصير إلى ما تراه لي وتشير عليّ به ...
الغضب يجتاح الأمصار
كانت بداية الثورة العارمة المتوهجة في النفوس والعقول ضد ظلم الولاة ، وقد أدرك الجميع خطر ازدياد الفوضى التي تقود إلى الخراب الكبير وهناك دول وأعداء يتربصوا بالتكوين الجديد ، لقد أسس عمر بن الخطاب " دولة ووضع لها أسس وتقاليد وكان حازما نزيها يحاسب الولاة اشد الحساب والولاة على عهده تمثلت فيهم النزاهة والعدل وهو الذي قال فيه رسول الروم " عدلت فأمنت فنمت " عندما وجده نائما على قارعة الطريق دون حراس أو حاشية مباشرة على تراب الأرض ، هو الذي لقب بالفاروق حيث أمتاز عهده بالعدل والمساواة وتواصل الفتوح ونشر الإسلام شرقا وغربا ، خالف الخليفة الثالث ذاك النهج واندفع لتحقيق مأرب بني أمية الذين استولوا بشكل تدريجي على الأمصار وصادروا قرار الخليفة الذي بات ضعيفا أمامهم وكلما اشتدت به المحن وحاصرته الخطوب لجأ إلى " علي بن أبي طالب " يطلب منه النصح والمشورة والمساعدة في درء الخطر الماثل ، ركب علي ليحقق للخليفة عثمان بن عفان ما أراد ومعه ثلة من الصحابة المعروفين التقى الجموع المعترضة الهائجة والتي تريد دخول المدينة وانتزاع الحكم من عثمان بحد السيف ، حاورهم والكل ينصت إليه ، هم يعرفون منزلته وحكمته وتقواه فهو القائد الاشتراكي المطالب بالعدل والمساواة هو المثل الأعلى للثائر " الغفاري " ، طلب منهم الرجوع إلى بلدانهم ووعدهم خيرا ، أكد لهم ان الخليفة عثمان سيفعل ما ترضون به ويرضي الله ورسوله والمتقين من المسلمين ، سيصلح الخلل ويعزل الولاة الظلمة ، ويقصي مستشار السوء الحاض على الفساد واستلاب أموال الرعية وبيت المال " مروان بن الحكم " كما وعدهم ان الخليفة سيبسط العدل وهو الصالح القنوت التقي ولولا سيطرة آل أمية لكان عثمان امتداد للفاروق عمر ، اقتنع الناس بحديث علي بن أبي طالب الذي خفف من حالة الاحتقان والثورة وابعد الهياج كيف لايصدقوه وهو ابن عم الرسول وبطل الإسلام وإمام التقوى والعدل والمطالب بالمساواة بين الرعية ، كان فتيل تلك المواجهة تقوم على ماحصل للتقي الثائر " الغفاري " هو في ضمائر الناس في المدينة وفي الأمصار ، مازال صدى كلمات احتجاجه يتردد بين أركان المسجد وفي الدروب تتناقله ألسنة الناس كل يوم وكلما لاحت خيوط الظلم والشر ...
النكوص
عاد علي بن أبي طالب إلى دار الخليفة يبشره بوئد الفتنة وان وفود الأمصار وعدوا بالرجوع إلى أمصارهم بشرط أن يغير الخليفة الأمراء المستبدين ويقصي عن مشورته الفاسد " مروان بن الحكم " ويشرف بنفسه على إقامة العدل بين الناس ، سرّ الخليفة بتلك النهاية وتعهد بأنه سيفعل كل ما يشير به علي ابن أبي طالب ، قال علي مختتما مهمته بنصيحة للخليفة :
- يا أمير المؤمنين تكلم كلاما يسمعه الناس منك ، ويشهدون عليك ، ويشهد على مافي قلبك ، البلاد قد تمخضت عليك .. " قال الخليفة عثمان بن عفان :
- ياعلي أن أفعل أكن قد قطعت رحمك واستخففت بحقك ... سأفعل ....
ذهب الخليفة إلى المسجد ، اعتلى المنبر وقال :
" أيها الناس ، أنا أول من أتعظ استغفر الله مما فعلت وأتوب إليه ، فمثلي نزع وتاب ، فإذا نزلت فليأتيني أشرافكم فليروا رأيهم ، فو الله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد ، وما عن الله مذهب إلا إليه ، فو الله لأعطينكم الرضا ، ولأنحين مروان وذويه ، ولا أحتجب عنكم ...
رق قلب علي بن أبي طالب والناس جميعا من الذين سمعوا خطاب الخليفة ، خفقت القلوب يأشواق العدل والأخوة والتراحم ، عاد الخليفة إلى منزله فوجد فيه مروانبن الحكم وسعيد بن العاص وجمع من بني أمية ، فقال مروان :
- يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت ...؟ فقالت زوجة عثمان نائلة :
- بل أسكت يامروان ! إنهم أثموه ، الخليفة قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها ، رد مروان فقال غاضبا :
- ما أنت وذاك ؟ فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضأ .. قالت :
- مهلا يامروان عن ذكرالأباء ، انك لتكذب على أبي ، ولكن والله لولا أن أباك عم أمير المؤمنين لأخبرتك عنه بما لم أكذب فيه ، لقد طرد رسول الله أباك من المدينة ولعنه ... اعرض عنها و قال مروان موجها حديثه للخليفة :
- يا أمير المؤمنين ، أتكلم أم أسكت ... قال الخليفة وقد فرغ صبره :
- تكلم يامروان ....
( يتبع )