(الحلقة السادسة عشرة)
د. شاكر الحاج مخلف
مروان وقبضته
استجمع مروان بن الحكم صبره ونظر إلى الوجوه التي تتابعه وهي تعلم بدقة ما اتفق عليه من أمر مبيت ، قال :
- بأبي وأمي يا أمير المؤمنين ! ، والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع ، فكنت أول من رضي بها ، وأعان عليها ، ولكنك قلت ما قلت حين بلغ السيل الزبى ، والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها ، أحسن من توبة تخوف عليها ، وإن شئت تقر بالتوبة ، ولا تقر بالخطيئة وقد أجتمع بالباب أمثال الجبال من الناس فأخرج إليهم ... قال الخليفة :
- أخرج إليهم يامروان وكلمهم ، فإني أستحي أن أكلمهم ..!، جاءت الفرصة التي كان ينتظرها بن الحكم وقد دار في عقلة ما يصبو إليه ويعيد الخليفة إلى الوضع السابق ، خرج إلى الناس كانوا يركمب بعضهم بعضا وقد سيطر عليهم الفرح فقد حصلوا على وعد قاطع من الخليفة وسوف يرضيهم ، ويكون قريبا منهم ولا يحتجب عنهم ، وكان القول يتضمن تنحية المستشار " مروان بن الحكم " الخليفة عاد ليكون مع الجموع المعترضة ضد أفعال بني أمية ، قرر ان يقطع الطريق عليهم ويفشل كيدهم ويوقف أطماعهم وسرقتهم لأموال المسلمين في تلك الأمصار حيث يحكمون ، وقف مروان ونظر نظرة غضب نحو الجموع الهادرة ، صاحوا يرفضون وجوده ويريدون الخليفة ، قال بن الحكم للناس :
- ماشأنكم به ، قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب بيت المال ، شاهت الوجوه إلا من أريد ، أرجعوا إلى منازلكم ، فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه ، وإلا قر في بيته ، أم أنكم جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ؟! أخرجوا عنا ، والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ، ولا تحمدواغبار رأيكم ، أرجعوا إلى منازلكم فإن والله مانحن مغلوبين على ما في أيدينا ..!....
حالة الجزع
ساد الهرج والمرج ثم أطبق الصمت والذهول على الجميع ، رجع الناس مذهولين من تأثير تلك الصدمة وتغيير الأوضاع وقد استبد بهم الغيظ ، توجهوا إلى دار علي بن أبي طالب ، أخبروه بما حصل معهم ونقلوا له خطاب مروان بن الحكم ، أنفرد وسأل الثقات من المهاجرين والأنصارعن صحة ما جاء بخطاب مروان بن الحكم ، فأكدوا له صحة ما نقل إليه ، وقالوا " قبح الله مروان " لقد تمكن من إزالة الخليفة عن موقفه الذي ألتزم به في المسجد ، وقف علي بن أبي طالب حائرا غاضبا ثم قال للناس :
- أي عباد الله أيها المسلمين ، أني أن قعدت في بيتي قال لي أمير المؤمنين " تركتني وقرابتي وحقي " ، وإني تكلمت فجاء ما يريد ، يلعب به مروان ،فصار ساقه يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن ، وصحبة رسول الله ! ...
مكث الخليفة ثلاثة أيام في داره معتكفا ما خرج استحياءا من الناس ...
مواجهة أخرى بين علي وعثمان
قرر علي بن أبي طالب أن يمضي إليه عندما التقاه قال له :
- أما رضيت من مروان ولا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك ، ويخدعك عن عقلك ، مثل جمل اللعينة يقاد حيث يشاء ربه ، ويسار به !! والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ! وأيم الله إني لأراه وردك ثم لايصدرك ! وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك : أذهبت شرفك وغلبت على أمرك ورأيك "
خرج علي بن أبي طالب من بيت الخليفة محزونا يكاد يبكي أسفا على الحال الذي رمى الخليفة نفسه فيه وما جره إليه مروان ، فلما خرج من عند الخليفة دخلت عليه امرأته " نائلة " ، فقال :
- قد سمعت قول علي لك ، وليس يعاودك ! وقد أطعت مروان حيث شاء ... قال الخليفة لأمرأته :
- فما أصنع ...؟ قالت بحزن :
- تتقي الله ، وتتبع سنة صاحبيك ، فإنك متى أطعت مروان فتهلك ، ومروان ليس له قدر ولا هيبة ولا محبة ، وإنما تركه الناس لمكانة منك ، فأرسل إلى علي فاستصلحه ، فإن له قرابة ، وهو لا يعصي .." أرسل الخليفة رسولا إلى دار علي يطلب منه الحضور ، فقال لرسول الخليفة :
- قد أعلمته إني غير عائد ...!
فلما عرف مروان ما قلته نائلة زوجة الخليفة ضده ، ٌال لها غاضبا :
- يأأبنة الفرافصة... " فردعليه الخليفة زاجرا :
- لا تسؤها بحرف فأسوي وجهك ، فهي تاللله أنصح لي منك ..
أنصرف مروان مهزوما ، ذهب الخليفة إلى دار علي بن أبي طالب يسأله النصح وإعادة الود ، فقال علي :
- أبعد ما تكلمت على منبر رسول الله ، وأعطيت من نفسك ، ثم دخلت بيتك ، يخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك ويؤذيهم ! ؟ والله ما أنا عائد إليك ... قال الخليفة بأسف :
- قطعت رحمي ، خذلتني ، جرأت الناس عليّ ... " رد علي بن أبي طالب منتفضا فقال :
- والله إني لأذب عنك ، بل أنا أكثر الناس ذبا عنك ، ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا ، جاء مروان بأخرى ، فسمعت قوله وتركت قولي واستدخلت مروان ..
المدينة في حالة الغضب
أضطرم الغضب في المدينة وما حولها على الخليفة وأخذ مروان وأتباعه يبثون الدعاية ويحاولون تغيير موقف الناس من الخليفة ، قال الاتباع :
- ان عليا يعيب على عثمان أنه ترك أهل التقوى من الصحابة وولى أقاربه , وعمر صنع هذا ، فولى الذكاء لا أهل التقوى فالدولات لا تقوم على التقوى والورع ، بل على الدهاء وحسن السياسة ..! " ورد كبار الصحابة فقالوا :
- إن عمرا كان يقمع الولاة ولا يسلطهم على الرقاب ، وإن من عزلهم الخليفة من الصحابة هم أهل تقوى ومقدرة وهم قدوة أهل المدينة ، كان عمر يقول لعماله على الأمصار " لست أدع أحدكم يظلم أحد أو يعتدي عليه حتى أضع خده على الأرض ، وأضع قدمي على الخد الآخر ، حتى يذعن بالحق ، ولإني بعد شدتي تلك لأضع خدي على الأرض لأهل العفاف " ولهذا عابه عماله ، أما عثمان فقد استخف به عماله، ولم يرعوا له وقارا ،وكلهم من ذوي قرباه ، فظلموا الرعية ، وظلموا عثمان ، واستفزوا السخط على الخليفة المظلوم ، وجعلوا لأعداء الإسلام سبيلا على أمير المؤمنين ! ، " قال بنو أمية "
- أن عليا وأصحابه يعيبون عليهم الترف ، وما من شيء في الإسلام يلزمهم الزهد الذي ينتهجه علي ،أو الذي أنتهجه عمر أو الذي نادى به أبا ذر الغفاري وعماربن ياسر وابن مسعود ، فقد تغير الزمان ، وحسبهم أن الخليفة نفسه زاهد في أمور الدنيا ، يأكل الطعام الخشن ، وإن أطعمنا خير الطعام ، والذين يدعون إلى الزهد والمال موفورإنما ينسون قوله تعالى " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات " وقوله تعالى " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين أمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" رد عليهم معارضوهم بقولهم " لاحق لأحد في أن يملك ملكا أو يعيش مترفا مستمتعا، إذا كان في الأمة من يعانون من الحاجة مسلمين كانوا أو ذميين وحينئذ يجب على من يملك أن يبذل ماله لإصلاح حال الناس ، وهو أنفاق واجب في سبيل الله ، قال بنو أمية " لا حق لعلي بن أبي طالب فيما يعيبه هو وصحبه على الخليفة " عثمان " من قطعة عطاء ابن مسعود من بيت المال لأنه رأى في توزيع المال رأي علي بن أبي طالب ، أن لوم الخليفة على هذا لاحق لهم فيه ذاك أن الخليفة ندم على فعلته ، بل لقد ذهب يعود ابن مسعود وهو مريض واستشفع عنده امرأته ليعفو عنه ، فلما مات بكاه عثمان وقال " دفنتم والله خير من بقي من صحابة رسول الله ، ثم ان ابن مسعود طرد بعض أهل العراق من مجلسه ، لما جاءوه يحدثونه عن الثورة على عثمان فذكروا القتل ، وقال لهم " أما أنكم إن قتلتموه، فلن تصيبوا مثله !" وزاد بنو أمية قولهم أن عثمان ما ضرب عمار بن ياسر وهو من خير الصحابة ، إلا لأنه خالفه في الرأي وأوشك ان يفتن الناس !! ، ما أراد به الأذى بلضربه ضرب التأديب ، غير أن الضاربين اشتدوا وبالغوا حتى فتقوا بطنه فلا تثريب على الخليفة نفسه ...
التعارض يتصاعد في المدينة
نشب جدال متواصل بين المعسكر المؤيد للخليفة والذين يؤيدون دعوة الغفاري ونهج علي بن أبي طالب الذي ظل معتزلا الناس ويشعر بالأسف لما وصلت إليه أمور الخلافة والولاة على الأمصار ، مرت عدة أيام أضطربت فيها أحوال الناس في المدينة وزادت النقمة على الولاة من بني أمية في الأمصار ، دب الخلاف والصخب وحمل الناس السلاح ، فكر الخليفة في معالجة الموقف واستباق إنفجار بركان الغضب ، اتخذ قراره بدعوة زعماء الأمصار للحضور إلى المدينة ، كما أرسل رسولا إلى علي بن أبي طالب يدعوه للحضور ، رد علي على رسول الخليفة وقال له : " أنه لن يعود فيرى عثمان ، حتى يقصي عنه مروان ، فقد غلبه على حكمته ورأيه ، فأصبح الناس طرا لايأمنون أن يعدهم الخليفة موعدة فيها رضاهم ، حتى يأتي أبن الحكم ، فيوسوس في صدره ، ويظل به حتى يحمله على تغيير رأيه ، ثم يردعنه محبيه وعارفي فضله ، وأصحاب الرجاء في قنوته وتقواه ردا قبيحا منكرا ".....
عودة الغفاري
ظل طيف " الغفاري يدور في المدينة محذرا الناس من تعاظم الظلم في ذات الوقت الذي امسكت الأيدي بالسلاح وصار مطلب الجموع الثائرة تغيير الخليفة والقصاص من الولاة من بني أمية ، تذكر بعض الصحابة ماحدث ذات يوم عندما التفوا حول الغفاري وهم يطالبونه باتخاذ القرار لوضع نهاية للظلم الفاقع الذي يرونه يتعاظم ، قَالَت المصادر : لَمَّا خَرَجَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ لَقِيَهُ رَكْبٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالُوا:
- يَا أَبَا ذَرٍّ قَدْ بَلَغَنَا الَّذِي صُنِعَ بِكَ ؟؟ فاعقد لواء يأتيك رِجَالٌ مَا شِئْتَ ؟؟قَالَ:
- مَهْلا يَا أَهْلَ الإِسْلامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
- "سَيَكُونُ بَعْدِي سُلْطَانٌ فأعزوه مَنِ الْتَمَسَ ذُلَّهُ ثَغَرَ ثُغْرَةً فِي الإِسْلامِ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ حَتَّى يُعِيدَهَا كَمَا كَانَتْ"
ثم روى لهم ما حدث بينه وبين رسول الله " ص " قال لهم :
" أتاني رسولُ اللَّهِ وأنا في مَسجدِ المدينةِ فضَربَني برجلِهِ وقالَ :
- ألا أَراكَ نائمًا فيه .. فقلتُ :
- يا رسولَ اللَّهِ غلَبَتني عَيني ...
قالَ :
- كيفَ تَصنعُ إذا أُخرِجتَ منهُ ....؟
فقلتُ :
إنِّي أرضَى الشَّامَ الأرضَ المُقدَّسةَ المبارَكَةَ ....
قالَ :
- كيفَ تَصنعُ إذا أُخرِجتَ منه
- قلت :
- ما أصنَعُ أضرِبُ بسَيفي يا رسولَ اللَّهِ
قالَ رسولُ اللَّهِ :
- ألا أدلُّكَ علَى خَيرٍ مِن ذلِكَ وأقربَ رَشَدًا قالَها مرَّتَينِ تَسمعُ وتُطيعُ وتُساقُ حتى تلقاني ؟ ....
- وقف في المسجد متحديا وهو يجاهر بإسلامه ، فتكالب عليه عتاة قريس ، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. " سحبوه وضربوه حتى كاد أن يموت، وأثخنوه بجراحات كبيرة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يثنوه عن عزمه، لو كانوا يفعلون بالجبل ما فعلوه بأبي ذر، لكان قد أصبح قاعًا صفصفًا، لكنه بقي صامدًا ، سحب أبو ذر نفسه إلى أن وصل إلى زمزم ، والدماء تسيل من جميع جوارحه، فغسل جميع جراحاته، ونظَّف جسمه من الدم، وكأنه يقول: مرحبًا بدماء الحرية، لقد وجدت هويتي في هذه الدماء، هذه وثيقة إرادتي الحرة، وضريبة العقيدة التي لا تلين أمام زيف الباطل، رغم قوته.
- ثم اتَّجه إلى الرسول (ص)، ليستزيد منه علمًا وتجربة، وليأخذ منه التعاليم والدروس -
- قال (ص) للغفاري: (قل الحق وإن كان مُرًّا) ، و (لا تَخَف في الله لَومَة لائم) ..
صحيح ان الثائر الكبير " الغفاري " أغمض عينيه وأنتقل إلى جوار ربه لكنه ترك صوته هادرا مدويا في الآفاق ، الآن الرجال يحملون السيوف ويقتربون من المدينة والخليفة والولاة من بني أمية ترتعد فرائصهم ، هاهو يعود في قلب كل رجل يتقدم نحو المدينة ليزيح الباطل ويقضي على الظلم ...
( يتبع )