(الحلقة التاسعة عشرة)
د. شاكر الحاج مخلف
القوة الغاشمة
كان مطمئنا الى قوة وهمية تحيط به ، لكن الغضب في عيون أهل الأمصار هو الأقوى ، تلك البطانة وسوء عملها جلبا على الخليفة أفدح الضرر ، قدم إليه عسى أن يجد لديه مجالا للعودة من الحالة المتفجرة ويعود إلى الحكمة ليجمع شمل المسلمين على كلمة سواء ، كان الهدف الرئيسي في بصيرة علي بن أبي طالب يتمثل في قرار إبعاد مروان بن الحكم عن عمل الخليفة وقراره ونصحه وتقواه ، لقد صار ذاك الطامع الطامح يلازمه في الليل والنهار ولا يغيب عنه لحظة واحدة ، حتى زوجة الخليفة " نائلة " تذمرت من ذاك السلوك ، التقى الجبلان كل يعرف موقفه بدقة ، قدم عليا النصيحة وطلب من الخليفة عزل الولاة على الأمصار وان ينظر إلى الأمور بعيدا عن مفهوم القرابة ، قال الخليفة حاسما أمره :
- ياعلي هم أقرباؤك أيضا ... " رد علي حاسما " :
- نعم ان رحمهم من لقريبة ، ولكن الفضل في غيرهم ...بركان الغضب يكاد ينفجر ، والفساد صار في تلك الأمصار كالهواء يدور ... " رد الخليفة فقال :
- هذا كلام وشاية ولم يثبت حصوله .. الأخبار التي تصلني مختلفة تماما .. " قال علي ":
- في المدينة يتحشد أهل الأمصار وقد وحدتهم المصيبة ، أنظر في مطالبهم قبل فوات الآوان ، تلك الجموع تنشد العدل بعد تفشي الظلم والفساد ، جاءوا إليك لتبعد حاشية السوء من حولك ، كانت الفتنة نائمة فأيقظها الولاة من حكام الأمصار وأتباعهم .. أن الخطر ياخليفة المسلمين يوشك أن ينطحهم بقرنيه ، والبلاء سينقض ويعم الجميع لا بد من تغيير سياسة الحكم في الأقاليم والأمصار ...
صم الخليفة أذانه عن ذاك النداء وحاول ان يبتعد ولم يستجب ، ومن جديد وجد علي بن أبي طالب نفسه يرى ذاك الإنفجار الكبير قادم لا محالة ، كان قلبه يشعر باللوعة والأسف ينظر إلى الخليفة بالاشفاق ، لم يكتم تحذيره للخليفة فقال بشكل واضح وقوي وقد فتح الله عليه رؤية ماسيحدث :
- إني أحذرك الله وسطوته ونقمته ، فإن عذابه شديد أليم ! وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتلبس أمورها وتتركهم شيعا ، ولا يبصرون الحق لعلو الباطل ، يموجون فيه موجا ، ويمرجون فيه مرجا ..
الموقف المختلف
سكت الخليفة ولم يجد لديه رغبة في مواصلة الحوار، وشعر علي بن أبي طالب بإن الخليفة بذاك الصمت يقول " كل شيء قد أنتهى ، لن أتخلى عن قراري ولن أضحي بالولاة وليحتج الناس ما شاءوا فقد رسم الله حركة الأحداث .. خرج علي من دار الخليفة محزونا يائسا لم يكن قادرا على إقناع الخليفة الذي بات متشبثا برأيه وقناعته مدافعا عن ولاة الأمصار وما ارتكبوه من ظلم وفساد فاحش ، لقد استنفذ مالديه من نصح ومشورة للخليفة الذي ظل متشبثا بالدفاع عن أقاربهم رغم العيوب الواضحة فيما فعلوا ، في تلك المواجهة أدرك عليا كيف أن بني امية قد استحكموا في السيطرة على فعل الخليفة وكيف صار يحابيهم ، وهو يدرك ان برهم هو امتثالا لأوامر الله ووصايا رسوله " الأقرباء أولى بالمعروف " ، لم يكن الخليفة يريد البطش بالناس ولا يريد التقريع باللوم أقربائه ، لم يكن ملكا ولا قائدا يغزو مدينة أوبلدا ، كانت صورة عمله إماما للناس يستند الى الورع ونصوص القرآن ، لكنهم استغلوا عامل القرابة لديه وتحركوا في السر والعلن ليشددوا قبضتهم على تلك الأمصار والمدن والممالك كانوا يعملون من أجل فكرة السيطرة المطلقة وقد تأكد لهم اختفاء الخليفة ذات يوم ، لا يريدون ان يخرج حاكم آخر من عباءة الشورى فيحاسبهم ويخسروا كل شيء ، والخليفة الثالث لم يصل إلى الخلافة بالقوة وحد السيف بل بالانتخاب من خلال الشورى ، تمثلت فيه صفات كثيرة صالحة للحكم لكن ما جرى فيما بعد غيرذلك ، كان يعطي الأولوية لاجتثاث ما تبقى من سيطرة للروم والفرس تلك القلاع المهمة التي دمرها نور العدل والحرية والتوحيد الذي ظهر من جزيرة العرب ....
أمراء بني أمية
في تغييرات الحالة القيادية اعتمد أمراء بني أمية أسلوبا يساعدهم في قمع الجموع المعترضة او المحتجة أسسوا بموافقة الخليفة جهاز الشرطة حيث تم تطبيق ذات النظام الذي أقامه الرومان والفرس في الشام ومصروبلاد مابين النهرين وبلاد الري وغيرها ، ونقلوا التجربة إلى مواقع أخرى ، صارت لديهم أدوات للقمع والتجسس على الناس وكثرت وفقا لذلك التجاوزات والظلم ، واشتدت قبضة الحكم على الرعية ، تبعا لذلك كانت تصل المعلومات للحاكم من خلال " صاحب الشرطة "عما يدور فيتخذ الوالي القرار .. من القصص المرتبطة بالعسس ورجال الشرطة الحادثة التي وقعت مع عبدالله بن مسعود لمّا بلغه خبر نفي أبي ذر إلى الربذة وهو إذ ذاك بالكوفة، قال في خطبة بمحفل من أهل الكوفة: فهل سمعتم قول الله تعالى: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم.. يعرض بذلك بعثمان، فكتب الوليد " والي الكوفة " بذلك لعثمان فأشخصه من الكوفة، فلما دخل مسجد النبي صلى الله عليه وآله أمر عثمان غلاماً له أسود فدفع ابن مسعود وأخرجه من المسجد ورمى به الأرض، وأمر بإحراق مصحفه، وجعل منزله حبسه، وحبس عنه عطاءه أربع سنين إلى أن مات ، كان الناس ينظرون إلى صاحب الشرطة في تلك الأمصار والممالك على أنه " الغول " المخيف المرعب الذي تزداد رهبة الناس من أفعاله وقراراته ، كان وجوده ومهمته يرتبطان بحماية الوالي ونظامه وقمع المخالف لرأيه وقراره ، وحصلت أحداث كثيرة تم بموجبها ضرب الصحابة وسجن الكثير منهم الذين انتهت حياتهم في السجن ، كان صاحب الشرطة ومن يتبعه راهب للمعارضين مطاردا لحالات الإحتجاج ، وهو صاحب مشورة النفي والمطاردة ، حالة واحدة تمكن فيها علي بن أبي طالب بعد ان تعاظم السخط من قبل أهل الأمصار وجاءوا محتجين لدى الخليفة ، تمكن رغم سيطرة مروان بن الحكم على قرار الخليفة ان يدفع الخليفة لمقابلة وفد أتى من مصر ، رغم ان الخليفة يخشى لقائهم حيث شحن عقله مستشاره السيء ضدهم ووصفهم له بأنهم من أتباع عمار بن ياسر حسب المعلومات المتوفرة من صاحب الشرطة هناك ، وأن قلوبهم مليئة بالحقد والغضب على الخليفة ، لكن علي بن أبي طالب آصر ان يصحب الخليفة لملاقاتهم وقد كان معهم نفر من الصحابة الذين يعيشون في مصر ، وقد نزلوا خارج المدينة إطاعة لرأي علي بن أبي طالب ، وقد شاهدهم وهم يرتدون عدة الحرب كمن جاءوا للقتال ....
أزمة " ابن سريح "
خشي عليا ان يدخلوا الرعب في قلوب أهل المدينة وخاف زيادة الغليان والفوضى ، لكن الخليفة غير مكان اللقاء فدعاهم إلى مسجد المدينة ليلقوه هناك ، تم اللقاء تحدثوا له عن أفعال عامله على مصر " أبن أبي سرح " وكانوا قد قاموا بالشكوى ضده في زيارة سابقة واجتماع مع الخليفة ، استمع الخليفة إلى الشكوى وأتخذ قراره بعزل الوالي " ابن سريح " الذي كان رده ضرب من شكوه إلى الخليفة ضربا أليما وأمر صاحب الشرطة بقتل حامل كتاب الخليفة بعزله ، وعندما شاع الخبر في المدينة أستنكر كبار الصحابة فعل " ابن سريح " واستهانته بحكم الخليفة وقيّم الإسلام ، على أثر تلك الحادثة قام " طلحة " وواجه الخليفة بكلام شديد متهما إياه بالحط من قدر الخلافة والإساءة إلى شرف الإمامة ، قال :
- لقد تقدم إليك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا الرجل ، وهو قد قتل منهم رجلا فأنصفهم من عاملك ..
ألتفت الخليفة إلى علي بن أبي طالب يطلب مشورته ، انتحى بالخليفة ونصحه فقال :
- إنما الرجال يسألونك رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما ، فأعزله عنهم واقض بينهم ، فإن وجب لهم عليه حق فأنصفهن منه ...
تزايدت الشكوى من سلوك عامل مصروظل علي بن طالب وأهل مصر يطالبون بالقصاص من " ابن سريح "الذي امتد بطشه ليشمل أهل الذمة ، اضطر الخليفة أن يعلن عزل أخاه عن ولاية مصر ، أما الصاص منه ، وقتله الرجل من أهل مصر الذي حمل قرار الخليفة بعزله عن الولاية ، سأل الخليفة أولياء الدم ان يعفوا ويقبلوا بالدية التي دفعها فيما بعد من ماله الخاص ، كذلك تم عزل صاحب الشرطة ، كل تلك الوقائع حصلت ومروان بن الحكم يسمع ويرى وقرر ان يحبك خيوط مؤامرة جديدة ، استغل صراحة وفد أهل مصر الذين صارحوا الخليفة وقالوا له دون وجل :
- من عيوب الخلافة أنها تحابي ذوي القربى من بني أمية ، وإغداق الهبات والأموال عليهم ، وإطلاق يدهم حيث عاثوا فسادا وسلبوا أموال الرعية ، والخلافة عزلت كبار الصحابة من أهل الرأي والورع وجاء مكانهم بني أمية حيث شاع الظلم والفساد على أيديهم وبسبب أفعالهم ، الخليفة خصص لهم الكثير من الأراضي للمراعي التي ترعى بها دواب بني أمية وتمنع على الناس ...
وعندما احتدم النقاش ذكروه بقول الله في محكم كتابه الكريم " قل أرايتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله اذن لكم أم على الله تفترون " أضافوا في اعتراضهم ، نريد ان لا يأخذ أهل المدينة عطاءا فإنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله " كانوا بذلك القول يستهدفون " بني أمية " من أعطيات يستحقونها ، وافق الخليفة تحت ضغط قوى الاحتجاج واسترد مبالغ كثيرة قد منحها في ذلك اليوم لبني أمية وشمل ذاك القرار مستشاره الخاص " مروان بن الحكم " وقال للجمع القادم من مصر " وما أبريء نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي ، استغفر الله وأتوب إليه ، " ثم قال لهم :
- أختاروا رجلا أوليه عليكم ... " قالوا بصوت واحد ":
-محمد بن أبي بكر ...
والي مصر الجديد والمؤامرة
" خرج الوالي المنتخب " محمد بن أبي بكر مع وفد مصر ن يحمل كتاب عزل والي مصر " بن سريح " ورافق الوفد ثلة من خيرة صحابة الرسول من المهاجرين والأنصار ليحققوا في أفعال " بن سريح " ويعيدوا الحق إلى نصابه ، حتى إذا بعد الوفد عن المدينة وبصحبته الوالي الجديد إذ هم بغلام أسود على بعير يتعرض لهم ثم يتركهم ، يبتعد ثم يعود إليهم ، قالوا للغلام :
- مالك إن لك لأمر فما شأنك ؟ كأنك طالب أو هارب ..؟! " قال الغلام الأسود :
- أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر ... " قالوا :
- هذا عامله محمد بن أبي بكر ... " قال الغلام :
- ليس هذا أريد ..." أخبروه أنه أميرهم الجديد .. " طلب الأمير محمد بن أبي بكر الفتى ولما حضر قال له :
- من أنت يافتى ...؟ " قال "
- انا غلام الخليفة ... " سأله محمد بن أبي بكر :
- إلى من أرسلك ..؟ " قال الغلام :
- إلى عامل مصر ..." قال محمد بن أبي بكر :
- بماذا ...؟ " قال الغلام :
- برسالة .. " قال محمد بن أبي بكر :
- أما معك كتناب ...؟ " قال الغلام :
- لا ... " قال محمد لمن معه :
- فتشوه ... " فتشوه فلم يجدوا معه كتاب ، ووجدوا معه قصبة فيها شيء يتقلقل ، فحركوه ليخرج فلم يخرج ، شقوا القصبة فإذا فيها كتاب ملفوف موجه إلى عبد الله بن أبي سرح ! ، جمع محمدا بن أبي بكر من معه من المهاجرين والأنصار ، ثم فك الكتاب بمحضر منهم ، فقرأه فإذا فيه " إذا أتاك محمد بن أبي بكر ومن معه ، فأقتل محمد بن أبي بكر ، وأصلب من معه ،أو أقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، حتى يهلكوا وأبق على عملك ، وقر فيه حتى يأتيك رأيي " كان على الكتاب ختم الخليفة " عثمان بن عفان " كان نقش خاتمه " آمنت بالله مخلصا "و " لتصبرن أولتذمن " ، فلما قرءوا الكتاب ، روعوا به ، وعرفوا فيه خط " مروان بن الحكم " مستشار الخليفة وحامل أختامه .. عادوا الى المدينة جميعا وقد ركب عقولهم الذهول ، لا يدرون ماذا يفعلون ، وكيف يواجهون هذه المؤامرة التي تستهدفهم وكذلك تستهدف قيم الدين الإسلامي ، جاءوا إلى دار علي بن أبي طالب في الصباح ، رآهم والشر يتطاير من عيونهم ، وعلى الوجوه غضب فيه شر مستطير ، فقال لهم :
- ماردكم بعد ذهابكم ...؟ سيروا إلى بلادكم صحبكم الله ... " قالوا يغضب شديد "
- ألم تر عدو الله ماذا كتب فينا ..." نهرهم علي بن أبي طالب معترضا وقال :
- الخليفة ماكان عدو الله ، ما بقي اليوم على ألأرض من هو أتقى منه ..." فأخبروه بقصة غلام الخليفة ، وقدموا له الكتاب ليطلع عليه ، قرأ الكتاب واحتار بماذا يرد عليهم .. قالوا له وألحوا بالطلب أن يقوم معهم إلى دار الخليفة ، رد عليهم وقال حاسما :
- لا والله لا أقوم معكم ...
في ذاك اليوم الموشوم بالشر والغضب وصلت مجاميع تحمل السلاح قادمة من البصرة وأخرى قادمة من الكوفة ، جموع كثيرة زحفت نحو المدينة والسلاح في إيديها ....!
" يتبع "