(الحلقة العشرون)
د. شاكر الحاج مخلف
تجمعت جموع الاعراب الذين يحملون السلاح من جميع البوادي والثغور، احاطوا بدار علي بن أبي طالب الذي استغرب الأمر ، سئل زعماء تلك الوفود المحتجة :
- لماذا رجعتم بعد قراركم بالعودة إلى دياركم ، كيف علمتم يا أهل البصرة ويا أهل الكوفة بما لقى أهل مصر ، وقد سرتم مراحل حتى رجعتم ، هذا أمر والله بت في ليل .. قالوا :
- ضع الأمر كيف شئت ، لا حاجة لنا في هذا الرجل فليعتزلنا " يقصدون الخليفة عثمان "... ذكروا أمامه القتل ففزع ، زجرهم زجرا عنيفا ، أقسم لهم سيقاتلهم دفاعا عن حياة الخليفة ، كما أحس علي بن أبي طالب بأن ثمة مؤامرة قد رتبت فصولها في الخفاء ، زاد هرج الساخطين من اهل الأمصار ، قال مع نفسه ببصيرة ثاقبة ان السخط والغضب وحده غير قادرين على تثوير تلك الفتنة ، هناك من يتابع ويراقب إنفجار الفتنة ، فرز أحد الخيوط الواضحة المتعلقة بفعل الصحابة الذين رفعوا صوتهم وأجهروا في تحميل الخليفة كل فساد وفعل ولاة الأمصار ، لقد أرتفع صوت الثائرين وصارت سمعة الخليفة تحت أقدامهم ، ظل يفكر من الذي يريد اختفاء الخليفة ، اهتدى إلى فعل الماكر " عمرو بن العاص " السبب يكمن في ان الخليفة قد اتخذ القرار الصائب عندما عزله ، كان ملكا على مصر من تحت أقدامه تجري أنهار الخير ،بذاك القرار فقد الجاه والثروة والصولجان ، فهو ناقم على الخليفة ، كم مرة جاء إلى دار علي بن أبي طالب يحرضه على وجود الخليفة ، فينهره فيذهب إلى الزبير بن العوام ويوغر صدره ضد الخليفة وعندما يفشل معه يذهب إلى طلحة ، كان عمله يتلخص بتأليب جموع المسلمين ضد الخليفة ، لم يتوقف عند هذا الفعل بل يعترض جموع الحجاج ويبث دعايته السيئة ضد الخليفة مطالبا بنزع الخلافة عنه ، وذات مرة التقى الخليفة يحمل التحريض ضد علي بن أبي طالب ، أنتبه الخليفة لأقواله وقال له زاجرا :
- أتطعن علي بن أبي طالب ، تأتيني بوجه وتذهب عني بآخر ، قال :
- إن كثيرا مما ينقله الناس إليك باطل ، فاتق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك ، قال الخليفة :
- والله قد استعملتك على ظلمك وكثرة القالة فيك ، قال عمرو بن العاص :
- قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ، ففارقني وهو عني راض .. قال الخليفة محتدا :
- أنا والله لو أخذتك بما أخذك به عمر من شدة لاستقمت لي ، ولكنيلنت لك فأجترأت علي !....
كان الخليفة عمر بن الخطاب قد رد إلى بيت المال نصف مال عمرو بن العاص ، ! فخرج من عند عثمان متوجها إلى فلسطين ، فأقام في قصر له في إحدى ضياعه مما اقطعه عثمان ، أنتظر في قصره يتابع ما يجري ويردد " العجب ماتأتينا عن ابن عفان ! ،....
استمرت الفوضى والهياج في المدينة وحول دار الخليفة ، دخل وفد مصر على الخليفة وقالوا له دون تردد :
- خرجنا من مصر نريد قتلك فردنا علي بن أبي طالب ، وضمن لنا النزوع عما تكلمنا فيه ، قابلتناوأجبتنا إلى ما أردنا ، واستعملت علينا محمد بن أبي بكر الذي أخترناه ، فرجعنا إلى بلادنا راضين ندعو لك ، وبعد مسيرة ثلاثة أيام رأينا في الطريق غلامك وكتابك بخط كاتبك وعليه خاتمك تأمر فيه أبن أبي سرح بقتلنا !! .. كأنها صاعقة وقعت على رأس الخليفة ، قال:
- ما كتبت هذا ولا أرسلت أحدا ... " قالوا ":
- بل فعلت ، وهذا هو غلامك وجملك ، وخاتمك ، ..." قال " :
- قد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل ، وقد ينقش الخاتم على الخاتم وغلامي أنطلق بغير علمي ، وجملي أخذه من الدار بغيرأمري ... " قالوا "
- بل نقضت العهد والميثاق فأحل الله دمك ... قال :
- إنما هما أثنتان ، أن تقيموا عليّ رجلين من المسلمين يشهدان أني كتبت هذا الكتاب ، أو يميني بالله الذي لا إله هو ماكتبت ولا أمللت ولا علمت ...
طلبوا منه ان يسلمهم الذي زور الكتاب " مروان بن الحكم " ، فاستمهلهم حتى يشاور عليا ، اكتفوا بذلك وعادوا إلى خيامهم المنصوبة خارج المدينة ،فزع الخليفة هلعا إلى دار علي بن أبي طالب ، دخل عليه وقال :
-يابن عم ، انه ليس لي مترك ، وإن قرابتي قريبة ، لي حق عظيم عليك ، وقد جاء ماترى من هؤلاء القوم ، وأنا أعلم أن لك عند الناس قدرا ، وإنهم يسمعون منك ، فأنا أحب ان تركب إليهم فتردهم عني ..." قال علي " :
- علام أردهم ... ؟؟ " قال الخليفة " :
- على أن أصبر إلى ما أشرت به عليّ ورأيته لي ، ولست أخرج من يديك ... " قال علي بن أبي طالب :
- أني كنت كلمتك مرة بعد مرة ! ثم أخرج فيكلمك سواي ! ان ذلك كله فعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص ومعاوية وعامر بن عقبة ، أطعتهم وعصيتني ... قال الخليفة :
- فإني أعصيهم وأطيعك ...
تطورت المواجهة إلى حدود أبعد ، روى أهل مصر ماكان من أمرهم وأمر الخليفة واتباعه لأهل المدينة ، الذين تيقنوا من الظلم والخديعة فأنضموا إلى وفود الأمصار وشدوا النفير على عثمان وحكمه ،وتطورت الأحداث أكثر عندما دخل على مسار المواجهة حاكم الشام " معاوية بن سفيان " الذي ألتقى بعض الصحابة فقال لهم :
- يامعشر الصحابة ، أوصيكم بشيخي فو الله لئن قتل بين أظهركم لأملأنها عليكم خيلا ورجلا " ثم التفت إلى عمار بن ياسر فقال " ياعمار بن ياسر ، ان بالشام مائة ألف فارس ، يأخذون العطاء، مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم ، لا يعرفون غير العطاء ، لا يعرفون عليا ولا قرابته ، ولا عمارا ولا سابقته ، ولا الزبير ولا صحابته ، ولا طلحة ولا هجرته ، ولا يهابون سعدا ولا دعوته ، فإياك ياعمار ان تقعد غدا في فتنة لا تنجلي ، فيقال هذا قاتل عثمان بن عفان ، وهذا قاتل علي بن أبي طالب ...
عنف علي بن أبي طالب معاوية بن سفيان على ما قال ، تشادا وكثر بينهما الكلام على أثر ذلك ذهب معاوية إلى الخليفة عثمان فسأله ، قال :
- ما ترى ياخليفة المسلمين ، فإن هؤلاء المهاجرين قد طال فيهم مقامي ؟ لقد استعجلوا القدر ... " التزم الخليفة الصمت فأضاف معاوية قائلا :
- معي ثلة من جند الشام فالرأي أن تأذن لي فأضرب أعناق هؤلاء القوم .. قال الخليفة :
- سبحان الله أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه ، ولا ذنب ركبوه !؟ ... رد معاوية فقال :
- فإن لم تقتلهم فأنهم سوف يقتلونك ! ... قال الخليفة :
- لا أكونن أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء ... قال معاوية :
- فأقبل مني أن أرسل لك أربعة آلاف فارس من خيل أهل الشام يكونون لك ردءا وبين يديك يدا ... قال الخليفة :
- أرزقهم من أين ...؟ .. قال معاوية :
- من بيت مال المسلمين .... قال الخليفة :
- وأروع بهم جيران الرسول ..؟ لا فعلت هذا ....قال معاوية :
- ففرق عنك المهاجرين فلا يجتمع إثنان منهم ببلد واحد ، وأضرب عليهم البعوث والعيون حتى يكون دبربعير أحدهم أهم عليه من صلاته ... قال الخليفة :
- سبحان الله ! شيوخ الصحابة وكبار أصحاب رسول الله وبقية الشورى أخرجهم من ديارهم ، وأفرق بينهم وبين أهلهم وأبنائهم ؟! لا أفعل هذا ... قال معاوية :
- فأجعل لي الطلب بدمك إن قتلت ... : قال الخليفة :
- نعم هذه لك إن قتلت ...
مضى معاوية إلى الشام بعد ان حصل على مايريد وكان يعلم بما سيحدث ، وكتب أهل المدينة كتابا يدعو الخليفة إلى التوبة النصوح ، وثبتوا احتجاجهم ، وتوعدوا وأقسموا ان يعطيهم حق الله فإن لم يفعل قتلوه ! وصلت الأمور الى حالة سيئة في المدينة الكل يهدد الخليفة بالقتل وهو حائر لا يدري ماذا يفعل وكيف يرد ، ومن الكتب التي وصلته كتابا من أهل مصر المحتجون في دروب المدينة يقولون فيه :
- ما أنت إلا صادق أو كاذب ،فإن كنت كاذبا فقد استحققت القتل لما أمرت به من قتلنا بغير حق ، وإن كنت صادقا فقد استحققت الخلع لضعفك عن هذا الأمر ، وغفلتك وخبث بطانتك ، ولا نترك هذا الأمر بيد من يقطع الأمر دونه ! " رد الخليفة على كتابهم وقال :
- لن أنزع قميصا ألبسنيه الله ، ولكني أتوب ... "قالوا في كتاب لاحق :
- قد رأيناك تتوب ثم تعود ، ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك ، أوتلحق أرواحنا بالله ، وإن منعك أهلك وأصحابك قاتلناهم ... رد الخليفة وقال :
- أما أن أتبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك ، وأما قتالكم من يدافع عني فإني لا آمر أحد بقتالكم ، فمن قاتلكم فبغير أمري ... " وكان علي بن أبي طالب حاضرا النقاش الأخير ، فلما رأى أصوات رجال الوفود ترتفع في وجه الخليفة وهم يواصلون التهديد له ولا يرعون وقارا لمكانة الخليفة وقنوته وشيخوخته ، قال لهم محتدا :
- الخليفة لايكذب ، أنه ذو النورين ! والله أنه لصادق " ... " ثم قام علي بن أبي طالب غاضبافأخرج جموع المحتجين من باحة الداروعاد إلى داره فلزمها حزينا بشأن ما يحدث للخليفة من الجموع الغاضبة ، أيضا عادت وفود أهل مصر إلى خيامهم خارج المدينة وكأنهم ينتظرون شيئا ما ، بينما سيطر على سكان المدينة الخوف والترقب ، وكان الكل يخرج حاملا سيفه مطالبا الخليفة أن يخلع نفسه من الخلافة ، في دار الخليفة طلب حضور اتباعه لمناقشة التهديد الذي يستهدف الخلافة ، أشار مروان بن الحكم وكان أشد الداعين إلى تثوير الموقف مع المحتجين فطالب الخليفة بأن يطلب المدد من الأمصار ليرسلوا إليه الرجال والسلاح ، وخاصة من الشام التي يحكمها معاوية بن أبي سفيان ، أشار مروان بن الحكم وكان أشد الداعين إلى تثوير الموقف مع المحتجين فطالب الخليفة بأن يطلب المدد من الأمصار ليرسلوا إليه الرجال والسلاح ، وخاصة من الشام التي يحكمها معاوية بن أبي سفيان ، كما اقترح ان يرسل الخليفة إلى علي بن أبي طالب فلا يدعه حتى يرد عنه الناس ، ويعدهم بأن الخليفة سيعطيهم ما يريدون ، ثم يطاولهم ويكسب الوقت ويماطلهم إلى أن يأتي المدد من خيل الشام وسائر الأمصار ، فقال الخليفة ردا على تلك المشورة :
- إنهم لا يقبلون التعلل ، قد كان مني في المرة الأولى ماكان ..." قال مروان بن الحكم ":
- أعطهم ما سألوك ، وطاولهم ما طاولوك ، فأنهم قوم بغوا عليك ، ولا عهد لهم ...
دعى الخليفة علي بن أبي طالب إلى داره وفي عزمه ان يصلح الشأن مع الناس ، واستبعد فكرة مماطلتهم ومطاولتهم والاحتيال عليهم ، كان بتلك الخطوة ينفذ مشورة مروان بن الحكم ، أتى علي بن أبي طالب إلى دار الخليفة فوجد الناس قد تجمعوا عند بابها ،شق الناس إلى داخل الدار وسط ضجيج وغليان ، رأه الخليفة مقبلا قال :
- يا أبا الحسن ، إنه قد كان من الناس مارأيت ، وكان مني ما قد علمت ، ولست آمنهم على قتلي ، فأرددهم عني ، فإني أعطيهم ما يريدون من الحق مني ومن غيري ، وإن كان في ذلك سفك دمي ... تردد علي بن أبي طالب قبل أن يحسم موقفه فقال :
- الناس إلى عدلك أحوج ياخليفة المسلمين ، لن ينفعهم قتلك ، وأني لأرى قوما لا يرضون إلا بالرضا ، وقد كنت قد أعطيتهم في قدمتهم الأولىعهدا من الله ، لترجعن عن جميع مانقموا ، فرددتهم عنك ثم لم تف لهم بشيء من ذلك ، فلا تغرنيهذه المرة من شيء فإني معطيهم عليك الحق .... " قال الخليفة عثمان بن عفان ":
- نعم ، فأعطهم ، فو الله لأفين لهم .... " قال علي بن أبي طالب :
- تكلم كلاما يسمعه الناس ، فيشهدون ويشهد الله على ماقلبك من الإنابة والتوبة ، فإن البلاد قد تمحضت عليك ، ولاآمن أن يجيء ركب آخر من الكوفة أو البصرة فتقول ياعلي أركب إليهم ، فإن لم أفعل تراني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك !!...
لكن الخليفة لم يخرج إلى الناس وفوض عليا عنه ، فخرج علي بن أبي طالب إلى الناس فقال :
" يتبع "