كير غايلز
أفادت صحيفة واشنطن بوست نقلاً عن مصادر لم تسمها بإجراء دونالد ترمب اتصالاً هاتفياً بفلاديمير بوتين، كان من بين أول الأعمال التي قام بها بعد إعادة انتخابه، لكن الكرملين سارع إلى نفي الأمر. ومع عودة ترمب إلى مركز السلطة، علينا الاعتياد على الارتباك والرسائل المتضاربة، فبينه وبين فلاديمير بوتين سيكون من الصعب دائماً أن نتبين من الذي يقول الحقيقة، وإن كان أحدهما يقول الحقيقة أساساً خلال أي وقت من الأوقات.
وفي الحقيقة، جاء رد فعل روسيا على عودة ترمب على صورة مزيج مماثل من الإرباك، يتسم بمديح فاضح وإهانة سافرة. فقد ترافقت تصريحات بوتين في شأن ترمب "الشجاع" التي أذاعتها البرامج الدعائية في التلفزيون الروسي خلال وقت الذروة في معرض الترحيب بدخول ترمب إلى البيت الأبيض، مع بث صور عارية التقطت لزوجته منذ ربع قرن وسط ابتسامات ساخرة من مقدمي البرنامج.
وهذا فتح مجالاً للتكهنات أمام صورة تطور العلاقة بين الرجلين منذ ولاية ترمب الرئاسية الأولى. لكن خبراء ضليعين في الشأن الروسي يعدون هذا النوع من ممارسات فرض القوة "أمراً عادياً بالنسبة إلى بوتين"، وبخاصة عندما يكون الشخص المستهدف في الحملة الدعائية قد برهن، مثلما فعل ترمب، مدى سهولة التلاعب به.
وقد يرغب بوتين في إعطاء الانطباع بأن ترمب يتوسله ومع ذلك سيتأكد من أن رجله في البيت الأبيض يخرج بمظهر جيد في النهاية. لكن المسألة الأهم هي ما يعنيه هذا الوضع بالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا، وكيف يؤثر هذا في أوروبا كاملة.
صحيح أن الاتصال المزعوم مخالف لما يعرف عن ترمب. إذ يزعم أن الرجل استغله ليتخذ موقفاً حازماً من بوتين ويحذره من التصعيد في أوكرانيا ويذكره بالوجود العسكري الكبير للولايات المتحدة في أوروبا. لكن هذا الكلام يتعارض مع موقف ترمب العلني حتى الساعة، ومع تصريحاته وفريقه في شأن أوكرانيا أو ذلك الوجود العسكري عينه.
فقد قال ترمب مراراً إنه قادر على إنهاء الحرب على أوكرانيا "في يوم واحد" إذا أعيد انتخابه. وفسر كثر هذه التصريحات بأنه سيرغم فولوديمير زيلينسكي على الاستسلام ويكافئ بوتين على الغزو بمنحه الأراضي التي يريد الاستيلاء عليها.
وحتى الساعة، لم تبصر "خطة ترمب للسلام" النور رسمياً، لكن لا غرابة في أن أكثر المقترحات تفصيلاً التي ظهرت للآن متوافقة مع رغبات روسيا وكارثية لأوكرانيا.
ولا غرابة أيضاً في أن روسيا لم تعط أية إشارة إلى أنها مستعدة لإبرام تسوية تمنحها أقل من السيطرة التامة على مستقبل أوكرانيا. لكن حتى وقف إطلاق النار الموقت يناسب بوتين تماماً. ولا يتوقع أحد بأن تحترم روسيا شروط اتفاق وقف إطلاق النار، لكن مع ذلك فإنه سيعطي موسكو الفرصة لمواصلة بناء قواتها تمهيداً لموعد استئناف القتال.
كما أن خطة ترمب العظيمة مضطرة أن تأخذ بعين الاعتبار واقعاً غير مريح وهو أن أوكرانيا ترغب في البقاء بالوجود. ولذلك فإن إرغام كييف على الإذعان قد لا يكون ممكناً بكل بساطة، إن كان يعني القضاء على فرص البلاد لتحمل الهجوم الروسي التالي.
كما أن المقترحات التي تقضي بتخلي أوكرانيا عن أراض لمصلحة روسيا بغية شراء السلام تتغاضى إجمالاً عن أن ذلك يشمل بشراً وليس "أراضي" فحسب، وأن هذا النوع من الصفقات يعني التخلي عن جنوب وشرق البلاد التي ستقع تحت نير الاحتلال الروسي المتوحش إلى الأبد. وإن كانت الدول المحيطة بروسيا مؤيدة شرسة للمقاومة الأوكرانية، فلأنها تعلم ما يعنيه ذلك من تجربتها الخاصة.
تمتلك إدارة ترمب القادمة أدوات قوية تمكنها من التأثير في روسيا إن أرادت ذلك. فرفع الحظر المفروض على الضربات بعيدة المدى داخل العمق الروسي باستخدام الذخيرة الغربية، وإغلاق الثغرات في العقوبات التي تتمكن روسيا من خلالها من الحصول على مدخول من الطاقة لقيادة آلة الحرب، وسيلتان فقط من وسائل الضغط التي رفضت إدارة بايدن باستمرار أن تستخدمها.
لكن السؤال الأكبر يدور حول الغاية التي قد تستخدم الولايات المتحدة هذه الوسائل من أجلها، سواء التوصل إلى حل يكون مقبولاً بالنسبة إلى أوكرانيا وإيجابياً بالنسبة إلى سلامة أوروبا وأمنها، أو حل يبدو جيداً برأي ترمب وبالنسبة إلى أميركا، ويزيل المشكلة لفترة موقتة على الأقل.
بالنسبة إلى أوروبا، فإن إنهاء القتال في أوكرانيا لا يقلل من خطر روسيا بل يضاعفه أكثر بكثير، إذ يجمع مسؤولو الدفاع والاستخبارات في أوروبا وأميركا الشمالية على أن روسيا تعد العدة لشن هجوم على دولة عضو في الناتو خلال المستقبل القريب.
ولا يختلف هؤلاء المسؤولون في وجهات نظرهم حول نية روسيا بالهجوم من عدمها، إنما حول توقيتها ومكانها. فالسرعة غير المتوقعة التي أعادت فيها روسيا بناء قواتها البرية أثارت مجموعة من المحاذير في كل القارة من أجل الاستعداد للصراع بصورة أكثر إلحاحاً. وفور توقف أوكرانيا عن تدمير هذه القوات على الجبهة ستتمكن روسيا من إعادة بنائها وإعادة تجهيزها بوتيرة أسرع بكثير، بما في ذلك من خلال توظيف القوى البشرية المرغمة على الالتحاق بالخدمة العسكرية من داخل الأراضي الأوكرانية المحتلة، التي تضاف إليها الآن التعزيزات من كوريا الشمالية.
ولن تؤدي نهاية القتال الحالي في أوكرانيا إلى إحلال "السلام" في غياب أية وسائل فعالة تردع روسيا عن إشعال حرب أخرى.
إن السؤال المطروح خلال الوقت الحالي هو إن كانت أعظم القوى الأوروبية العسكرية تمتلك تلك الوسائل من دون دعم أميركي. وعلى مدار أكثر من عقد صمدت أوكرانيا على الجبهة نيابة عن أوروبا بوجه مخططات روسيا لإعادة بسط سلطتها على مناطق نفوذها السابقة، وتكبدت ثمناً باهظاً ومأسوياً. وهذا ما سمح لباقي الدول الأوروبية أن تكسب وقتاً كي تستعد لمجابهة الخطر نفسه.
لكنني اكتشفت أثناء إجراء أبحاث لكتابي الجديد "من سيدافع عن أوروبا؟" ?Who Will Defend Europe أن معظم دول القارة باستثناء دول المواجهة مثل فنلندا وبولندا ودول البلطيق، أهدرت هذه الفرصة.
وفي المملكة المتحدة خصوصاً، ستشكل الفجوة الكبيرة بين القول والفعل في ظل إدارة الحكومة الحالية والسابقة مصدر عار دائم عندما تخضع قدرة البلاد على الدفاع عن نفسها للاختبار. وسوف تأتي تلك اللحظة خلال وقت أقرب بكثير إذا أرغمت أوكرانيا على الخنوع بمساعدة ترمب.