الغيبية الشيعية؛ أسبابها ومستقبلها
18-تشرين الثاني-2024

علي المدن
اطلع أحد الأصدقاء، ممن أراه واحدا من أكثر العقول حكمة في بلدنا، على ما كتبته مؤخراً حول الانقسامات الشيعية في العصر الحديث وإهمال الباحثين في تاريخ التشيع لدراستها وتحليل أسبابها، فطرح سؤالا مزدوجا حول التشيع ومستقبله المنظور ضمن نقطتين:
1. لماذا تتكرر ظاهرة ظهور المذاهب والفرق الجديدة داخل التشيع؟
2. ما هو مستقبل التشيع في ظل التطورات الفكرية المعاصرة؟
ثم تقدم بجواب محتمل عن هذين السؤالين، فأشار إلى ما يجده واحدا من أهم العوامل الأساسية التي أسهمت في نشوء هذه التيارات، وهو "الغيبية" التي تميزت بها بعض تيارات الفكر الشيعي، مما فتح الباب - بحسب وجهة نظره - أمام ظهور اختلافات جديدة داخل المذهب، معتبرا أن الانفتاح على الفكر المعاصر من شأنه أن يمهّد لانبثاق وعي جديد بشأن التشيع يختلف عن صورته النمطية التقليدية الموروثة.
الحقيقة إنني أتفق مع الرأي المتقدم بشأن مسألة “الغيبية” التي تشكل عاملاً يسهم في ظهور التيارات الجديدة داخل التشيع، ولكن بما أن الغيبية سمة مشتركة بين الأديان كافة، فإن السؤال ينبغي أن يعاد طرحه مرة أخرى في نظري ليصبح: ما الذي يميز الغيبية الشيعية بحيث يجعلها بيئة خصبة للانقسامات؟
لا شك إن هذا السؤال كبير ومعقدا جدا، ولا يمكن الجواب عليه إلا بعد دراسة واسعة وشاقة، على أن تبقى نتائج هذه الدراسة مجرد رأي بحثي محتمل قابل لإعادة النظر بنحو دائم. وفرضيتي في هذا الشأن أن "الغيبية الشيعية" تتمتع بخصائص فريدة تميزها عن أشكال الغيبيات الأخرى، ومن تلك الخصائص:
أولاً: المقامات الروحانية عالية المستوى لأئمة المذهب الشيعي، التي تتجاوز الحدود التقليدية للمكانة الدينية، وتتيح مجالاً كبيراً للتفسيرات المختلفة.
ثانياً: وجود تراث ديني شيعي واسع يحوي نصوصاً متنوعة، وقد تكون أحياناً متضادة، تفسح المجال لظهور مقاربات مختلفة وتفسيرات متباينة.
ثالثاً: مبدأ التقية، الذي يُعزز المرونة في إعادة تفسير تلك "المقامات" و"النصوص" وفقاً لاختلاف فهمنا للظروف التي صدر فيها هذا النص أو ذاك.
رابعاً: عقيدة المهدوية، التي تتيح إمكانية ظهور ممثلين أو نواب أو مُمهدين للمهدي، أو حتى مدّعين بأنهم المهدي، مما يساهم في تعزيز التعدد وظهور التيارات الجديدة.
خامساً: وجود نصوص تشجع على التأويل الواسع، والاجتهاد المتجدد في فهم مقامات الأئمة وإظهار الولاء لهم، مما يسمح بإطلاق عمل المخيلة البشرية، وفي سياق تنافسي مفتوح، من أجل التعبير عن أشكال متعددة من الولاء والمحبة والانتماء.
هذه الخصائص مجتمعةً تعد من بين العوامل الأهم التي تشجع على ظهور تيارات وأفكار شيعية جديدة. وهذا تحديدا ما يجعل "الغيبية الشيعية" مختلفة عن أشكال أخرى من الغيبية الدينية التي تميل إلى التمسك الحرفي بالنصوص والتعاليم الدينية الأولى. على سبيل المثال، نجد أن التيارات السلفية أقل عرضة للانقسام مقارنة بالتيارات الإسلامية الأخرى، وكذلك نجد الديانة اليهودية هي الأقل انقساماً بين الأديان. ويعود ذلك إلى طبيعة تكوين هذه "التيارات" و"الأديان" القائمة على التفسير الحرفي للنصوص. في هذا السياق، يمكننا القول إن المدرسة الأخبارية داخل التشيع أقل عرضة للانقسام مقارنة بالمدارس الشيعية الأخرى، كالشيخية التي تتسم بطابع باطني صوفي، والأصولية التي تفتح المجال للتأويل العقلي والمصلحي.
أما فيما يخص مستقبل التشيع، فإن الفكر والثقافة الحديثة يسهمان بالفعل في تراجع الفكر الشيعي بصيغته التقليدية، ولكن الرهان على استمرار هذا التراجع يظل صعباً؛ فالأمر مرتبط بمدى استيعاب المجتمع للتحولات الفكرية، خاصةً المتعلقة بالوعي التاريخي.
إن الوعي التاريخي يميل إلى تفسير الظواهر والأحداث على أساس أسبابها القريبة والمادية، المرتبطة بالفعل البشري واحتياجات الإنسان الواقعية، والمتجددة، متجنباً بذلك التأويلات الباطنية، التي تقوم على لا تكترث بالترابط السببي القريب والمادي، فتضع عللا وأسبابا افتراضية غير واضحة، وعصية على الملاحظة والقياس البشريين، وتهتم بتماسك واتساق هذه الاسباب المفترضة أكثر من واقعيتها وملاءمتها للفعل البشري ومقاييسه العملية، لهذا يعتبر الوعي التاريخي أحد أهم العوامل التي تحدّ من تأثير الغيبية، وهو ما يمثل أساس القطيعة بين العقل القديم والعقل الحديث.
من هنا، فإنني أرى أن مسألة الابتعاد عن النسخ التقليدية للتشيع مرهون بمدى استجابة قواعده الاجتماعية لهذا النوع من التفكير الواقعي. وهو أمر ليس من السهل تحقيقه. إن تحرير العقل الديني في نسخته الشيعية يبقى أعقد دائما من تحرير هذا العقل في نسخه الإسلامية الأخرى؛ لأن هذه النسخ الأخيرة تتعامل مع جانب إشكالي واحد في العقل الديني، وهو فهم نصوص الشريعة، في حين أن هذه "النصوص" لا تمثل الجانب الإشكالي الوحيد في السياق الشيعي؛ وذلك لأن العناصر المكونة للفكر الشيعي فيها "عنصر إضافي" لا يوجد عند بقية مذاهب المسلمين، وهذا العنصر هو "الإمامة". فبينما يتعامل الفكر الإسلامي غير الشيعي مع “ثقل” واحد وهو القرآن الكريم، ويكون الخلاف معه، ولأول وهلة، في تفسير معنى كونه (وحيا إلهيا) لا يأتيه الباطل، ثم يأتي الخلاف ثانيا حو مناهج تفسيره، فإن الفكر الشيعي يتعامل مع “ثقلين”؛ القرآن والإمام المعصوم، وهذا هو بالضبط ما يجعل تحرير العقل الديني في السياق الشيعي مهمة مضاعفة بالقياس إلى تحريره في السياقات الإسلامية الأخرى، لأن على الشيعي أن يفعل نظير ما يفعله غيره مع القران ولكن مع "إضافة"، وهي أن يفعل ذلك مع (مفهوم الإمامة) أيضا.

لبنان عند ساعة تغيير الدول
4-كانون الأول-2024
مسعد بولس.. نسيب ترامب ورسوله إلى الشرق الأوسط
4-كانون الأول-2024
عودة التوترات في سوريا ليست مجرد تصعيد عابر
4-كانون الأول-2024
صلاح ينافس 5 مرشحين على جائزة لاعب الشهر في إنجلترا
4-كانون الأول-2024
الكشف عن موعد منافسات بطولة العالم برفع الاثقال في البحرين
4-كانون الأول-2024
هيبة الكلمة تتالق في ... مهرجان (گه لاويژ)الـ 27الثقافي في السليمانية
4-كانون الأول-2024
الزراعة النيابية تبحث في وارسو آليات دعم المشاريع الاستثمارية
4-كانون الأول-2024
ائتلاف المالكي يرفض تمرير «العفو العام» بصيغته الحالية وتقدم يرد: اتفاق سياسي
4-كانون الأول-2024
شتاء العدم... تأثير «النووي» في الصحة والبيئة والمناخ
4-كانون الأول-2024
قيادي بحشد الدفاع: 3 ألوية من «المقاومة العراقية» تقاتل في سوريا
4-كانون الأول-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech