رفيق خوري
الهجوم الإسرائيلي بـ 100 طائرة على إيران ليس نهاية اللعبة، وإن تحدثت إسرائيل عن "عملية انتهت" فاللعبة واحدة، سواء ردت طهران ضمن مسلسل الرد على الرد أو امتنعت أو ردت بصورة شديدة الإيذاء للعدو، وهو ما يتمناه بنيامين نتنياهو لجر طهران إلى حرب شاملة لا تريدها الآن خوفاً من الصدام مع أميركا، فما تتمسك به إيران هو حرب شاملة من نوع آخر مع إسرائيل، غير مباشرة من خلال "وحدة الساحات" الممتدة من اليمن الى لبنان وغزة، وما في الحساب الإستراتيجي لهذه الحرب يتقدم على كل الحسابات الأخرى لجهة الضحايا والدمار والخسائر الاقتصادية والاجتماعية والتهجير، ومنذ البدء ووسط تعدد التوصيفات، وصف الدبلوماسي والمفاوض الإسرائيلي المخضرم إيتمار رابينوفيتش حرب غزة بأنها "حرب إسرائيل - إيران الأولى".
لكن توصيف رابينوفيتش ينطبق على الإستراتيجية الإيرانية لا على الإسرائيلية، وهما عملياً راديكاليتان، فالحرب في غزة ولبنان والضفة الغربية كما يراها المرشد الأعلى علي خامنئي "محورية في تغيير مصير المنطقة"، وهو يراهن من بين أمور عدة على أمرين، أولهما أن الفرص متعددة ومفتوحة أمام إيران لتحقيق أهداف مهمة تمهد لمجيء صاحب الزمان، وثانيهما أن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر هو مهمة أجيال على مراحل، والمرحلة الحالية هي الفرصة التي فتحتها عملية "طوفان الأقصى" على يد "حماس"، وحرب غزة ولبنان والضفة على يد إسرائيل لإضعاف إسرائيل وتأكيد عجزها عن حماية مستوطنيها، والحفاظ على "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"حزب الله"، وكل ذلك محطات على الطريق إلى المشروع الإقليمي الإيراني، وإحباط مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بقيادة أميركا لمصلحة "الشرق الأوسط الإسلامي"، حيث اليد العليا للمقاومة بقيادة إيران.
أما نتنياهو فإنه يخوض حرب غزة ولبنان والضفة على أساس أنها "حرب وجود" في مواجهة إيران ومشروعها، وهو يستخدم كل ما في آلة القتل المتطورة من قدرة تدميرية وما في السلوك من وحشية، لا بل إنه وجد في عملية "طوفان الأقصى" التي زلزلت إسرائيل وحرب "الإسناد" من الجنوب اللبناني، فرصة لحرب وجود وإعادة تشكيل المنطقة عبر الحرب على غزة ولبنان والضفة والحوثيين، وفرصة نادرة تفتح باب الحرب الأخيرة لضرب المشروع الإيراني وأذرع "الحرس الثوري" المسلحة في غزة ولبنان والعراق.
كل ما سمعه المسؤولون في بيروت من زوارها الأوروبيين والأميركيين عن استعدادات إسرائيل لحرب شاملة لم يدفعهم إلى فعل أي شيء يجنب لبنان كارثة كبيرة يدفع الجميع ثمنها حالياً، فالقرار ليس في يدهم، والداهية بينهم يعرف أن إسرائيل ستشن حرباً للتخلص من كابوس صواريخ "حزب الله" ولو لم تحدث حرب غزة، أما "حزب الله" الذي استولى منذ زمن على قرار الحرب والسلم، فإنه أكمل "حرب الإسناد" التي صارت حرباً كاملة الأوصاف، لأن التراجع بالنسبة إليه مستحيل، وهو يتصور أن أمامه فرصة لإحداث هزة في إسرائيل، فضلاً عن أن القتال لإسناد "حماس" تكليف شرعي يستحيل الرجوع عنه إلا بتكليف آخر، وفضلاً أيضاً عن أن الأصوليين المتشددين يعتبرون لبنان "أرض الله" لكل فيها نصيب، لا بل إن "وزيراً مثقفاً في حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي وصف لبنان بأنه "وقف الله".
والمقاومة بطبائع الأمور تكون قوة تغيير أو لا تكون، والخلاف مع المقاومة الإسلامية في لبنان يتجاوز نقاش الصواب والخطأ في فتح جبهة الجنوب لإسناد "حماس"، مهما حدث في لبنان وله، إلى سؤال مفصلي: ما هو التغيير الذي أحدثته "حرب الإسناد" ثم الحرب الكاملة؟ هل تقدمت متراً على الأرض في فلسطين؟ وما معنى إعطاء الأولوية للدعوة إلى وقف النار من دون وضوح أي شيء بعده، سواء بالنسبة إلى الأوضاع المأزومة في لبنان أو إلى مصير غزة والضفة؟
وليس قليلاً ما كشفته الحرب، فالمشروع الإسرائيلي مكشوف أصلاً على ألسنة القادة في تل أبيب كما في كتابات المفكرين في المنطقة والعالم، وما زاد انكشافه هو المشروع الإيراني، بصرف النظر عن خطابه الفخم، إذ إن الجانب المهم من إسناد "حماس" هو الحؤول، عبر الحفاظ على شيء من "حماس"، دون سقوط ورقة فلسطين من يد طهران، و"محور المقاومة" وإستراتيجية "وحدة الساحات" عنوانان لمقاومة كل من يعرقل المشروع الإيراني، أميركا وإسرائيل والدولة الوطنية العربية، وهي مقاومة هجومية حين تطلب طهران، ودفاعية ضد أي تحرك نحو الجمهورية الإسلامية، و "كل حياة هي سباحة في بحر اللايقين" كما يقول إدغار موران، لكن خطاب اليقين يملأ الشرق ويلعب دوراً كبيراً في الحروب ويقتل من لا تقتله رصاصة.