عدنان حسين أحمد
تشكّل رواية "تيه الجنوب" لسعد العبيدي القسم الثاني من روايته الوثائقية السابقة "حفل رئاسي" وتُعدّ امتدادًا طبيعيًا لها من حيث الشخصيات والثيمات الرئيسة والثانوية لكنّ الأحداث تنمو وتتطوّر وتصل في خاتمة المطاف إلى نهاياتها الصادمة التي لا تفارق ذاكرة القارئ بسهولة. تتألف هذه الرواية من ثمانية فصول تبدأ بـ "رغبة مكبوتة" وتنتهي بـ "اجتياز الحدود". وعلى الرغم من التفاوت في إيقاع الرواية بشكل عام إلّا أنّ مشاعر وانفعالات بطلها "شامل حسين" تتصاعد في الفصل الأول وتتوتّر في الفصلين الثالث والرابع، وتبلغ ذُروتها في الفصل الثامن والأخير، وهذه التقنية المدروسة تمنح القارئ فرصة للتأمل والراحة والتقاط الأنفاس.لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الروائي سعد العبيدي حاصل على درجة الدكتوراه في علم النفس السريري فلا غرابة أن يطفو إلى سطح ما يكتبهُ بعض المصطلحات النفسية من قبيل "رغبة مكبوتة" حيث تعتلج في ذهن الراوي ومشاعره العميقة رغبة جدّية للانتقام والقصاص من الجلّاد " جاسب السماوي" الذي سامَهُ، مع الرفاق الآخرين، سوء العذاب، بل يذهب أكثر من ذلك حينما همَّ بأن يرتدي حذاء جاسب نفسه ويدوس به على رأسه الفارغ لكنّ الرائحة العفنة المُنبعثة منه حالت دون تحقيق هذه الرغبة الانتقامية الجامحة. كما أراد أن يقتل الجلّاد بطلقة من المسدس الذي حصل عليه هدية من الرئيس الذي كان صديقه المقرّب والحميم لكنه ما إن أراد أن يضغط على زناد السلاح حتى فتحت الطفلة الجميلة عينيها فأخبرها بأنه جاء ليطالب بدَيْن له عند هذا الشخص النائم إلى جوارها لأنه عذّبه عذابًا شديدًا وقبض روح أصدقائه وقبل أن يكمل الراوي جملته الأخيرة أخرجَ جاسب من تحت وسادته مسدّسًا، تلقّاه هو الآخر هدية من الرئيس، وأطلق رصاصة واحدة أسقطت غريمه على الأرض وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة صرخ:"سأقتلكَ في المرة القادمة . . . سيأتي اليوم الذي أتخلص منك إلى الأبد"(الرواية،21). عندها أيقنت زوجته بأنّ الكابوس ذاته قد عاودهُ من جديد؛ الكابوس المُرعب الذي يتكرر دائمًا ويُوقظه من نومه أكثر من مرة في اليوم الواحد. يتمحور الفصل الثاني على فكرة الهروب من الوطن إلى المنفى العربي الأخفّ وطأة من العراق الذي تؤرِّق أهله الكوابيس المفزعة حيث يصرّح بالفم الملآن:"سأتركُ وطني هذا، تاريخي، حاضري، مستقبلي. سأهربُ من نفسي، ومن كوابيسٍ تُقلق منامي، من قناعاتٍ بحاضر ِأمةٍ تبيّن زيفهُ ومستقبل لها سطّره الحالمون في كتبٍ لا تُقرأ، وقالوا عنه بعض حكايات تبيّن أنها وهمٌ ومحض خيال مُنفِّر"(ص23) وسوف يُصرّ الراوي العليم والمشارك في صنع الأحداث على تحقيق فكرة الهروب من الوطن والنجاة بنفسه مع أسرته التي تتألف من زوجته وبناته الست اللواتي يشغلنَ مساحات متفاوتة في هذه الرواية أو "السيرة الغَيرية" التي لا تخلو من بعض إسقاطات الروائي سعد العبيدي على بطله الأثير شامل حسين؛ ابن قريته الحميمة، والصديق المقرَّب إلى الرئيس الذي أغرقوه بالكُنى والألقاب العظيمة التي صنعت منه طاووسًا مطوّقًا بالأخيلة والأوهام المريضة مذ تسنّم سدة السلطة حتى غادرها يائسًا وكسيرًا ومتواريًا عن الأنظار.
جُرح الكرامة الذي لم يندمل
لا يُخفي الراوي سرًا إن قال بأنّ الضربة الأولى التي تلقّاها في باحة السجن وتركت على جبهته جُرحًا لم يندمل هي التي حفّزته على اتخاذ هذا القرار المصيري وأنّ العصا الغليظة التي محت ذاكرته بالمجمل لكنها تركت ما يتعلّق منها بالانتقام والإصرار على المُضي في مواجهة المجهول. ثمة ذكريات مؤلمة لا يمكن أن ينساها الراوي السجين مثل تعرّضه إلى ضربة قوية بقلم الرصاص من يد جاسب عمدًا لتمزيق طبلة أذنه يوم كان نزيلًا في الزنزانة رقم "5". وحينما ردّد جملته المُعبِّرة الغامضة أنّ القائد قد "بلع الطُعم" أدركت "أم شيماء" بذكائها الفطري أنّ زوجها مصمم على فكرة الرحيل إلى المجهول، وأن الطريق سيكون طويلًا ومليئًا بالمفاجآت الكثيرة. كما أنّ الإذاعات العالمية تعزّز هذا الرأي حينما تقول:"إنّ العراق دخل في أتون الفوضى ولن يخرج منها سالمًا"(ص27) فلا غرابة أن يذهب إلى دائرته ويُعدُّ لنفسه هُوية خبير في الكهرباء تسهّل عليه التنقّل والمرور وسط أمواج المنكسرين. تعددت الأسئلة وتكاثرت الآراء بشأن هروبه عن طريق إيران أو السعودية أو شمال العراق وأيهما الأنسب له ولأسرته الكبيرة خاصة وأنّ البصرة قد سيطر عليها المنتفضون بينما تحيطها القطعات العسكرية من الجهات الأربع. لا ينسى الراوي التذكير بأنّ التعذيب بأشكاله المتعددة هو من ابتكارات جهاز المخابرات العراقي الذي كان يُنظِّم لمنتسبيه دورات مكثفة على يد خبراء يوغسلافيين ليتعلموا على أيديهم فنون التعذيب والإذلال النفسي التي تفضي في النهاية إلى تدجين السجناء وكسر إرادتهم أو إماتتهم إن دعت الضرورة لذلك.
يتصاعد التوتر في الفصل الثالث حينما يقع الراوي في الأسْر رغم أنه يحمل هُوية الوحدة العسكرية التي ينتسب إليها النقيب محمد حسين القره غولي مُعززة بنموذج إجازة شهرية ينفعه في الطريق الذي يود أن يسلكه. ورغم أنه اجتاز نقطة التفتيش الأولى بعد أن أقنع الرائد بأنه قادم بمهمة رسمية من قِبل الوزير وبأمر من الرئيس القائد بغية تصليح محطة الكهرباء في الناصرية التي توقفت بفعل القصف المعادي وقد جلب معه عائلته لغرض التغطية والإيهام فنال ثناء الرائد وإعجابه حتى أنه قال له:"لو كان لدينا عشرة من أمثالك لكان العراق بخير"(ص73). لكنه في نقطة التفتيش الثانية أدخل يده في الجيب الأيسر عن طريق الخطأ فظهرت هُوية خبير الكهرباء التي حاول إعادتها لكن الرجل المُلتحي لم يسمح له بذلك وأصرّ على رؤيتها وأخذ يقرأ بصوت عالٍ مليء بالفرح والنشوة:"ما شاء الله خبراء التصنيع العسكري، أعوان حسين كامل في ساحتنا، إنها من علامات الساعة"(ص79). وعلى الرغم من دفاعه المستميت بأنه خبير في وزارة الكهرباء إلّا أنّ أحدهم أكّد بأنه من أعوان حسين كامل، وأضاف ثانٍ بأنه من أعوان الرئيس، وأضاف ثالث بأنه مُرسل للتجسس على الثوار إلّا أنّ الملتحي حسم الأمر وقرّر عرض الأسير على السيد قاسم في سوق الشيوخ حيث يتواجد الموقع القيادي للمنتفضين.
وجبة الطعام الخشبية
يتضاعف التوتر في الفصل الرابع الذي انضوى تحت عنوان "الاقتراب من حافة الموت" حينما يسرد الأسير شامل حسين قصة اعتقاله في سجن "أبي غريب المركزي" إلى أعضاء اللجنة الثلاثة التي تشكّلت لمحاكمته وهم السيد قاسم والحاج محمد والسيد أبو رغيف ويتخذوا القرار بشأن كونه مساعدًا لحسين كامل وسجينًا في الوقت ذاته، فقد ادّعى الأسير بأنه عقيد ركن وبعثي وسفير سابق دخل السجن في 10 آب/ أغسطس 1979م محكومًا بسبع سنوات سجن بتهمة الاشتراك فيما يسمّى بـ "مؤامرة محمد عايش" وكان معه مجموعة تربو على الستين شخصًا حُكم على بعضهم بالإعدام والبعض الآخر بالتعذيب والإماتة بطرق شتّى حيث قُتِل مرتضى الحديثي بحبّة ثاليوم فيما تُوفي حامد الدليمي جرّاء حرقه بالكحول، وقد تعرّض آخرون إلى التعذيب الوحشي الذي قد يصل إلى 16 مرّة في اليوم الواحد. وقد جاء إلى هذه المضارب وفي نيته الهرب عن طريق جيوش الحلفاء الذين قد يساعدوه في تخطّي عتبة المجهول. وقد ذهب أبعد من ذلك حينما تصوّر أن الجنود الأمريكيين والبريطانيين هم أرحم من أبناء وطنه وحزبه. وسوف يتفاقم هذا الشعور في الفصول الأخيرة ويصل إلى حد لعن البلاد ورجمها بالحجارة. لقد أضاف له المنتفضون تُهمًا أخرى من بينها مسؤوليته عن إنتاج الأسلحة الكيمياوية، ووضع خطط للتصنيع العسكري في امتلاك أسلحة تقتل العراقيين وهم نيام، وما إلى ذلك من شائعات تتناسل وتكبر مثل كرة الثلج. وعلى الرغم من قسوة المنتفضين إلّا أنهم أرحم بكثيرة من أجهزة النظام القمعية حيث يقول:"إنّ هؤلاء الثوار الغاضبين ومهما فعلوا أرحم من أولئك السجّانين التعساء، وأنّ الوضع الحالي ومهما بلغت مخاطره لا يصل إلى الوضع الذي يموت فيه الإنسان في كل لحظة ميتة حيوان"(ص99). ويُورد الراوي مثالًا لسرقة هراوة أحد الجلادين والتهامها لسدّ غائلة الجوع بوجبة من خشب! وبينما يسرد الراوي حكايته الغريبة ومعاناته من أبناء حزبه يدخل رجل خمسيني بملابسه الجنوبية الأنيقة ويتعرّف على أبي شيماء ويأخذه بالأحضان قائلًا:"إنك الآن بين أهلك وفي ديرتك"(104) ثم يبادر إلى التعريف بنفسه أولًا فنعرف أنه الشيخ والعقيد منعم القطّان ثم التفت إلى الجمهور وبدأ يعرّفهم على "أبي شيماء" اللواء الركن شامل حسين، المعارض للرئيس الذي سجنه ظلمًا وعدوانا. وعند ذلك أيقن الراوي بأنه محظوظ وأنّ فرصة تحقيق الحلم ما تزال قائمة. وأنّ السيد مازن الذي اتهمه قبل قليل بأنه الساعد الأيمن لحسين كامل يدعوه إلى بيته ويضيّفه بين أفراد أسرته.
لُعبة التمجيد السمجة
يسلّط سعد العبيدي الضوء على شخصية الطاغية ويكشف عن طريقة تفكيره وهذا أحوج ما نكون إليه لكي لا يتكرر الطغيان مرة أخرى ولعل حادثة إلقاء محاضرة عن صدام حسين في مدرسة الإعداد الحزبي قد ضاعفت من عزمه على الهروب لقناعته التامة بأنّ هذا الرجل الذي لا يشبع من مدح الآخرين له والثناء على منجزاته الفكرية المزيّفة فلا غرابة أن يطلب من رفاقه الحزبيين أن يقدموا محاضرات متواصلة عن "دور السيد الرئيس القائد في إعادة تنظيم الحزب بعد نكسة 18 تشرين عام 1963" لمناسبة ترحيل بعض الرفاق إلى أعضاء شُعَب. وبما أنّ الراوي عضو قديم في الحزب رافق الرئيس لمدة طويلة وأُعتقل معه في السجن رقم واحد بعد عام 1964م، لكنه الآن ملّ من لُعبة التمجيد السمجة التي لا تنتهي حتى أنه طلب من ضابط أمن المؤسسة التي يعمل فيها أن يسجّل كل مكالماته لكي ينجو بجلده من فخ التلفيق والمراقبة المستمرة فأخبره بأن التسجيلات قد بدأت منذ وصوله في اليوم الأول لمباشرته وطلب منه أن يأخذ حذره لأن هناك أشياء كثيرة لا يستطيع البوح بها في ظل دولة البعث البوليسية.
تحضر وسائل التعذيب البشعة في مجمل فصول الرواية وربما تكون عقوبة التعرّي من أقسى العقوبات التي يتعرّض بها السجين السياسي لأنّ فيها امتهان لكرامة الإنسان ومسخًا لإنسانيته وخاصة للإنسان الذي ينحدر من أصول ريفية. كما يتضمن هذا الفصل الضرب بالعصي، والهراوات، والأنابيب المطّاطية، والصعق الكهربائي على الأذنين، والمناطق الحساسة للأعضاء التناسلية. يبلغ الترهيب ذروته حينما تصادر الدولة بيوت الرفاق المسؤولين في اليرموك وزيّونة حيث يوزعون لهم شققًا جديدة في الطالبية وينصبون لهم هواتف أرضية لم يطلبونها، فالراوي فقدَ السمع بعد أن ضربه جاسب على طبلة أذنه، لكنهم يصرّون على نصب هذه الهواتف للتجسس عليهم بواسطة اللاقطات الحساسة التي زرعوها داخل الهواتف الأرضية التي تلتقط دبيب الحشرات. كما نصبوا لكل الرفاق المُفرَج عنهم هواتف لم يطلبونها الأمر الذي حفّز الراوي على الهروب من أجل أن يتنفّس، هو وأفراد أسرته، هواء الحرية الذي افتقده طوال حياته الماضية.
يتنبأ الرواي، وهو ضابط سابق، بأنّ هجوم الحرس الجمهوري قادم لا محالة إلى مدن الجنوب ومنها "سوق الشيوخ" التي لجأ إليها وأُسِر فيها لكن العريف حميدي ينفي ذلك ويصف هذه التوقعات بأنها كلام غير دقيق لأن الحرس الجمهوري منشغل بالدفاع عن الرئيس لكن ثمة من يشكك بالعريف حميدي وأنه مندس من قِبل الاستخبارات العسكرية لكي يشيع الفوضى بين المنتفضين. وحينما طلب منه الراوي أن يذهب ويستطلع بنفسه طريق الكوت - ناصرية لزم الصمت فيما وصفه أناس آخرون بأنه استعراضي مهرّج لا يختلف كثيرًا عن الناس الذين ركبوا الموجة من أبوابها الأمنية والدينية والفكرية وبدلّوا جلودهم. لقد وجد الراوي نفسه أسيرًا ثم أصبح ثائرًا بالغصب بينما هو يريد الهروب إلى خارج الحدود مستغلًا الوضع الأمني المضطرب لكنّ المنتفضين طلبوا منه أن يشكّل جهدًا عسكريًا يقوده هو كضابط محترف إلى جانب الريسان والقطّان وأسس الثلاثة "لواء النصر" الذي ذاع صيته وتناقلت أخباره وسائل الإعلام الأمريكية وخاصة خبر تمرده على الرئيس. تحمل الرواية في طياتها انتقادات واضحة حتى للمنتفضين أنفسهم فحينما يسأل المذيعُ عن قائد هذه الانتفاضة يجيبه السيد قاسم "بأن القائد هو شهيد منذ 1400 عام!" أي أنهم وضعوا كل ثقتهم وإيمانهم في الدين بغض النظر عن التفاصيل المذهبية. أمّا من ركبوا الموجة الدينية أو المذهبية فيمكن الإشارة إلى قيادة أخرى للانتفاضة شكّلها حسين البنا، الابن البكر للأسطة حسّون الذي يعمل بنّاءً حيث لفّ عمامة وادعى أنه من جماعة الإمام، وما أكثر الأدعياء الذين يُطلون برؤوسهم ما إن تغيب سلطة الدولة ويتوارى القانون في ظل الفوضى والاضطرابات الأمنية.
يتصل الراوي بالمستوصف الصحي الذي أقامهُ الأمريكان عند مشارف "سوق الشيوخ" ويطلب منهم اللقاء بأحد الضباط لأنه سفير سابق في ألمانيا الشرقية ويروم مغادرة العراق الأمر الذي دفع العقيد الدكتور آدم للاتصال بمقر الفرقة الكائن في قاعدة الإمام علي الجوية وطلب منه إحضار العائلة غدًا لغرض الانتقال إلى المقر العسكري لاستحصال الموافقات الأمنية لاجتياز الحدود. وقد حذره الريسان والقطان وحتى الدكتور مهند من تيه الصحراء وألغامها التي نثرتها الحروب في هذه المضارب المفتوحة، أمّا مُضيّفه الأول السيد قاسم فشجّعه بالآية الكريمة التي تقول "إذا عزمت فتوكّل" بينما أكد الدكتور مهند بأنّ مكانه ليس بين الثوار والمنتفضين وإنما بين طلاب الجامعات الذين يفهمهم ويفهمونه جيدًا ويتفاعلون مع طروحاته الفكرية.
مُناهضة الثقافة الأمريكية
ينطوي الفصل السابع "وهم التحاور مع عزرائيل" على لقاء الراوي بالعميد برادلي، آمر الكتيبة الذي يحصل على الموافقة الرسمية على لجوء عائلة الراوي برمتها إلى أمريكا ونصحه بالتوجه إلى كاليفورنيا لأنّ جوّها معتدل طوال السنة ولا يعاني فيها اللاجئ من مشكلات التمييز العنصري لكن الراوي لم يضع أمريكا في حساباته لأنّ لديه فتيات في سن المراهقة وقد حسم أمره حينما قال:"لا، لا يمكنني الذهاب إلى أمريكا، لم يخطر في بالي خروجنا من بيئة مقيّدة جدًا إلى أخرى منفتحة جدًا"(ص175). كما أنه يحمل ثقافة حزبية مضادة لهذا البلد الذي يعتبره عدوًا للأمة العربية برمتها على وفق المحمولات الفكرية التي تستوطن ذهنه منذ انتمائه لحزب البعث وحتى يوم الناس هذا. وقد أوضح الراوي رغبته في الوصول إلى المملكة العربية السعودية ومنها يتوجه إلى سورية الأمر الذي دفع برادلي إلى القول بأنّ عليه، في هذه الحالة، الذهاب بسيارته الخاصة وأنه سيزوده بمخطط توضيحي للطريق ونصحه بأن يملأ خزان سيارته بالبنزين، وسيزوده بكتاب "عدم تعرّض" نافذ في عموم المنطقة المحصورة بين العراق والسعودية. وفي اليوم الثاني وبعد مسيرة ست ساعات عاد الراوي وعائلته بالاتجاه المعاكس ليستقبله السيد مازن من جديد بينما كان الحرس الجمهوري يتهيأ للهجوم على الناصرية وسوق الشيوخ تحديدًا. يستبدل سيارة الفولفو التي تمزقت إطاراتها بسبب الشظايا بالكورولا فهي أصلح للصحراء وإن كانت أصغر حجمًا من سيارته السابقة الفارهة.
على الرغم من أهمية الأحداث التي وقعت في هذه الرواية كالأسْر والوصول إلى حافة الموت إلّا أنّ الفصل الثامن المعنون بـ "اجتياز الحدود" وما تخلله من بوح صريح، ومكاشفة واضحة لا لبِس فيها هو أهم الفصول قاطبة، وهو استكمال لحقبة العذابات التي عانى منها في السجن وألغت انتماءه للبلد وإحساسه بالوطنية حتى وصل به الأمر إلى رجم العراق ربما بأكثر من سبع حصيات كي يلجم النقمة التي تصاعدت في أعماقه على القائد والحزب والوطن. وسنقتبس بعض المقاطع، وهي كثيرة جدًا، للإشارة إلى حجم الانفعالات والمشاعر المضطربة التي انتابت شخصية الراوي، المُقنّعه بقناع الكاتب نفسه في كثير من المواقف والأحوال. يقول الراوي الذي ابتعد بضعة أمتار عن الحدود العراقية: "وبدأت رمي الحصى باتجاه الوطن الذي خرجتُ منه توًا كمن يرجم الشيطان أو يرجم صداقات لكبار القوم يمثّل بعضهم روح الشيطان وربما قصدتُ رجم العراق الذي اعتقدت خدمته بالانتماء إلى الحزب وعدم قدرته وطنًا للحيلولة دون معاقبتي على تهمة غير موجودة في الأصل"(ص222). ثم يُذكّرنا الكاتب بالتقاليد العراقية القديمة التي تتمثل بأن الراغب في ترك المكان "يرمي سبع حصيات" باتجاهه كي لا يعود إليه ثانية. وهناك منْ يعتقد برمزية هذا الفعل الذي يمكن ترحيله إلى "رجم الشيطان" الذي يمكن أن يمثلّه القائد أو أي واحد أعوانه وجلّاديه كما هو الحال مع جاسب السماوي. وحينما تترجّل زوجته "أم شيماء" وتعاتبه على هذا التغيير المفاجئ الذي طرأ عليه بعد ثلاثة عقود من الزواج لا يجد حرجًا في القول:"إني صرتُ إنسانًا آخرَ، أنا لستُ شامل الذي كنتهُ، نصفي الآن إنسان أعرفه، ونصفي الآخر لا أحسّه ولا أعرفه"(ص224). وعندما تُذكّره بمواقفه السابقة التي نذر فيها نفسه من أجل بقاء الوطن يعترف الراوي:"أنا الذي تغيّرت، لقد غيّروني غصبًا عني في السنوات التي غبتها عنكم مسجونًا في "أبو غريب" اللعين. لم أشأ النطق بكلمة واحدة عمّا أصابني طوالها. لقد منعوني من النطق وحذّروني من الهمس في غرفة النوم التي وضعوا فيها أجهزة تسجيل وهدّدوني بمصير أسود يطالك حبيبتي والبنات فيما لو نطقت، فصار رأسي صندوقًا مُوصدًا على كائنات أبو غريب وخيالات شخوصه الوهمية. . . هكذا عشتُ سجينًا وسجّانًا، سجّانًا لنفسي بأمر من الصديق الذي رافقته عشرين عامًا. لقد أجبرني وشياطينه المنتشرين في كل مكان على سجنها في صندوق حديدي لا تخرج منه الأسرار. دعيني أُفرغ هذا الصندوق . . . دعيني أرجم الطغاة والأفّاقين بنار الحصى التي جمعتها واللعنة التي أعرفها حتى يهلكون"(ص 224). والغريب أننا سنكتشف بأنّ زوجته "أم شيماء" قد تلقت الأوامر نفسها لكنها ظلت مصطفة إلى جانب الوطن وتعتقد بأنّ العراق أكبر من الجميع ومن كل الرفاق الذي خانوا الرفقة وتحولوا إلى شياطين رجيمة تغمر بلاد الرافدين الجميلة بالدماء حيث تقول:"أنا مثلك لم أشأ التكلّم في الموضوع هكذا أفهموني بعد أيام من عودتي والبنات إلى العراق من برلين. لقد أكدوا لي مشاركتكَ في مؤامرة ضد الحزب وأنّ المحكمة قد حكمت عليك بالإعدام وصديقك الرئيس الذي تلعنه الآن خفّض الحكم سبع سنوات نظير صداقتك له وخدمة الحزب والثورة". لقد شعر الراوي أخيرًا بالحرية وصار بإمكانه أن يروي لأسرته كل شيء وأنّ عقوبة السجن الذي تعرّض له طويلًا وغيّر الكثير من قناعاته الجوهرية كانت على فعل غير موجود أصلًا وأنّ السجانين، بما فيهم الرئيس، قد نفثوا غلّهم في أجساد العراقيين وجعلوا منهم حقولًا لتجارب بشعة لا يمكن أن تخطر على بال أعتى المجرمين. وأنّ كل همّ الراوي هو إبلاغ الرئيس برفضه لكل الطرق والأساليب التي أدار بها الدولة والمجتمع. ختامًا يمكننا القول بأنّ الدكتور سعد العبيدي قد برع في رواية "تيه الجنوب" وتألق فيها على الرغم من سلبية البطل ولعل القرّاء يجدون عزاءهم وضالتهم المنشودة في مواقف وآراء زوجة الراوية التي تعلقت بالوطن وظلت مؤمنة فيه ومتشبثة به حتى عندما عبرت الحدود وعادت إلى منافيها العربية والأوروبية على حد سواء.