هارولد ج. لاسكي
الصراع يعني القيام بعمل ثوري لم يهدف إليه العمل في أي وقت من الأوقات، ولكن عندما يتعرض النظام للخطر، نجد أن الحكومة ستقوم بالتدخل بما لها من سلطة إلزامية حتى يستتب الأمن، غير أنها ربما تعرضت هي نتيجةَ تدخلها للثورة. وطبيعي أن تدخل الدولة يقصد منه القيام بذلك باسم المجتمع.
وإن العامل الاقتصادي هو الصخرة التي يقوم عليها البناء الاجتماعي الأعظم، أما السبيل التي يؤدي إليها عقله فتكمن في الصراع الذي يدور رحاه بين الطبقات لامتلاك سلطة الدولة. ولقد دللت على أن المكان المختلف الذي تشغله الطبقات المختلفة في عملية الإنتاج تدفع الاحتياجات والمصالح بالخروج إلى حيز الوجود، وعندئذ تتعارض كل منها مع الأخرى.
وإن التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج هو الذي يحدد معالم النقطة التي أثرناها، وتصبح لهذا التناقض أهميته عندما تحول هذه العلاقات دون التوسع في القوى الإنتاجية، إذ ستشعر كل طبقة من جراء هذا بالمرارة والفشل، ومن ثم سيداخلها الشك في صحة النظام القائم. وسيتطلب هذا تغييرًا في المبادئ القانونية التي تتمسك بها الدولة، وعندئذ تنشأ ضد المبادئ التي تسند النظام القائم مبادئ أخرى جديدة تنحي عليها باللائمة، وتضمر لها العداء. وعندما يكمل هذا التناقض يسود المذهب الجديد، وتتاح الفرصة عندما يتعرض النظام القديم للمقاومة، وعندئذ يكون الاختيار بين الاستسلام له والإطاحة له.
ونحن نرى مثل هذا التطور بوضوحٍ في انهيار نظام الحكم القديم في فرنسا انهيارًا يتسم بالبطء، كما أن التشابه الموجود في مثل هذه الظاهرة يسترعي الانتباه، وأن الموقف الذي تتخذه بالنسبة للقيم الراهنة والمقررات الحالية يعتبر موقفًا عصيبًا يسيطر على المجتمع بأسره، وتحاول الدولة إخماد مثل هذا الموقف بالقوة، بيد أن هذا المجهود لا يكلل بالنجاح دائمًا. وعندئذ تضطر الدولة إلى تقديم بعض الحلول، ولكن بعد فوات الوقت، وعندئذ يقلق بال السلطة التي بيدها الحكم، وتحاول جاهدة أن تبقي على النظام القديم بإبطالها هذه الحلول إبطالًا نهائيًّا، وتعود النواحي الحاسمة للنظام القديم من جديد، ولكنها لا تدوم طويلًا، ولا يدوم أوج السلطة طويلًا، ولكننا نستطيع أن ندرك في الأزمة التالية أن أسس الدولة قد قصم ظهرها.
وتجدر بنا مناقشة طبيعة الصراع الطبقي وخصائصه في المجتمع على ضوء هذه الاتجاهات؛ إذ إننا نجد هذا الصراع في كل مجتمع وهو يتميز بناحيتين هما تقسيم العمل والملكية الشخصية لوسائل الإنتاج. وقد ذهب ماركس إلى أن تطور الصناعة التي تقوم على الرأسمالية سيقسم المجتمع إلى طبقتين كبيرتين كل منهما تصارع الأخرى، فالطبقة الأولى هي الطبقة البرجوازية التي تملك أدوات الإنتاج التي تستخدم سلطة الدولة في حماية المصالح التي تتمتع بها. أما الطبقة الثانية فهي طبقة البروليتاريا التي تبيع قواها لتقتات منها وتعيش، إلا أن ذلك الوضع يزيد مركز هذه القوى سوءًا، ويرجع هذا إلى أن الرأسمالية قد حيل دون استمرار توسعها، فأخذت تتجه نحو الاستيلاء على سلطة الدولة حتى تدخل بعض التغييرات على العلاقات بين الطبقات، ولم ينكر ماركس وجود طبقات أخرى في المجتمع، أو أن هناك بعض الجماعات الهامة التي تضم أصحاب الأراضي وأصحاب الحِرف أو رجال الأعمال والبيروقراطية الرسمية. ولقد دلل على أن الدور الذي يقوم به كل منها في العملية الإنتاجية كان له أكبر الأثر في الرأسمالية؛ إذ إنها تجعل منها عملًا تاريخيًّا يقوم بتحديد العلاقات بين الطبقات، وهذه هي المهمة الملقاة على عاتق الطبقة البروليتارية، كما أن العمل التاريخي الملقى على كاهل الطبقة البرجوازية هو إتمام للثورة السابقة التي قضَت على دولة الإقطاع. أما في الأزمة الأخيرة فنجد أن هذه الطبقات (وهي عديمة القيمة نسبيًّا) يجب عليها أن تختار بين المصالح الأقوى في هذا الصراع.
وإن أول سؤال يجب أن نوجهه إلى أنفسنا هو ما إذا كان هذا العداء الطبقي أمرًا حقيقيًّا. ولقد قيل لنا كثيرًا: إنه نتيجة للخطأ الذي ترتكبه سياسة الحكومة، أو أنه يرجع إلى الفشل في إدراك وحدة الهدف التي تتغلغل في أعماق المجتمع تاركة وراءها مظهر العداء. ويتوالى حدوث الإضرابات غير أن فن التحكيم الذي يتسم بالحكمة ييسر السبل لإيجاد حل عادل لها، وأن أصحاب الأعمال والعمال يتوقون إلى تحقيق هدف مشترك، وذلك بالنهوض بمستوى إنتاج الشركة؛ لأن ذلك يرفع مستوى الأجور، كما أن الإدارة الحكيمة تستطيع معرفة الإمكانيات الموجودة في المجتمع.
ويعتبر هذا تفسيرًا يتسم بالمثالية للنمط الاجتماعي الذي يستبعد كل ما هو أولي، وأود أن أتناول في هذا المجال موضوع المجتمع الصناعي الذي نعرفه، واضعين نصب أعيننا إجراء التغييرات الضرورية وهي صورة مشابهة له، ومن الممكن تحديدها ووقفها على أنواع منظمات اقتصادية سابقة، ونجد في بعض الأحيان أن هناك بعض المجتمعات التي تهيمن فيها طبقة صغيرة على أدوات الإنتاج، وأن مصلحتها في الإنتاج الاجتماعي الإجمالي تختلف من حيث التوزيع عن مصلحة الجماهير؛ إذ طالما كان الإنتاج الاجتماعي الإجمالي محدودًا نجد أنه كلما زادت الأجور قلت مكاسب هؤلاء الذين يسيطرون على أدوات الإنتاج وأرباحهم، وطالما كان الباعث على الإنتاج هو القدرة على الكسب كما تشير فروض المجتمع القانونية، نجد أن مستوى الأجور ستحدوه علاقة هذا المستوى بالنسبة لمستوى المكسب الذي سيدفع أصحاب رءوس الأموال إلى استخدامها لتحقيق الهدف الذي يرمي إليه الإنتاج. وعندما تكون لدينا أركان النواحي الرأسمالية نجد أن الفشل في الحصول على بعض المكاسب والأرباح يعني إما البطالة أو تخفيض الأجور، ومن الواضح وجود عداء أساسي تتضمنه ملكية وسائل الإنتاج بين مصالح الرأسمالية من جانب، ومصالح العمل من جانب آخر.
ويمكن القول بأن هناك عداوات اجتماعية أخرى، ولكن ليس من الضروري أن تؤدي إلى النتائج السياسية التي ذكرتها من قبل، فهناك صراع بين مصالح أصحاب الفحم وأصحاب الزيت وبين المحال الخاصة والجمعيات التعاونية، وكلنا يعرف وجود التعارض التاريخي بين الريف والمدينة، وبين الكنائس والنقابات، وإننا لا نتوقع مطلقًا أن تقوم مشاحنات بين أصحاب الفحم والزيت لامتلاك الدولة؛ إذ نحن على يقين من أننا سنصل إلى إيجاد التعاون والتكييف بين المصلحتين، فلماذا إذن ندلل على أن الوضع يختلف اختلافًا تامًّا عندما يحمى وطيس العداء بين رأس المال والعمل؟
والإجابة على ذلك من صميم الموضوع الذي أناقشه في هذا المجال؛ لأنه يكمن في فلسفة الدولة، ففي أي مجتمع من المجتمعات حيث يمتلك بعض الأفراد أدوات الإنتاج يترتب على استخدامها، وبالتالي على توزيع الإنتاج، سوء حالة الطبقة العاملة، ويرجع ذلك إلى عدم اشتراك هذه الطبقة في أدوات الإنتاج. وعلى العموم يمكن الوصول إلى أي اتفاق بشأن تلك العداوات الاجتماعية الأخرى، فربما يتحد التنافس الذي تدور رحاه بين الرأسماليين أو اتحاد النقابات، أو يختفي هذا التنافس. كما أن المنازعات التي تقوم بين الكنائس لا تعني استغلال طبقة لطبقة أخرى.
أما الاختلاف بين الريف والمدنية فيعتبر أمرًا هامًّا، وجدير بالملاحظة أنه عندما يقوى هذا الاختلاف ويشتد -كما نجد في أوروبا الشرقية اليوم- يأخذ هذا الاختلاف طابع الصراع من أجل سلطة الدولة. ويمكن الحد من اضطراب النواحي الزراعية، كما يشير التاريخ الإنجليزي الحديث دون إجراء أي تغيير على الفروض القانونية التي يقوم عليها المجتمع الرأسمالي. وهناك فارق بين كل العداوات الاجتماعية الأخرى، إلا أن الفارق بين رأس المال والعمل يمكن إدراكه عن طريق إدخال بعض التغييرات على هذه الفروض القانونية.
ويمكن القول إن هناك بعض العداوات الأخرى، ونجد مثلًا العداء المستحكم بين الزنجي والرجل الأبيض في الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، أو العداء الموجود فعلًا بين العمال الكاثوليك، والعمال البروتستنت في دبلن. وليس هناك ما يدعو إلى أن ننكر أنها ستقوم بالحيلولة دون التماسك الطبقي، فلقد تعود أصحاب الأعمال على تقسيم عمالهم إلى فئات تميزهم في النواحي العنصرية والقومية.
غير أن وجود مثل هذه العداوات لا يعني القضاء على العداء الموجود بين رأس المال والعمل في المجتمع الحديث؛ إذ إن وجوده يحد من تعبيره الكامل. ولقد أوضحت الثورة الروسية أن الوعي الطبقي يثير بعض الاختلافات العنصرية أو المذهبية أو القومية التي تحاول دائمًا الحيلولة دون ظهورها، وإننا لا نستطيع أن نحدد الملابسات تحديدًا دقيقًا، ولكن ما نستطيع قوله هو أنه مهما حاول نظام الإنتاج أن يحول بين الطبقة العاملة، وما تتلقاه نتيجة المجهود الذي تبذله، والذي ننظر إليه على أنه أمر معقول، نجد أنه يبحث عن الوسائل والسبل الكافية لإجراء أي تغير على بنيان المجتمع الأساسي.
وطبيعي أن أي حق يخول للقيام بهذا المجهود سيعتمد على نواحي عدة متشابكة ومعقدة، فما من شك في أن النضوج السياسي لأي شعب ونوع الحكومة التي يعيش هذا الشعب في ظلها، وكذلك سلطة الهيئات الدينية والتأثير السيكلوجي نتيجة للنواحي العنصرية - كل ذلك مدعاة للاختلاف، وإن المجتمع الذي يأخذ في التوسع من الناحية الاقتصادية كالولايات المتحدة مثلًا قبل الكساد الأعظم سيحس بشدة الصراع الطبقي، ولكن ليس بالنسبة التي تحس بها بريطانيا منذ الحرب، فطالما يدفع نظام الملكية الخاصة في وسائل الإنتاج إلى التقدم في أحوال الطبقة العاملة، هذا التقدم الذي يحقق أماني العمال المعترف بها سيجعل هؤلاء العمال يتقبلون وضع الدولة كما هو، ولكن عندما يقف هذا التقدم، نجد أن العمال سيُثار فيهم وعي ثوري، وسيحاولون دائمًا تحقيق موجبات رضاهم، فإذا لم يتيسر لهم ذلك في ظل نظام علاقات الملكية نجدهم يحاولون استبداله بنظام آخر، ونحن نعرف أن بديل الإصلاح هو الثورة.