هشام اليتيم
خلال مسيرته السينمائية الطويلة التي امتدت أكثر من قرن، تجلى دور الأب الحنون سينمائياً في ثلاث صور رئيسة واكبت عبرها السينما والفنون تغيرات الزمن وروح العصر. وبدأ دور الأب الحنون في السينما العالمية والعربية من خلال الصورة النمطية الأولى وهي صورة الأب الكادح الفقير الذي يعاني قسوة الحياة ويكون قادراً في الوقت ذاته على رعاية وحماية أسرته وأبنائه.
بعد ذلك بعقود قليلة، ظهرت صورة الأب الحنون من خلال متلازمة الشر المطلق، فهذا الأب يكون أيضاً رجل عصابات أو تاجر مخدرات أو قاتلاً لا يعرف قلبه الرحمة. أما الصورة الثالثة للأب الحنون وهي الأحدث، فظهرت في السينما الأميركية بعد تسعينيات القرن الماضي واستمرت حتى يومنا هذا، وهي صورة الأب "غير الحقيقي" الذي يتمكن من تعليم أولاده طريقة كسب المال وتحقيق الثروة.
منذ عشرينيات القرن الماضي، تداولت السينما العالمية متلازمة الأب الحنون بناء على فكرة ساذجة حصرت دوره في زاوية الأب الفقير الذي يعاني قسوة الحياة باستمرار، مما رسخ صورة نمطية مفادها بأن الأب الحنون هو بالضرورة الأب الفقير الكادح. وبعد عقود عدة صححت السينما هذا المفهوم الساذج وقدمت أدواراً جديدة عن الأب الحنون ولكن ضمن مفارقة الشر المطلق، ففي فيلم السبعينيات الشهير "العرّاب" نرى الأب رجل عصابات وتاجر مخدرات وقاتلاً لا يعرف الرحمة. وبعد عقدين من الزمن ظهرت كتب ومؤلفات غربية أجبرت السينما على التعامل مع هذا الدور بواقعية أكبر، فقدمت السينما العالمية والعربية الدور ذاته للأب الحنون ولكن من خلال متلازمة جديدة مفادها بأنه هو من ينجح في تعليم أبنائه كسب المال وتحقيق الثروة الطائلة. من خلال متلازمة الأب الفقير الذي يضحي من أجل أسرته وأبنائه، استمر تداول دور الأب الحنون في السينما العربية والعالمية لعقود عدة، وفي تسعينيات القرن الماضي انتشرت مجموعة من المؤلفات والكتب الفكرية غير الروائية في الولايات المتحدة، وبناء على ذلك ظهرت متلازمة جديدة لهذا الأب، فوفق كتاب "الأب الفقير والأب الغني" لروبرت كيوساكي، هو الذي يكون قادراً على تعليم أبنائه كسب المال الوفير وصولاً إلى تحقيق الثروة. وفي هذه المتلازمة لا يشترط أن يكون هو الأب البيولوجي أو الحقيقي، بل إنه أب بالتبني أو أب لصديق، لكنه مع ذلك يكون أقرب للابن من أبيه الحقيقي.
عام 1921، قام تشارلي تشابلن بدور الأب الحنون من خلال فيلم "الطفل" الذي يحكي قصة رجل فقير تبنى رضيعاً عثر عليه في الشارع، وبذلك دشنت السينما العالمية مرحلة الأب الحنون بوصفه رمزاً للتضحية.
واحتكر الفنان المصري حسين رياض هذا الدور خلال مسيرته التي امتدت لما يزيد على أربعة عقود وحتى عام 1965، إذ ظلت السينما العربية والعالمية تقدم هذا الدور الصعب من خلال متلازمة وحيدة هي الأب الحنون الذي يعاني الفقر وقسوة الحياة، وعلى رغم ذلك يحافظ على رباطة جأشه ويقدم جرعة كبيرة من العواطف الجياشة تجاه أسرته وأبنائه.
يمكن القول إن تقديم هذا الدور من خلال هذه المفارقة استمر فنياً وأدبياً حتى مطلع الألفية الثانية ضمن تعديلات طفيفة، إذ شهدت السينما بعدها نقلة كبيرة ومفاجئة أدت إلى انقلاب هذا المفهوم كلياً، لتظهر أعمال عالمية وعربية خرجت على قدسية هذه المتلازمة وقدمت دور الأب الحنون من خلال مفارقة الشر المحض، وكان من أشهر الأعمال التي أسست لتلك المرحلة فيلم الجريمة الأميركي "العراب" أو "الأب الروحي" (1972) للمخرج فرانسيس فورد كوبولا وبطولة مارلون براندو وآل باتشينو، فيما أدى ممثلون عرب هذا الدور بروح مختلفة قليلاً وأشهرهم زكي رستم، وصولاً إلى مرحلة الأب الحنون (حسن حسني) الذي عكس أحدث تحولات دور الأب بما يواكب تغيرات الزمن والموضة. وعرف الفنان زكي رستم بأدوار الشر، وعلى رغم ذلك أدى في فيلم "لن أبكي أبداً" للمخرج حسن الإمام عام 1957 دور الأب الحنون ضمن صيغته التقليدية، فـرستم هو الباشا المتسلط على الفلاحين الذي لا يتردد في حمل السوط ليجلد به ظهر كل من يعصيه من هؤلاء الضعفاء المقهورين، ومع ذلك هو الأب الحنون لابنته الوحيدة "هدى" التي تؤدي دورها الفنانة فاتن حمامة. وتكمن أهمية هذا الدور في أنه رسخ المفارقة القديمة ضمن عمل واحد. فالأب الحنون في هذا العمل يظهر بوضوح أكثر بعد أن يخسر ثروته ويجبر على العمل أجيراً أو موظفاً في عزبة ابنته، مما يعني أن الأب الحنون هو بالضرورة الأب الفقير المكافح وليس الأب الثري صاحب الأموال الطائلة. وعام 1997 نشر في الولايات المتحدة كتاب "الأب الفقير والأب الغني" لروبرت كيوساكي، وصنف الكتاب بوصفه عملاً فكرياً غير روائي، وتضمن مجموعة من النصائح التي يقدمها الأب الحنون إلى أبنائه وتتعلق تحديداً بفكرة تأهيلهم لكسب المال الوفير وصولاً إلى تحقيق الثروة. وتكمن أهمية هذا الكتاب وغيره من الأعمال المشابهة في أنها غيّرت صورة الأب الحنون إلى الأبد. فهو ليس الأب الحقيقي بالضرورة وإنما الذي يدل أبناءه على طريق الثراء، لذلك يذهب كيوساكي إلى والد صديقه الرجل العصامي المنهمك في عمله التجاري ليتعلم منه بدلاً من والده الحقيقي الأكاديمي. وعام 2017 قدم المخرج المصري بيتر ميمي مسلسل "الأب الروحي" وهو عن ملحمة الأب الروحي العالمية، وأدى دور البطولة في العمل الفنان محمود حميدة، بمشاركة كل من سوسن بدر وأحمد عبدالعزيز إلى جانب مجموعة كبيرة من النجوم العرب والممثلين الشباب. وجاء المسلسل في سياق التحول الكبير عربياً في دور الأب الحنون، إذ تسرب المفهوم الغربي إلى الثقافة والسينما العربية ليحدث تحولات كبيرة في دور هذا الأب واقعياً وفنياً.