عامر بدر حسون
يظن غالبية العراقيين ان الدول المتحضرة وصلت للديمقراطية بطريقة سهلة وسلسة لان الناس عندهم كانوا "غير شكل" واكثر تطورا منا.
لكن الواقع يقول ان حالة كثير من البلدان كانت اسوأ من حالتنا بكثير.
وقبل ربع قرن تقريبا نشرت في مجلتي "مجلة الايام" بعض المقالات والوثائق الطريفة عن هذا الموضوع، وفيها معلومات موثقة عن "التطور والتحضر" تستحق ان تقدم للأصدقاء المستعجلين الذين يعتقدون ان التحضر والديمقراطية هي اشياء يمكن ان نحصل عليها بكبسة زر.
فقد كانت بريطانيا، وهي اعرق الدول بشغلة البرلمانات والديمقراطية، تشهد في كل انتخابات مشاهد واحداث يمكن تسميتها بالفضائح.
ولم يكن غريبا ان تجد لوحة علقت في واجهة حلاق او بقال او حداد مكتوب فيها:
"لم ادل بصوتي بعد"!
وهو اعلان منه لبيع صوته لمن يدفع اكثر دون ان يقع تحت طائلة القانون الذي يحرم بيع الاصوات في الانتخابات.
وقد لجا النواب الى البار والى الكنيسة والى كل وسيلة لضمان حصولهم على الاصوات، وكان المرشحون يجعلون الخمرة تسيل مجانا في البارات للحصول على اصوات المواطنين، وكان لكل نائب متعهد او اكثر يقوم بهذه المهمة فيسقي الناخبين الخمرة ويصطحبهم في اليوم التالي الى مركز الانتخاب!
ويقدم الروائي الانكليزي الشهير تشارلز ديكنز تفصيلات عن هذه العملية في روايته الاولى "اوراق بيكويك" التي نشرها عام 1836 فيقول:
"ذكر المستر ويلز للمستر بيكويك ان اللجنة كلفته بإفاقة السكارى الذين اضطرهم الخصوم الى النوم ودفعت اليه شلنا عن كل "راس"!
ودهش بيكويك واستزاد محدثه ايضاحا فقال:
كان الناخبون نائمين لا حراك بهم، فكنا نسحب الرجل من ساقيه ونضعه تحت حنفية الماء البارد حتى يفيق!
فقد لجا انصار المرشح ضدنا الى فتاة البار فرشوها بالمال لتقدم الخمر المغشوشة والممزوجة بثمرة "اللودانم" الى انصارنا السكارى فلا يستطيعون الصحو من نومهم والذهاب للانتخابات"!
وهكذا كان الامر لوقت طويل:
فمرشح يدفع ثمن الخمرة واخر يدفع ثمن الصحو منها!
ومن الطبيعي ان يلجا المرشحون للكنائس كي يقوم القساوسة بتحذير الناس من بيع الاصوات وحثهم على الورع والتقوى.
وقد جاءت النتائج سريعة ولكن بالمقلوب!
فبعد هذه الخطب والمواعظ رفع الناخبون ثمن اصواتهم الى الضعف وكانوا يقولون لمتعهدي شراء الاصوات:
كنا نبيعكم اصواتنا بثمن زهيد.. لكن بعد ان اخبرنا القساوسة ان بيع الاصوات معصية قررنا ان لا نبيع الا بضعف الثمن السابق!
وكان المرشحون يعدون ناخبيهم بتعيينهم، بعد الفوز بالنيابة، مقابل اصواتهم، ومن اشهر تلك العمليات ما قام به اللورد "لوفتس" فهو وعد احد الفلاحين بتعيين ابنه عريفا في الجيش مقابل ان يدلي هو وعائلته واصدقائه بأصواتهم لصالحه وهو ما حصل.
وعندما ذهب اللورد للوفاء بوعده فوجئ ان العريف لا يمكن منحه هذه الرتبة الا بعد مضي ست سنوات على خدمته في الجيش!
فبقي حائرا وسأل عن الرتبة التي يمكن التعيين بها من البداية ودون انتظار، فقيل له ان الضباط يعينون من البداية ضباطا ولا يحتاجون لمضي مدة في الخدمة قبل التعيين.
وعلى هذا قدم اسم ابن الفلاح وعينه ضابطا!
وبقي الناس في القرية يتحدثون عن وفاء النائب لناخبيه بأكثر مما وعدهم وهم لا يعرفون لماذا؟!
وفي العام 1883 صدر قانون انكليزي آخر اكثر تشددا وصرامة في منع بيع الاصوات، وصار الناس من بعده يرون المرشح المحترم بطاقمه الانيق وهو يتجول في الحقول والبارات واماكن العمل والاحياء الفقيرة ليقنع الناس ولو بالتوسل كي ينتخبوه نائبا!
وقيل ان بعض النواب كانوا يشاركون في طبخ القيمة وفي اقامة الموالد والمناقب النبوية تقربا للجمهور كي ينتخبهم.. وهذا كما قيل ايضا كان افضل من انتظار مجيء "مستبد عادل" يرغم الناس بالقوة على الاصلاح!