إبراهيم العريس
حين ألف الموسيقي الألماني الكبير هاندل عام 1724 أوبرا "يوليوس قيصر" أي وهو في ذروة مجده، ما كان في إمكانه - حتى لو أراد - ألا يقتبس من شكسبير، وهو الذي كان يعيش ويعمل في لندن في ذلك الحين، ويرى بأم عينيه مدى شعبية وأهمية شكسبير ومسرحه في فنون هذه المدينة وتاريخها
من مسرحية شكسبير التراجيدية - التاريخية الكبرى، ومسرحية التنويري فولتير مروراً بالنص المسرحي الساخر الذي كتبه جورج برنارد شو، وصولاً إلى المسرحية الشعرية الرائعة التي كتبها أمير الشعراء العرب أحمد شوقي عن "مصرع كليوباترا"، مروراً بعشرات النصوص القديمة والأقل قدماً، فتنت شخصية الديكتاتور الروماني يوليوس قيصر الكتاب والفنانين في شكل يصعب اليوم فهم كل أبعاده. وفي هذا الإطار، نعرف طبعاً أن شكسبير لم يكن الأول ولن يكون الأخير بين أولئك المبدعين الذين رأوا دائماً أن في إمكانهم أن يقولوا أشياء كثيرة من خلال الكتابة عن هذه الشخصية. لكن شكسبير كان أفضل كاتب مسرحي أضفى على يوليوس قيصر، طابعاً فيه مقدار من الإنسانية، وأفضل من ربطوا السياسة والحكم بالسيكولوجيا الداخلية للشخصية، ناهيك بأنه كان من أوائل الذين حولوا حكاية ذلك القيصر إلى حكاية حب. ومع من؟ مع كليوباترا التي كانت في زمانها - وفق شكسبير في الأقل - شخصية لا تقل إشكالية عن شخصية العاهل الروماني، ولا تقل عنه ربطاً للسياسات الكبرى بالعواطف الشخصية. من هنا، حين كان مبدعو عصور ما بعد شكسبير يتطلعون إلى تقديم أعمال لهم، مسرحية كانت أو موسيقية، ولاحقاً سينمائية، تتحدث عن يوليوس قيصر، كانوا يجمعون على أن المرجع يجب أن يكون شكسبير، لا كتب التاريخ ولا المذكرات الشخصية ولا حتى التفسيرات العلمية والفلسفية لمسألة الحكم وقوة اللغة الديماغوجية، من خلال استعراض حياة يوليوس قيصر ونهايته.
تراث مثلث في أوبرا واحدة
والموسيقي الألماني الكبير هاندل لم يكن ليشذ عن هذه القاعدة حين موسق في عام 1724، أي وهو في ذروة مجده، أوبرا "يوليوس قيصر"، والحقيقة أنه ما كان في إمكانه - حتى لو أراد - ألا يقتبس من شكسبير، وهو الذي كان يعيش ويعمل في لندن في ذلك الحين، ويرى بأم عينيه مدى شعبية وأهمية شكسبير ومسرحه في فنون هذه المدينة وتاريخها. إذاً، كان من الطبيعي لهاندل أن يلجأ إلى النص الشكسبيري، ولو في شكل موارب، مما أسفر في النهاية عن عمل يمزج بين الهوى الفكري الإنجليزي، والجذر الموسيقي الألماني العقلاني، من ناحية، وبين النمط الإيطالي في كتابة الموسيقى الأوبرالية من ناحية أخرى. ذلك أن هاندل، على رغم ألمانيته، كان يعرف أن المزاج العام للجمهور يسير في اتجاه التجديدات الصاخبة التي كان فنانو الأوبرا الإيطاليون يرسخونها. وهكذا، في عمل واحد، تمكن هاندل من أن يجمع تراث أمم ثلاث. وكانت النتيجة مدهشة حقاً. أما لماذا نقول إن هاندل استعان بنص شكسبير مواربة، فالسبب هو أن الموسيقي الأجنبي - في ذلك الحين - اشتغل في موسيقاه على أساس نص شعري مقتبس من شكسبير حققه مواطن هذا الأخير نيكولاس هايم، علماً أن هذا الأخير، حين كتب النص، نسخ كثيراً من الصفحات الميلودرامية، عن تفسير حققه ميتاستاس، للنص الشكسبيري، بمعنى أن في إمكان النقد أن يقول إن أقوى ما في الأوبرا، يدين إلى ميتاستاس، أكثر مما يدين إلى هايم. غير أن هذا لا يغير في الأمور شيئاً، اللهم إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن العمل الذي كان، لدى شكسبير، سياسياً في امتياز، يركز على ديماغوجية السياسيين وقوة الإقناع اللفظي، وهوائية الجمهور وتمسكه بأهداب الفصاحة مغلباً إياها على الواقع التاريخي، أضحى هنا، في أوبرا هاندل، عملاً ميلودرامياً خالصاً يمزج بين الحب والغيرة، وبين البطولة والخيانة، وبين النفاق والسياسة.
تعديلات على شكسبير
طبعاً لدينا في هذه الأوبرا كل العناصر الحدثية التي نجدها في مسرحية شكسبير، ولكن مع مقدار لا بأس به من التعديلات. فهنا يبدأ الحدث بوصول يوليوس قيصر إمبراطور الرومانيين إلى مصر بعدما كان حقق انتصاره الكبير على بومبيوس، إثر المعركة الضخمة التي دارت في الفرزل... وكان الانتصار مزدوجاً، إذ خلاله قام بعض أهل البلاط في الإسكندرية باغتيال عدوه الشرس. ومن هنا، حين وصل قيصر إلى مصر غازياً، كان مرتاحاً، من ناحية إلى انتصاراته، ومن ناحية أخرى إلى ما استشعره من ولاء محلي له. وهكذا، تتحول الأوبرا هنا لتصبح أشبه بمجابهة بين مجموعتين من الأشخاص، ومن ثم بين مجموعتين من العواطف والمواقف. فمن ناحية لدينا يوليوس قيصر نفسه وكورنيليا أرملة بومبيوس وابنها سكستوس. ومن الناحية الثانية، لدينا بطليموس وقائد عسكره آخيلاس. وهذان الاثنان يبدوان لنا أول الأمر حليفين تجمعهما رغبة مشتركة في السلطة. غير أنهما إذ يغرمان لاحقاً، وكل على طريقته بالأرملة كورنيليا، يجدان نفسيهما على خلاف ثم على صراع يزيل كل منهما خصمه بموجبه. وهنا إثر ذلك الصراع القاتل تصبح كليوباترا، أخت بطليموس، ملكة على مصر، يساندها يوليوس قيصر نفسه في ذلك... في وقت تسود في مصر، ثم وصولاً إلى روما نفسها، إشاعات عن موت الإمبراطور. وطبعاً، يكون الجمهور عارفاً بأن يوليوس قيصر لم يمت، وفي الأقل بالطريقة التي سرت بها تلك الإشاعات.
نهاية أوبرالية ملتبسة
ذلك أننا نعرف، وفي الأقل، منذ مسرحية شكسبير الأصلية أن ما حدث شيء آخر تماماً. غير أننا هنا، في حضرة عمل هاندل، نبقى عند تلك النهاية الملتبسة لأوبرا، كان يجدر بالموسيقي الألماني الكبير أن يطلق عليها اسم "يوليوس قيصر في مصر" بدلاً من ذلك الاسم الفضفاض الذي يوحي بعمل يضم سيرة القيصر المعروفة كلها، بيد أن هذا لا يبدو هنا كبير الأهمية أمام عمل كانت الموسيقى، لا السرد التاريخي، أهم ما فيه، إذ إن التجديدات الموسيقية التي حققها هاندل في هذا العمل بدت فائقة الأهمية، وجديدة إلى حد كبير على الأذن الإنجليزية. وهي، كما أشرنا، تجديدات تسير على النمط الإيطالي، الذي يبدو أن هاندل استقى بعض أهم أجوائه من أوبرا سابقة عن الموضوع ذاته، كان الموسيقي الإيطالي فرانشيسكو كافالي (1602 - 1676) لحنها، وكانت في حينه معروفة، وعنوانها "الازدهار التعس لجوليو تشيزاري، ديكتاتوراً".
في تجاوز الأوبرا الإيطالية
ولئن كان من المرجح أن هاندل عيَّش أوبراه في جو أوبرا كافالي هذه، فمن المؤكد أنه عاد وتجاوز ذلك "الأصل" من بعيد، إذ خلف عملاً اعتبر في ذلك الحين نادراً، ولا سيما من ناحية تتابعية الأجواء وتعبيرها المفرط عن جوانب الشخصيات. وكأن هاندل شاء هنا، ليس فقط أن يتجاوز الأوبرات الإيطالية التي كانت معتادة اللعب على العواطف الدرامية، بل كذلك قوة التعبير المرتبطة بذلك النص الشكسبيري نفسه. ويتجلى هذا، بصورة خاصة، في لحظات المصاحبة الأوركسترالية - وهي كثيرة - حيث كان يبدو وكأن الموسيقى العاطفية التعبيرية، تتجاوز قوة اللغة والحوارات والنصوص الشعرية، ولا سيما في التأثير الدرامي في المستمعين. وفي كلمات أخرى: أتت الألحان، في ارتباطها بما كان يسمى "اللون السائد" من أرقى الأنواع الموسيقية، لتتجاوز أطر التعبير المتعارف عليها في ذلك الحين في مثل هذه الأعمال، إلى درجة أن ناقداً كتب لاحقاً يقول "لو أننا نقدم موسيقى هاندل هذه من دون أي مسرح أو غناء، كقطعة موسيقية، لكنا أمام عمل تعبيري من نوع نادر، حتى في الموسيقى السيمفونية الكبرى"، أي أن الموسيقى أتت هنا لتقول ذاتها، أكثر مما لتقول النص. وهذا ما أسبغ على العمل وحدة فنية استثنائية.
ألماني في لندن
حين لحن غيورغ فردريك هاندل (1685 - 1759) أوبرا "يوليوس قيصر"، كان في الـ39 من عمره وكان بدأ يشتهر على نطاق واسع في طول أوروبا وعرضها، مما أوصله إلى القصر الملكي البريطاني ليصبح من كبار الموسيقيين في بلد كان يفتقر إلى هذا النوع من الكبار. والحال أن "يوليوس قيصر" كانت واسطة العقد في مسار هاندل الفني، الذي قاده، دارساً ثم أستاذاً ثم مؤلفاً، في القصور، من بلد إلى آخر. إذ إنه قبل هذه الأوبرا كان أبدع في أعمال كثيرة منها "موسيقى الماء" و"رينالدو" و"لوكريشيا" و"نيرون" و"آماديس" و"بيرينيس". أما بعد "يوليوس قيصر" فتحمل أعماله عناوين تشكل علامات كبيرة في تاريخ الموسيقى مثل "مسيا" ذلك الأوراتوريو السماوي الرائع و"يوضاس الماكابي" و"آلسست" و"آريان" وغيرها.