(الحلقة الخامسة)
د. شاكر الحاج مخلف*
التأسيس الاشتراكي
في الفترة الأولى من ذاك اللقاء التاريخي الإنساني الذي جمع بين إمام المتقين وينبوع الاشتراكية " علي بن أبي طالب " فوق أديم ارض جرداء حيث غيوم الغربة والقلق قد احاطت بالوافد " الغفاري " الذي وجد نفسه في حضرة الدليل – اليقين – معلما غرس في عقله وضميره موقفا للحق والخير ، نقل إليه بثقة ووضوح توصيات النبي " محمد – ص –" تلك الكلمات السريعة المكثفة القوية التي سبقت في بناء العمود القوي وساهمت في تعزيز شخصية عرف عنها جهادها الكبير وحزمها القوي في مقارعة الباطل وإعلاء كلمة الحق ، قال الرسول :
- ياعلي ، إلا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين ..
أجاب :
- بلى يارسول الله ...
أضاف رجل مكارم الأخلاق :
- تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطع وصلك ...
سكت برهة ثم أضاف :
-ياعلي لا تغضب ، إذا غضبت فاقعد وتذكر قدرة الله تعالى على العباد ، وحلمه عنهم ، وإذا قيل لك أتق الله فأترك غضبك عنك ، ، وأرجع لحلمك .. ياعلي إن من كظم غيظا وهو يقدر على انفاذه ملآه الله إيمانا وأمنا ، ومن وضع ثوب جمال تواضعا الله وهو يقدر عليه كساه الله تعالى حلة الكرامة ، أنمن أستأجر أجيرا فظلمه ولم يوفه أجره فأنا خصمه يوم القيامة ، ومن أكن خصمه فأنا أخصمه ..
أجندة المواجهة
هذه التعاليم السامية وغيرها من التي نقلها وتربى عليها عليا – منذ نعومة أظفاره ، وخرج منها سيدا للبلغاء ومبدعا للكلم ونبراسا للحق وسيفا مسلولا من أجل الإسلام ، في تلك الفاصلة الزمنية التاريخية اقترب " الغفاري " من نبع الشجاعة والمعرفة والحكمة رجل المباديء الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم ، اقترب حتى غمر عينيه شعاع مدينة العلم والفضيلة ، فصار يطبق تلك التعاليم أولا على نفسه من خلال تهذيب السلوك وتصعيد فعل المواجهة بالحق ، ثم نشر تلك المباديء على من لهم صلة به ...
واجه الغفاري بهذه الفضائل وغيرها التي تعلمها من إمام المتقين عن النبي الأكرم عصرا شرسا بدأت فيه تنهار القيم وتبرز سيطرة الظلم والفساد وحالة الاستبداد البشع ، ظل يبحث عن مفاتيح الطريق المؤدية للمواجهة وتعزيز موقف الحق والثبات على المباديء التي جاهر بها الدين الجديد ، ذاك الزمن الرديء الذي اضمحلت فيه مواقف الحق وتصاعدت عواصف الفقر في أوساط الرعية لتظهر فيه بشكل فاقع قلاع الملكية الفردية المالية بإطماعها النتنة التي سجنت أذرع الخير والفلاح وحولت الإنسان إلى سلعة هبطت قيمتها كثيرا مع ان الخلافة توصف بالراشدة ، بدأ عصر الردة القبيح بكل تفاصيله حيث مظاهر الانحطاط ، صار الناس قطيعا يتمرغ بمستنقع الظلم والفساد والوحشية الأخلاقية انحطاط مريع استوطن كل مفاصل الحكم والإدارة ، صار الفقر عملاقا على أثر ذلك انطلقت مقولة الرجل الاشتراكي الأول علي " ع " " لو كان الفقر رجلا لقتلته " وظل يدور في الفضاء بصيص أمل ، أيضا صار للظلم قلاع كثيرة في مكة والمدينة وبقية الأمصار التي يحكمها أتباع الخلافة ...
توسع حالة المواجهة
" الغفاري " وغيره استمروا في بحث دائم وشجاع لتحقيق الدعائم الإنسانية الثابتة التي نادى بها خاتم المرسلين وهي بمثابة اشتراكية الإسلام بناء يتصاعد عظيم الأعمدة والقلاع ، رأى عن قرب تعاظم الردة واستفحال مأساة الإنسان ، وجد حالة الاستعباد هي السمة الأعظم فيها صورة وفعل إنحطاط أوضاع السواد الأعظم من الفقراء والمستضعفين طبقة الزراع وأصحاب المهن البسيطة " أجراء " تلك الفترة المضطربة ، من الذين صعدت على أكتافهم طبقة الموسورين والأغنياء وأصحاب الاقطاعيات حيث التفاوت في أوضاع الحياة والاستحواذ من قبل الأغنياء وأتباع الحكم على مصادر الثروة والقرار حيث تم إطلاق الحرية الخاطئة لبعض المتنفذين للإستحواذ على كسب المال بطرق مطلقة ، الأمر الذي جعلهم يكسبون المال بسهولة ، صار تكديس الثروة مشروعهم المتواصل دون الإلتفات إلى حكم التشريع الديني المعلن في كتاب الله ووصايا الرسول الكريم ، في تلك الفترة المظلمة زاد الظلم على تكوين الطبقة المسحوقة المستضعفة حتى عم الفساد ، تلك الأجواء اطلقت يد نفر من أصحاب الجشع والذين لم يدخل الدين الجديد إلى عقولهم وكانوا متمترسين خلف المال والجاه ولهم نفوذ نافذ في الحكم والقرار – تلك الفئة الطفيلية سلبت حقوق الطبقة الشغيلة- كانوا يحددون لهم أجر الكفاف وأغلبهم يقبل بذلك تحت ضغط ظروف الحاجة وعدم توفر البديل حيث استحكم فيهم مبدأ العبودية ...
النهج المغاير
كانوا يكافحوا غيوم الفقر والجوع والتهميش ، وصفتهم المصادر التاريخية والتراثية بأنهم ضحايا عدم تطبيق قوانين الدين الإسلامي ومنهج الحضارات التي سبقت ، الأمر الذي أدى إلى إخلال بالتوازن الاجتماعي وصارالظلم أمرا واقعا ، ذلك وغيره دفع " الغفاري " الى تلمس النهج اليساري في تكوين الرسالة الإسلامية ، أطلق صرخة مدوية ملئت الأمصار والقفار ضد ما يجري ورفض حالة استغلال الناس وعبوديتهم ،من تلك الوقائع المثبتة صار البحث يتعاظم عن مفهوم العدالة والمساواة حتى توسعت تلك الأفكار لتضع لبنة أولية في الاجتهاد الاشتراكي وفق تثوير مبدأ الزكاة والتكافل الاجتماعي وتعزيز نهج الخمس ، صارت كل جهة تدافع عن مواقفها ومكاسبها وتحاول أيضا تثبيت الأسس التي تشكل حلمها المنشود ....
السهم الاشتراكي
يبدو لي ان " الغفاري " في تلك المواجهة مثله مثل السهم الذي أنطلق من القوس ليخترق فضاء الظلم والظلام والتردي ، هو الصوت المدوي بالحق مثل شهاب اخترق ليل مكة والمدينة ثم ساد بعد حالة النفي الأول فضاء بلاد الشام ، تداعى أصحاب القرار للجم ذاك الصوت ومحاصرته لكن الغفاري لم يتوقف صار له مريدين واتباع ، كان يواصل المناداة بقيم المساواة وتحقيق الفعل الاشتراكي تحضر في ذهنه أفعال " عروة بن الورد – زعيم الصعاليك " مع الفارق في الفكر والوعي ، نسجت في أرض الجزيرة الكثير من القصص عن سلوكه مثلت النزوع للوقوف مع الفقراء والمعوزين ، هو شاعر وفارس من زمن الجاهلية وصعلوك من صعاليكها المعدودين ، له نزعة في الجود والفروسية والقيادة " يروى " أنه كان يسرق الأغنياء ليطعن الفقراء ويحسن إليهم ويرى ان لهم حق في أموال الأغنياء والتجار ، " الغفاري أخذ الكثير من أفكاره دون استخدام القوة في المواجهة ، كما تزود بالكثير من فكر إمام المتقين " علي بن أبي طالب – ع " وأجيال أخرى سبقت عصره من سجل الحضارات التي نشأت فوق ثرى بلاد ما بين النهرين ، تيقن " ان الحق مرّ يكرهه الناس والحكام " إلا ان الغفاري ظل ملتزما طوال حياته بذاك النهج الصعب ، بُذلت له الأموال كرشوة ليتنازل عن موقفه ويتوقف عن المجاهرة بالحق فأبى وتعرض لمختلف أنواع البلاء والنكال " وما يؤمن أكثرهم بالله وهم مشركون ، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون – سورة يوسف 106 "
( يتبع )