(الحلقة الرابعة عشرة)
د. شاكر الحاج مخلف
تهديد ووعيد
مات أباذر الغفاري وحيدا في منفى الربذة بعد ان جاهد من أجل خير الناس ولم تمت معه دعوته المهمة ، بكى من أجله علي بن أبي طالب والصحابة بكاءا حارا ، وعندما تقابل علي والخليفة عثمان لامه لوما شديدا على نفي الغفاري في تلك الصحراء القاتلة الموحشة الجدباء ، الأمر الذي دفع الخليفة عثمان ليشكو عليا إلى بعض الصحابة صور لهم كيف كان عليا شديدا في القول بحقه ، على أثر ذلك أتى بعض الصحابة مم سمعوا شكاية الخليفة إلى دار علي بن أبي طالب ، وكان منهم " زيد بن ثابت الانصاري – هو من المقربين جدا من الخليفة ، وصحابي آخر يدعى المغيرة بن الأخنس وصلة القرابة بينه وبين الخليفة توصف بأنه أبن عمة عثمان " قال الأنصاري مخاطبا علي بن أبي طالب :
- أما بعد فإن الله قد جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به ، فأنت للخير كل الخير أهل ، وأمير المؤمنين عثمان بن عفان ابن عمك ووالي هذه الأمة ، فله عليك حقان ، الولاية وحق القرابة ، وقد شكا إلينا أنك ترد أمره عليه ، وقد مشينا إليك نصيحة لك وكراهية ان يقع بينك وبين ابنعمك أمر نكرهه لكما " فقال علي ردا على الأنصاري :
- والله ما أحب الاعتراض والرد عليه ، إلا أن يأبى حقا الله لا يسعني أن أقول فيه إلا الحق ، والله لأكفن عنه ما وسعني الكف " لم يعجب المغيرة بن الأخنس رد علي بن أبي طالب ، وكان يوصف بالوقاحة قال :
- أنك والله لتكفن عنه أو لنكفنك عنه ، فإنه أقدر عليك منك عليه ،وإنما أرسل اليك هؤلاء القوم من المسلمين لتكون الحجة عليك عندهم " ، فقال علي القول الذي وضع الأمر في حالة هي أشد الوضوح زاجرا ابن الأخنس :
- أأنت تكفني ، ؟ فوالله ما أعز الله أمرا أنت ناصره ..؟ أخرج أبعد الله نواك ، ثم أجهد جهدك ، فلا أبقى الله عليك ولا على أصحابك أن بقيتم "في يوم تلك المواجهة كان عليا والكثير من صحابة الرسول الأوائل إيمانا قد خيم على وجوههم الحزن والقنوط حيث فقدوا صحابيا جليلا عرف بالتقوى وحب الخير للناس والعمل على بقاء الإسلام في الاتجاه الصحيح كما أراد له الله والرسول ، من ذلك اليوم صار الخلاف يتعاظم ويهدد مصير الخلافة حيث أنقسم اتباع الدين الجديد بين مؤيد ومعارض ...
موت الغفاري
قصة موت الغفاري رواها أكثر من مصدر وأنا أثبت ما أتفق عليه ، عندما اشتد المرض على الغفاري وأدرك ان نهايته اقتربت ، في ذاك اليوم مرت جماعة من المسلمين وكانوا يقصدون حج بيت الله الحرام ، فوجدوا زوجته تبكي وهي تبحث في كل الاتجاهات عن ناصر أو معين يساعدها في تجاوز الأمر الجلل ، توقفت القافلة وقالوا لها :
ما يبكيك يا أمة الله ....؟
قالت: امرؤ من المسلمين يموت.. وليس لدي كفن أكفنه فيه ...
قالوا .. ومن يكون؟
قالت: أبو ذرالغفاري ...
فصاح الجماعة : صاحب رسول الله.. طوبى لك يا خليل الرسول. ...
وخلع واحد منهم رداءه وكفنه به.. ثم وسدوه التراب .. وفي رواية أخرى ثبتها القرظي قال :" خرج أبو ذر إلى الربذة ، فأصابه قدره ، فأوصاهم أن كفنوني ، ثم ضعوني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا لهم: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على غسله ودفنه.. فأقبل ابن مسعود، رضي الله عنه، في ركب من أهل العراق ، قال لزوجته مواسيا :
- لا تبكي وأبشري ...
بينما يروي إبراهيم الأشتر عن أبيه، عن أم ذر قالت:
- لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال:
- ما يبكيك؟
فقلت:
- مالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض ولا يدان لي بنعشك، وليس معنا ثوب يسعك كفنا، ولا لك أنصار..
فقال:
- لا تبكي وأبشري، فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبداً. وإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين. وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية أو جماعة وإني أنا الذي أموت بالفلاة، والله ما كذبت ولا كذبت، فأبصري الطريق ...
- فقلت: أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق؟
فقال:
- انظري. فكنت أشتد إلى الكثيب فأقوم عليه ثم أرجع إليه فأمرضه.
قالت: فبينما أنا كذلك إذا أنا برجال على رواحلهم كأنهم الرخم. فألحت بهم فأسرعوا إليّ، ووضعوا السياط في نحورها يستبقون إلىّ،
فقالوا :
- مالك يا أمة الله؟
فقلت:
- امرؤ من المسلمين تكفنونه، يموت ...
قالوا:
- ومن هو؟
قلت:
أبو ذر الغفاري ...
قالوا :
- صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟
قلت:
- نعم.
قالت: ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فسلموا عليه فرحب بهم وقال: أنا الذي أموت بفلاة من الأرض، وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً أو لامرأتي ثوب يسعني كفناً، لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم الله لا يكفني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً ...
قال رجل منهم :
- فليس من القوم أحد إلا وقد قارف من ذلك شيئاً إلا فتى من الأنصار
فقال الفتى :
- أنا أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من غزل أمي.
قال:
- أنت فكفني. ..
فكفنه الأنصاري ودفنه في النفر الذين معه منهم حجر بن عدي بن الأدبر، ومالك بن الأشتر وابن مسعود ...
عاصفة الحزن والثورة
ساد حزن عظيم عندما أنتشر خبر موت " الغفاري " ، حزن علي بن أبي طالب لأمرين كلاهما مرّ موت صاحب رسول الله وما أنتهى إليه الخليفة الثالث وقد استسلم لمشيئة بني أمية ، وقال الناس وأسفاه على الخليفة كيف يقبل أن تدار الخلافة من خلال مجموعة لا ترى افق الحق وتسرق أموال الرعية ، من تلك الفاصلة الزمنية أشتد الخلاف وصار كل يوم يتوسع وحزب بني أمية فرحين بما يكسبون وقد صارت الخلافة كلها تقريبا في أيديهم ، أدرك علي بن أبي طالب حجم المؤامرة وضعف الخليفة واتخذ قراره ان يظل عونا له ، من أجل ان تستمر راية الإسلام ويقطع الطريق على أصحاب الأهواء من الذين يريدون العودة للفترة التي سبقت مولد الرسالة العظيمة ، كان علي بن أبي طالب حكيما وصائبا في موقفه ، وجمع بني أمية ينفذون خطوات الاستيلاء على الخلافة بدقة وعلى مهل ، والخليفة يؤكد يوما بعد آخر عجزه عن ردعهم فقد تمكنوا منه ومن كل قرار يصدر ، هو وحده كان يرى بعقله وبصيرته ماذا يجري في الظلام وما يدبر للأمة ، والأمصار تشهد الظلم يتعاظم وليس هناك من رادع ، حكام تلك الأمصار يقودون الأمور من خلال البطش بالرعية والفساد وعدم تطبيق بنود الشريعة ونهج الإسلام القويم ، اشتدت الشكوى وصار الأحتقان والغضب سيد الموقف ، الأخبار التي تصل إلى الخليفة الثالث مضللة تحجب الحقيقة عما يجري في تلك البقاع ، ولاة الأمصار كلهم كانوا من أقرباء الخليفة عثمان بن عفان ، وعند عودة عمار بن ياسر من زيارته لمصر وإطلاعه على أوضاع الحكم كذلك تزامنت عودته مع عودة وفود ذهبت للبصرة والكوفة وخراسان وبلاد الري ، اتفق قولهم على تصوير حالة الفساد والاستلاب والابتعاد عن مفاهيم دين الإسلام حيث شاعت الرذيلة والسرقة والعصيان في مناطق وعرة ، كل ذلك يجري والخليفة لا يعلم أو تصل إليه المعلومات غير الصحيحة تلك التي تصور له حالة الرضى والطمأنينة والناس تدعو له في المساجد ، سقط في تلك الأمصار مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما سقط العدل والمساواة واعتمد حكام تلك الأقاليم الفساد الموجع ...
نصيحة علي بن أبي طالب
ما عادت نصيحة علي بن أبي طالب وبقية الصحابة تنفع في وضع عام يتدهور بشكل خطير ، اتخذ علي بن أبي طالب مكانه في المسجد متفرغا لتعليم المسلمين أصول الدين وتفسير آيات الله البينات وتذكير الناس بأيام الله في الجهاد من أجل تثبيت راية الإسلام ودعوة الناس إلى التفكر والتدبر في شؤون دينهم ودنياهم ، كان يقول للناس في المسجد " لعن الله الآمرين بالمعروف ، التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به ، " ويضيف في خطبة أخرى " أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه وتعالى ، وإنما لا يقربان من أجل ،ولا ينقصان من رزق ، " ويطالب الجميع بقوله " أنهو عن المنكر وتناهو عنه ، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي " ويسرد مثلا جاء ذكره في آيات الله البينات قال "إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب ، لما عموا عاقر الناقة بالرضا " ويشدد الوصية والنصح عندما قال حاسما " لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيولى عليكم اشراركم ، ثم تدعون فلا يستجاب لكم " وذكر لهم تفاصيل زيارته للصحابي " عبد الرحمن بن عوف " وقد ذهب لزيارته وقد اشتد عليه الوجع دون رحمة ، قال " ذهبت لزيارته فوجدته يبكي بكاءا شديدا وحوله عددا من الصحابة وهو يولول ويقول :
- ان مصعب بن عمير كان خيرا مني ، توفي على عهد رسول الله ولم يكن له ما يكفن به وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرا مني لم نجد له كفنا ، وقريبا مات الغفاري ولم يكن يملك كفنا ، وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في الحياة الدنيا ، أخاف أن أحبس عن أصحابي بكثرة مالي " ....
- رأه علي بن أبي طالب يبكي أخذ يهون عليه ويخفف عليه مرارة الحزن ، وكذلك فعل أصحاب الرسول الأوائل ، رغم أفعاله الكثيرة والجيدة ومساندته للمسلمين هو يبكي لأنه من الذيم اكتنزوا المال وهناك من يبات طاوي على الجوع ، ينتظر رزق الله ...
المقارنة قبل الثورة
كان علي بن أبي طالب في ذكر عبد الرحمن بن عوف وحالة بكائه إنما يدعوا الناس للمقارنة بينه وبين أثرياء بني أمية ، كل واحد من أقرباء عثمان بن عفان صارا ماردا جبارا في الأرض لا يخشى غضب الله ولا يهتم لقرار الخليفة أو لصحابة الرسول او يتدبر ما جاء في آيات القرآن الكريم ، تلك كانت محنة الأمة والعامل الخطير في إنشقاقها ومرجل غضب أهل الأمصار ، اشتدت النقمة على الخليفة لأنه لا يحاسب حكام الأقاليم بل يغدق عليهم بالعطايا والهبات ويستحسن ظلمهم ، حيث ينقل له الحكام خلاف ما يفعلون ، أدرك في نهاية الأمر ان حالة العزلة والحصار تشتد ضده وكان موت الغفاري قد ترك أثرا كبيرا وصعد حالة الغليان والثورة ضد الخليفة ، والناس يرون ان قبضته على الحكم باتت معدومة ولا بد من تغييره ووضع حد للفساد .....
مروان بن الحكم " تهديد ووعيد "
صعد الخليفة عثمان المنبر ونظر إلى الوجوه التي ركبها الحزن والخوف على مصير الأمة وقد اشتد الصراع ، قال في خطبته " إما بعد فإن لكل شيء آفة ، ولكل نعمة عاهة ، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه الملة ، قوم عيابون طعانون ، أما والله يامعشر المهاجرين والأنصار ، لقد عبتم عليّ أشياء ، ونقمتم أمورا ،قد أقررتم لأبن الخطاب بمثلها ، ولكنه قمعكم بلسانه ، ووطئكم برجله ، وضربكم بيده ، زأوطأتكم كتفي فأجترأتم علي ولم يجترىء أحد على ان يملأ بصره من عمر ولا على ان يشير بطرفه إليه ، أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عددا وأقرب ناصرا ، لقد أخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه ومنطقا لم أنطق به ، فكفوا عني ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ! ، أتفقدون من حقوقكم شيئا ..؟ فما لي لا أفعل في الفضل ما أريد فلا كنت إماما أذن ، أما والله ما أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه ، ووالله ما قصرت عن بلوغ مابلغ من كان قبلي ولم يكونوا يختلفون فيه " ...
هو خطاب ووثيقة الاعتراف التي حفزت " مروان بن الحكم " ان يزيد وضع الحطب على النار عندما تحدث بعد الخليفة مهددا الناس حيث قال متوعدا :
- ان شئتم حكمنا والله بيننا وبينكم السيف ....!!
( يتبع )