كرم الحلو
الثقافة والمعرفة والأيديولوجيا مفاهيم إشكالية شديدة الحضور في ميادين المعرفة والإنسانيات، لكن الحدود بينها قلما كانت واضحة لدى قسم كبير من مستخدميها. وعلى رغم كثافة استعمال دارسين متخصصين في التأليف والمناظرة لها من قبل، وشيوعها في الحقل التداولي العام كما لو أنها واضحة ذاتها، تعترض الباحث في الفكر العربي مسألة وضع حدود للتمييز بين معانيها وتعيين صور الاختلاف والتمايز بين مفهوم وآخر ودلالاته الحقيقية. هذه الإشكالات يتصدى لها الباحث المغربي عبدالإله بلقزيز في كتابه الجديد "الثقافة، المعرفة والأيديولوجيا" دار الساقي 2024.
يعرف الباحث المغربي عبدالإله بلقزيز الثقافة في كتابه الجديد "الثقافة، المعرفة والأيديولوجيا" (دار الساقي، 2024) بما هي التعبير بصوره كافة: بالكلام وبالحركة وبالصوت وبالإيماء أو بالرمز، وليست الآداب والمعارف والفنون إلا التجسيد المباشر للطرائق تلك والتي يمكن اختصارها في تعبيرات ثلاثة: مكتوبة وصوتية وحركية. أما المعرفة فهي فعالية ذهنية تتكون من عملية تفكير في موضوع وتتوسل لنفسها وسائل مختلفة من تحليل أو استقراء أو استنتاج أو مقاربة. وهي بهذا المعنى تختلف عن الثقافة، ولو أنها فرع منها في كونها ليست مصروفة إلى التعبير عن الذات، إنما إلى التعبير عن رؤية تصور للعالم والأشياء والإمساك بما فيها من قوانين حاكمة.
وتحتاج المعرفة لكي يستقيم لها معناها كمعرفة إلى تحييد الذات والرغبة والهوى والمصالح أثناء عملية التفكير، وتفترض استقلال الموضوع المدروس عن الذات الدارسة. وعد العلم ذروة المعارف وأعلاها يقيناً، وعلى منواله جرى تغييب عوامل الإرادة والوعي والخيال والإيمان من الدرس الاجتماعي، والإخضاع القسري للظواهر الإنسانية للمناهج الفيزيائية. الاعتقاد الذي سيتبلور التعبير الفكري عنه مع أطروحات أوغست كونت في تأسيسه علم الاجتماع على القواعد العلمية المستقاة من علوم الطبيعة، وهو الذي مهد للازدهار المتجدد للعلموية التي غالت غلواً كبيراً في نزعة تقديس العلم. إذ يقارب المؤلف مسألة الأيديولوجيا، ويرى أنها مسألة إشكالية لكنها تستحق الدرس العلمي الرصين لا القدح والذم، ولا المشايعة والتبجيل. والإشكالي فيها مأتاه تعدد معانيها وتعدد استخداماتها على وجوه مختلفة في السجال التداولي العام. وهكذا تقبل الأيديولوجيا مقاربتها من مدخل إبستمولوجي ومن مدخل سوسيولوجي ومن مدخل ثقافي أنثروبولوجي.
ومن منظور إبستيمي توضع الأيديولوجيا في مقابل العلم أو المعرفة الموضوعية. إنها في هذا المفهوم نمط من الإدراك أو الوعي يتسم بأنه زائف أو مغلوط أو مقلوب، وهو لا يفصح عن حقيقة أو ينشدها بل يهدف – بالعكس- إلى طمسها أو تعميتها، ولذلك تعد الأيديولوجيا من دون المعرفة مرتبة معيارية، وتكتسب معنى قدحياً بوصفها نقيضاً للمعرفة الحق، وضرباً من التجديف الفكري والتقنيع والتوهيم، وهكذا تنظر إليها العلموية.
والأيديولوجيات من منظور سوسيولوجي رؤية تكونها الجماعات الاجتماعية – طبقات وفئات وشرائح- عن نفسها وعن العالم من حولها، فتبرر لها مصالحها. هذا المفهوم للأيديولوجيا كرسته كتابات ماركس والماركسيين، فتعمم خارج دائرة الفكر الماركسي وبات شائعاً وعاماً تيارات الفكر الإنساني الحديث والمعاصر.
إن المعيار الذي تتحدد به الأيديولوجيا في هذا المنظور السوسيولوجي ليس معيار الصدق والكذب، والحقيقة والخداع، لأن هذا معيار إبستيمي، إنما هو المصلحة. أما من مدخل ثقافي أنثروبولوجي فتأخذ الأيديولوجيا معنى ثقافة مجتمع أو شعب، وتتحدد بها تمثلاته وتصوراته ونظرته إلى العالم. وهي بهذا المعنى تطابق مفهوم الثقافة الجمعية وما تتعين به من سمات تتميز بها عن غيرها من ثقافات المجتمعات الأخرى.
إلا أن بلوغ عتبة المعرفة المحض المجردة من أية لوثة أيديولوجية أمر عسير إن لم يكن مستحيلاً، فقد تتسلل النوازع الأيديولوجية إلى عملية التفكير، وفي كل الأحوال نتدخل أيديولوجياً في الذي نفكر فيه حتى ولو على نحو غير موعى به، وقد تتوسل نصوص أيديولوجية لغة المعرفة وأدواتها وطرائقها لتقديم مادتها.
وفي جدليات المعرفي والأيديولوجي ذهب بلقزيز إلى أن ثنائية المعرفة – الأيديولوجيا، ثنائية إشكالية في الفكر المعاصر، وقد بات في الوسع رؤيتها اليوم كعلاقة مركبة غير مبسطة، وجدلية غير تقابلية. فالصلة بين المعرفي والأيديولوجي ليست منقطعة وأية معرفة لا تملك أن تتحرر تحرراً كاملاً من أثر الأيديولوجي فيها مهما بلغت من الموضوعية والتجرد، والقارئ في الإنتاج الفكري العربي منذ بدايات القرن العشرين حتى اليوم يلحظ ظاهرة الحضور المتضخم للأيديولوجيا فيه، والانحيازات الأيديولوجية التي يبديها المفكرون العرب تجاه هذه المنظومة الفكرية أو تلك. وفي هذا الإطار تندرج علموية ز. ن. محمود وليبرالية طه حسين ومادية حسين مروة ووجودية عبدالرحمن بدوي وماركسية محمود أمين العالم. كل واحد من هؤلاء يمارس انحيازاته الأيديولوجية بلغة المعرفة، حتى ليمكننا القول إن الوعي العربي توصل إلى التوفيق بين المعرفي والأيديولوجي.
إذاً كان للأيديولوجيا كل هذا الحضور وهذه المكانة في الفكر العربي المعاصر، فكيف تناوله المثقفون العرب الذين كانوا يتداولون المسائل عينها التي شغلت مثقفي الغرب، ومنها الأيديولوجيا وعلاقتها بالسياسة ومكانتها من المعرفة ووظائفها الاجتماعية؟
وفي الإجابة عن هذه المسائل تناول المؤلف ثلاث حالات فكرية عربية رائدة في تأسيس نصوص مكرسة للبحث في الأيديولوجيا، في مقدمها كتاب عبدالله العروي "الأيديولوجية العربية المعاصرة" عام 1967 وكتابه "مفهوم الأيديولوجيا" عام 1980، وعلل العروي انشغاله الشديد بمفهوم الأيديولوجيا إلى اتصالها بالسياسة والدولة وبالتالي التاريخ، وهذه جميعها مفاهيم مفتاحية لمشروعه الفكري.
ليست الأيديولوجيا فكراً عند العروي بل إنها من دون الفكر نصاباً ومرتبة. والعروي في موقفه هذا يشبه موقف ماركس الذي أضمر في "الأيديولوجيا الألمانية" نظرة قدحية إلى الأيديولوجيا. وفي رأي العروي أن مفهوم الأيديولوجيا مفهوم اجتماعي تاريخي له استخدامات سياسية واجتماعية وتاريخية ومعرفية، كما أن منطق الأيديولوجيا مناف لمنطق العلم، لكن أية ثورة عربية لن يكتب لها النجاح إلا إذا تبلورت قبل الثورة أيديولوجيا انقلابية عربية.
أما ناصيف نصار فله كتابان في الأيديولوجيا "الفلسفة في معركة الأيديولوجية" 1980 و"الأيديولوجية على المحك" 1994. وينتقد نصار النظر الوحيد الجانب إلى العلاقات بين الفلسفة والأيديولوجيا، سواء ذاك الذي يدمج بينهما أو يفصل بينهما فصلاً تاماً، متطلعاً إلى نمط جديد في إطار ما سماه الواقعية الجدلية التي لا تقبل النظر إلى الوعي الأيديولوجي بوصفه وعياً زائفاً، وتسلم باختلاف ماهية الأيديولوجيا عن الفلسفة، وفي الوقت عينه بانطواء الأيديولوجيا على مضمون فلسفي، وتأكيد ما بين الفلسفة والأيديولوجيا من اتصال تفاعلي.
وخلافاً للآخرين، لا يضع نصار الأيديولوجيا في مقابل العلم فيحكم عليها تبعاً لذلك بأنها وعي زائف ومضلل، بل يفكر فيها انطلاقاً من أدوارها التي تنهض بها في البناء الاجتماعي وفي السياسة والحياة العامة. لكن نمط الإدراك والتصور الذي تتميز به الأيديولوجيا يختلف عن غيرها من أنماط الوعي الأخرى كاللاهوت والفلسفة والعلم.
وفي مقاربة مفهوم الأيديولوجيا ذهب محمد سبيلا إلى أنها "ظاهرة اجتماعية وثقافية وسيكولوجية وسياسية ومعرفية وليست فقط سياسية... بل ظاهرة كلية تطاول مستويات الوجود الاجتماعي كافة". وإذا كان ماركس قد نظر إليها بوصفها وعياً خاطئاً وغير موضوعي، فإنه كان يفكر في موضوع الوعي والأيديولوجيا من خلال المقولات العلمية لعصره. لكن ذلك لا يمثل في رأي سبيلا مجمل نظرة ماركس إلى الأيديولوجيا، فهذه اغتنت مع الزمن ولامست أبعاداً أخرى لم ينتبه إليها حين كتب "الأيديولوجيا الألمانية" في أربعينيات القرن التاسع عشر. ويشكل كتاب بلقزيز إضاءة غنية تتميز بالشمول والموضوعية على المفاهيم الأكثر إشكالاً والتباساً في الفكر العربي المعاصر ودلالاتها الحقيقية والعلاقات الجدلية فيما بينها، وهو يقدم خلاصات وتصورات تؤسس لمراجعة مفهومية لفكرنا العربي المعاصر، وأوجه الاختلاط والالتباس التي طاولت مفاهيمه ومقولاته، وكيفية تفاعله مع فكر الغرب وفلسفاته.