ابراهيم العريس
كان ذلك في عام 1986 حين قابل كاتب هذه السطور المفكر والمستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون الذي كان حينها يعيش آخر أعوام حياته وبات نجماً لامعاً في فضاء الثقافة الفرنسية في زمن بات فيه الإسلام وما يتعلق به قضية القضايا ليس فقط في الحياة الثقافية النخبوية، بل حتى في الصحافة الشعبية. تفرض ذلك الأحداث الراهنة التي نعرف.
كان اللقاء ضمن إطار سلسلة لقاءات نحاول فيها الارتقاء بمستوى الكلام الثقافي في الصحافة العربية لا سيما منها ما يصدر في المنافي الأوروبية، باريس ولندن على وجه الخصوص، وتشمل عدداً كبيراً من مفكرين عرب وأوروبيين. وهي لقاءات وزعناها حينها على كتابين رئيسين هما "حوارات النهضة الثانية" و"بين الضفتين". ويبدو لنا اليوم أن المقابلة مع رودنسون واحدة من أهمها. ومن ثم إعادة نشر مقتطفات منها هنا، أثارت حينها اهتماماً ما في الأوساط المعنية. وسيبدو السبب واضحاً من خلال الفقرات المختارة.
قضية المستشرقين
كانت واحدة من أهم المسائل المثارة في الحياة الثقافية الفرنسية حينها مسألة المستشرقين وأدوارهم في الحياة الفكرية والسياسية. ومن هنا ورداً على سؤال يتعلق بموقع رودنسون من هذه المسألة كان محتماً أن نطرح عليه السؤال المتعلق بها فكان جوابه سريعاً وواضحاً، حدد فيه أنه أبداً لم يطرح نفسه بصفته مستشرقاً "لأنني أبداً لم أعرف ما الذي تعنيه هذه الكلمة. حسناً... هناك مجتمعات تقع شرق أوروبا وهناك أشخاص يدرسون هذه المجتمعات، منذ أربعة أو ثلاثة قرون. وهؤلاء الأشخاص بذلوا جهوداً كبيرة وقاموا بعمل جيد، قد يكون مليئاً بالأخطاء، وقد يكون ناتجاً أحياناً من نيات سيئة، لكنه كان عملاً جيداً في نهاية الأمر ومفيداً من الناحية الموضوعية. كان بوسعهم أن يفعلوا أفضل منه وأكثر منه بالطبع. لكنه، موضوعياً، كان عملاً جيداً بكل المقاييس. ولكن هؤلاء كانوا يسمون مستشرقين، لماذا؟ لأنه كان ثمة القليل من الأشخاص يعملون في ذلك الميدان خلال القرون الـ16 والـ17 والـ18. وهذا ما جعل كل واحد يحاول أن يفعل أفضل ما يمكنه في مجال من المجالات: واحد يهتم بالصين ويدرس لغتها، ثم يهتم بعلم الفلك الصيني. وهكذا في ذلك العصر كان في وسع الواحد أن يدرس لغات واختصاصات عدة في الوقت نفسه".
وإذ حدد ذلك اليقين استطرد رودنسون قائلاً "منذ فترة كنت أدرس مع تلامذتي نصاً لمستشرق فرنسي متميز من القرن الـ19 يسمى راينو. كان شخصاً يتقن العربية والفارسية والعبرية والتركية... واليونانية واللاتينية. وكان يتجول بكل طلاقة داخل كل تلك اللغات وحضارات أصحابها. اليوم بات العلماء أكثر تخصصاً وأقل موسوعية بكثير... قد تكون لهذا الأمر حسناته وقد تكون له سيئاته وليس هذا مرادنا هنا. يقيناً أن المتخصص يمكنه أن يقوم بدراسات أعمق وأكثر موثوقية وتوثيقاً. هذا بالنسبة إلى حسنات التخصص. أما بالنسبة إلى السيئات، فمنها أن الباحث اليوم يقوم بأشغال أكثر محدودية فيصبح عقله أضيق واهتماماته أكثر انحصاراً، فنجد واحداً يتخصص في الأدب، والثاني في الدين والثالث في التاريخ... بينما في الماضي كان دارس الأدب يعرف تاريخ الأديان ومجرى التواريخ وما إلى ذلك... كان يعرف المسيحية واليهودية والإسلامية وكتبها الأساسية. اليوم نرى باحثاً في الإسلام، مثلاً، لم يسبق له أن قرأ التوراة أو الأناجيل... ويمكنني أن أعطيك عشرات الأمثلة على جهل العلماء في أيامنا هذه... لكن من دون أن أذكر الأسماء بالطبع".
أليسوا مجرد تقنيين؟
هنا بات واضحاً لدينا أن ما يقوله الأستاذ رودنسون يقودنا إلى ما يحدث حقاً في دنيا العلم، وإلى القول إن الاستشراق كعلم متعدد الوجوه، فسيح الاهتمامات، موسوعي السمات، بات في طريقه إلى الزوال. في الماضي كان المستشرق شخصاً يزور البلاد الإسلامية والشرقية، يعيش بين أهلها، يعرفهم من كثب. أما اليوم فـ"المستشرق" شخص يجلس في مدينة يقرأ الصحف ويؤرشفها ثم يشتغل بواسطة حاسوبه الآلي.
وإذ أصغى رودنسون إلى هذا الكلام باهتمام، قال بهدوء إن "المستشرق مستشرق، لكنه صار أكثر تخصصاً وبات يستفيد مما توفره له المعلوماتية ووسائل الاتصال الحديثة، وليس هذا عيباً بالطبع. ليس عيباً أن يكون عالم الأعراق عالم أعراق وحسب، وعالم الأركيولوجيا عالم أركيولوجيا وحسب... ليس عيباً، لكنه يفقد علم الاستشراق، بالطبع، كثيراً من جماله ومن سماته. يفقده هذا الجمال إلى درجة أنه سيقود نوعاً معيناً من الاستشراق إلى الزوال. مهما يكن، فإن مصطلح "استشراق" لم يعد ذا أهمية اليوم، ولم يعد أحد يطالب لنفسه بأن يلقب به. خذ أندريه ميكيل مثلاً، إنه يشتغل بصورة ممتازة على الأدب العربي وعلى تراث الجغرافيين العرب والمسلمين، لكنه يصر على أنه "مستعرب" وليس "مستشرقاً"... كلها، في نهاية الأمر ألقاب للتعريف لا أكثر. المهم أن دراسات الغربيين لعوالم الشرق مستمرة وسوف تستمر.
الجديد اليوم أن لدينا كثيراً من المتخصصين في شؤون الشرق وأن عملهم لم يعد عملاً فردياً مغامراً ورائداً. صار عملهم تقنياً. والمهم أن نتذكر أن الاستشراق إنما قام في الأساس لأن أوروبا تمكنت من حيازة مناهج علمية شاملة جعلت اهتماماتها أكثر اتساعاً من كل النواحي. وهذه المناهج هي التي سمحت للاستشراق بأن يوجد فوجد، ولن ينتهي في الغد المنظور مهما تبدلت أسماؤه واختصاصات أصحابه... ومهما كان من شأن زوال طابعه الرومانطيقي".
وهنا وبعد أن توقف رودنسون هنيهة عن الكلام قال، "مقابل هذا أود أن أذكرك هنا بأن العلم والمنهج العلمي ليسا وقفاً على الغربيين وحدهم... فالغرب، دائماً الغرب، تمتلئ جامعاته بعلماء وباحثين أصولهم عربية وشرقية، وهم في العادة يشكلون النخبة العلمية الأفضل. لكن من المؤسف أن جامعات الغرب هي التي تتيح لهم فرص التفوق والبروز. ففي بلادهم ثمة فقر كبير يحول دون توفير الإمكانات اللازمة لهم، وأحياناً هناك قمع سياسي يحول بينهم وبين الانطلاق فيتوجهون إلى الغرب من دون أن يعتبروا مستغربين حتى ولو درسوا الغرب وأحواله وأسهموا في بناء نهضته الفكرية... ويمكنني أن أعطيك هنا أسماء عديدة من جامعات أوروبية وأميركية كثيرة، أسماء لأشخاص تفتخر بهم الجامعات التي يعلمون فيها.
وهنا وبعد أن توقف رودنسون هنيهة عن الكلام قال، "مقابل هذا أود أن أذكرك هنا بأن العلم والمنهج العلمي ليسا وقفاً على الغربيين وحدهم... فالغرب، دائماً الغرب، تمتلئ جامعاته بعلماء وباحثين أصولهم عربية وشرقية، وهم في العادة يشكلون النخبة العلمية الأفضل. لكن من المؤسف أن جامعات الغرب هي التي تتيح لهم فرص التفوق والبروز. ففي بلادهم ثمة فقر كبير يحول دون توفير الإمكانات اللازمة لهم، وأحياناً هناك قمع سياسي يحول بينهم وبين الانطلاق فيتوجهون إلى الغرب من دون أن يعتبروا مستغربين حتى ولو درسوا الغرب وأحواله وأسهموا في بناء نهضته الفكرية... ويمكنني أن أعطيك هنا أسماء عديدة من جامعات أوروبية وأميركية كثيرة، أسماء لأشخاص تفتخر بهم الجامعات التي يعلمون فيها.
نعم... قد أغير كتبي!
وهنا خطرت على بال كاتب هذه السطور فكرة طريفة أحب أن يشرك المفكر الكبير فيها وقال له، "يخامر ذهني، بروفيسور رودنسون، في العودة إلى عملك على ضوء الواقع الراهن لأحوال العالم، سؤال، أعترف لك أنه غير علمي على الإطلاق، يقول: إذا قيض لك اليوم أن تعيد النظر في بعض كتبك التي وضعتها في الستينيات والسبعينيات حول العالم العربي والإسلامي. فما هي الأشياء التي يمكن لك أن تضيفها، أو تحذفها؟". ابتسم وقال "بالعكس، سؤالك منطقي وهو يشغل بالي بشكل دائم، وبخاصة بالنسبة إلى كتاب مثل (الرأسمالية والإسلام)، فاليوم ألاحظ أنني في هذا الكتاب، كما في الكتاب الآخر الذي اشتهر عندكم في المشرق (الماركسية والعالم الإسلامي)، أبديت كثيراً من الثقة بما سميته الماركسية المؤسساتية. فمثلاً كنت أقول إن البلدان الإسلامية أو البلدان العربية ستكون، في يوم أو في آخر، مجبرة على تبني الأفكار الماركسية. اليوم قد أقول الأمر نفسه بصورة مختلفة، قد أقول إن هذه البلدان باتت مجبرة على أن تتبنى بعض أشكال علم الاجتماع، ماركسية كانت أو غير ماركسية. اليوم قد أعيد النظر في حماستي المفرطة إزاء المادية التاريخية، وقد أنظر بشكل أكثر عمقاً إلى تأثير حركية المجتمع على حركية الأفكار. وفي معرض دراستي لحركية التاريخ الإسلامي، سآخذ في الاعتبار ديناميته الراهنة مهما كان الموقف منها، وأكتشف أن الماركسية لا دخل لها فيها لا من قريب ولا من بعيد، ولسوف أجرؤ على القول، بعكس ما كنت أفعل في الماضي، إنه ليس صحيحاً أنه يمكن أن يوجد كثير من التماثل بين الماركسية والإسلام، كما كتب روجيه غارودي في الماضي. صحيح أن ثمة أفكاراً أساسية سأواصل الإيمان بها، لكني في الوقت نفسه سأقول إنه لم يعد ممكناً أن نكتب على الواجهات (حرية، مساواة، إخاء) أو (يا عمال العالم اتحدوا) أو سواهما حتى نحقق المعجزات... إن عبارات مثل هذه هي التي هيأت للهمجية فرصة الوثوب لاحتلال الصف الأول من مسرح التاريخ. المهم اليوم هو أن نتمعن لنرى كيف يمكن للمجتمع ولأهل المجتمع أن يترجموا العبارات إلى واقع ملموس ممارس، لا أن يجعلوا منها شعارات يختبئون خلفها".