البصق في بئر الشرب
22-آذار-2023
د. جليل وادي
لا تظن رقيا لبلد كل من فيه يعمل على هواه بعيدا عن المتابعة والرقابة وسلطة القانون، فالعمل على الهوى، يعني ان الحكومة فقدت سيطرتها على مجريات الأمور، وبذلك يتسع الخراب ويشيع الظلم ويكثر الفقر ويعم التخلف، فنلقي عليها اللوم فيما يحدث، وتهتز قناعاتنا بالنظام السياسي الذي تتبناه وتعمل على وفقه، ويصبح مشروعا تحميلها مسؤولية ما يجري للمواطنين الذي يتطلعون لحياة رغيدة لطالما حلموا بها.
بالتأكيد يتحمل المواطنون ومختلف الفعاليات المجتمعية كالنقابات والجمعيات والقطاع الخاص جزءا من المسؤولية، فاللامبالاة والنزعة المادية وروح الغلبة هي المهينة على السلوك من دون اعتبار لحجم التحديات التي يتعرض لها المجتمع والدولة.
لا أنكر أبدا ان فسادا شائعا في جميع مفاصل الدولة، ولكن هذا لا يعني الركون للانتقاد والتهجم من دون أن نفعل شيئا صحيحا من شأنه الاسهام في بنائها، والأمثلة على ذلك كثيرة وما أصعب عدها، فلم تطرق مسامعي يوما ان نقابات الأطباء والصيادلة حاسبت أطبائها وأصحاب الصيدليات على جشعهم وتفريغ مهنتهم من مضمونها الانساني، وتآمرهم على المرضى بمختلف الطرق لاستنزافهم ماديا ونفسيا، فنرى غالبية الأطباء يعملون على تصريف دواء صيدليات الأصدقاء او تلك التي يشتركون بها بالرغم من ان بعضا من مفردات وصفاتهم لا تستدعيها حالة المريض، او صرف كميات أكبر من الحاجة.
وكذا الحال مع أصحاب المختبرات والأشعة وغيرها، او مساءلتهم عن اختلاف اجور الكشفيات فيما بينهم او ضخامة مبالغها، او اقناع المرضى بإجراء العمليات في المستشفيات الأهلية بدواعي مختلفة غير حقيقية في كثير من الأحيان، او رفض معالجة المتعففين من المرضى، طبعا الاستثناءات نادرة للغاية، هل حاسبت تلك النقابات تجار المستشفيات الأهلية على ثرائهم الفاحش على حساب الناس، كل ذلك شوه صورة مهنة الطب في أذهان الناس، حتى وُصف أهل الطب بشتى النعوت، وما كنا نتمنى أن تطلق عليهم.
المرضى مضطرون، وليس أمامهم سوى الاستسلام لما يقوله الطبيب والصيدلاني، لكن هذا لا يعني أن نجور عليهم فوق جور المرض، بالتأكيد ان نظامنا الصحي الرسمي هو من جعلنا لقمة سائغة في فم تجار المستشفيات الأهلية والأطباء الذين يتعاملون معهم، فلو كان متينا ويدار بكفاءة عالية، وخال من الفساد لما اضطر الناس لمراجعة العيادات والصيدليات والمستشفيات الأهلية بأسعارها التي تكسر الظهر بالنسبة لغالبية المواطنين الذين يندرجون ضمن الطبقة الوسطى.
اما الفقيرة فلها الله ومراجعة مستشفيات ومراكز حكومية متهالكة وخالية مما تحتاجها، أليس على صفوة القوم بضمنهم الممتهنين للطب أن يكون التكافل ديدنهم في التعامل مع الناس عندما يكون الوطن بمواجهة المحن.
والأمر نفسه ينطبق على المستثمرين في التعليم الأهلي الذين أصبحت كلياتهم أشبه بالكوفيات لقضاء الوقت والحصول على شهادات مجانية لا يقابلها شيىء من العلم والمعرفة، فلا رسوب فيها ولا حساب على غياب.
لقد أصبح المستثمرون قوة مخيفة يتعذر مواجهتها، واعادتها الى المسار الذي من أجله وافقت الحكومات على استحداث الكليات الأهلية، بل ربما سيكون بمقدور المستثمرين والحال هذه رسم سياسات التعليم لاحقا وتعيين قياداته، أليس الوطنية تستدعي ان يشغلهم مستقبل البلاد وأبنائه أكثر من الربح المتحقق، قد يكون في قولي مثالية لا يقبلها الواقع، ولكن من الكفر أن يبصق المرء في البئر الذي يشرب منه. شكرا لهم بطعم الألم الذي يعانيه الوطن والناس.
يذكرنا هذا الحيث بموضوع الخصخصة، الذي طبل له الكثيرون، وبينوا منافعه وتغافلوا عن سيئاته، ولكن أقول وهذا ما يؤكده وقعنا ان الخصخصة بلا ضمير، ولن يكون سلوكها قويما الا من خلال المتابعة الحثيثة والرقابة الصارمة وسلطة القانون كما قلت في بداية المقال.
لست اشتراكيا بطبعي، لأني ادرك مساوىء القطاع العام وأبرزها البطالة المقنعة ورداءة الانتاج وانعدام الدافعية، ولست معاد للخصخصة وان كانت في بواطنها وحشية قاتلة، لكني أؤمن تماما بأن الدولة هي الأم الحنون، لذا أتمنى ألا تطلق أُمنا العنان للحوش الكاسرة