عمر شبانة
كان الشاعر الأردني المختلف زياد العناني (1962-2024) غاب غيابات مختلفة، فهو الشاعر غريب الأطوار شعراً وحياة، لا تختلف حياته عن شعره، وهذا شعره يصل نهايته مع بداياته، لنتعرف على تجربة إبداعية مختلفة عن تجارب الجيل الذي تنتمي إليه، جيل التسعينيات من الشعراء الشباب، شاعر يطرح هموماً وأسئلة من صميم روح عصرنا، يكتبها شعراً صافياً بلا شعارات، وبلا فائض استعارات وبلاغات فائضة عن الشعر، فهو يكتب روحه وتجربته في الحياة، كما لو أنها تحدث هنا والآن.
زياد العناني (1962-2024) شاعر لا مثيل له في شعرنا، كان يغيب على مراحل، وظل دائم الغياب، حتى في عز حضوره. فما هذا الموت الأخير، الموت الجديد لو شئنا، سوى تأكيد لميتات سابقة. فمنذ إصابته في الـ28 من أغسطس (آب) 2011 بجلطة دماغية أفقدته القدرة على النطق والحركة، ظل عناني يعيش غيابات وغيبوبات كان يتقن التعامل معها بشاعرية عالية. فقد كان كثير الغياب في حياة عاشها بقدر من الاضطراب، ما بين كأسه ومشاكساته الحادة والعميقة للحياة، وللمؤسسات الرسمية، ومواقفه التي تجعل من الشعر حياة، ومن الحياة شعراً.
بدءاً من كتاباته الأولى عن بلدته ومسقط رأسه وأحلامه وآلامه "ناعور"، قريباً من الأغوار الأردنية، وإرهاصاته الأولى التي استبعدها من سيرورته الشعرية، معتبراً أن بدايته كانت مع ديوانه "خزانة الأسف"، ثم "في الماء دائماً وأرسم الصور" (2002) و"مرضى بطول البال" (2003) و"كمائن طويلة الأجل" (2003) و"تسمية الدموع" (2004)، و"شمس قليلة" (2006) وآخرها مجموعة "زهو الفاعل" (2009)... واصل عناني تجربته الصعبة المتميزة على غير صعيد، وغير مستوى.
منذ بداياته كان زياد شاعراً مدهشاً، يقف على الحافة ما بين البساطة الفاتنة والفتنة البسيطة، منتمياً إلى فئة من الشعراء أسميهم "العراريين" المتمردين (نسبة إلى شاعر الأردن مصطفى وهبي التل المعروف بـ"عرار" 1899-1949)، ومن أبرزهم أمجد ناصر وحكمت النوايسة وحبيب الزيودي، مع اختلاف واضح بين أصواتهم وتجاربهم الحياتية والشعرية، لكنهم يمثلون الأصوات الغاضبة في الشعر الأردني الجديد، وزياد واحد منهم، له صوته ونبرته وغضباته التي لا تخفى على عارفي تجربته الغنية حياة وشعراً.
حياة شاعرية
عايشناه مع شعره ومساراته منذ بداياته، وعرفناه شاعراً يقارب الفوضى الوجودية في حياته كما في شعره، وكما هو أيضاً في كثير من متابعاته والتقاطاته وكتاباته الصحافية العابرة. وحتى بسيارته القديمة، بل المتهالكة، التي كانت تأخذنا، يوسف أبو لوز وأنا وأصدقاء آخرين، في جولات متهورة في نواحي البلاد، فيما هو يمضي ساخراً من كل شيء، حتى من نفسه ووجوده أحياناً، مما جعل حياته وتجربته في مهب العبث والجنون، لكنه العابث الذي يعي ويدرك أن شعره وحياته تمتلكان معنى كبيراً، معنى ينبغي ترسيخه في القصيدة التي هي قراءة للحياة، للماضي وللذكريات، قراءة للكون والوجود، للإنسان والوطن، هذه المفردات التي تتكرر بكثرة في تجربة شاعرنا.
ديوان للشاعر (المؤسسة العربية)
هو الشاعر الذي جمع في قصائده صورة الفتى البدوي، والشاعر الرعوي والرومانسي، بل المتصوف الزاهد إلى حد غير قليل، وإلى الشاعر الذي لفت الانتباه، منذ البداية، إلى علاقة غريبة مع الأب البيولوجي، والأبوية في صورها المتعددة والمختلفة، وخصوصاً صورة السلطة الأبوية "البطريركية" التي نجدها في قصيدة يحكي فيها عن الأب، ومعه، إذ يسأل بمرارة شديدة:
"يا أبي/ أكثر من خوف قد مر على قلبي/ من ناب الوحش إلى الجوع/ إلى كرسي الأمر/ ومع ذلك/ لم أفهم بعد/ لم كانت قسوتك المرة/ حاضرة/ حاضرة/ وتبيض في كل الفصول".
مراحل ومحطات
كثيرة هي المحطات التي يعرفها متابعو تجربة العناني، محطات تحيل على شاعر باحث عن حب وعدالة وحرية بلا أية مساومة على أي مفردة منها. عاش في قلق واضطراب، معايشاً تجارب شعراء ومبدعين عالميين. ففي مجموعته "مرضى بطول البال"، التي يمكن قارئ عنوانها تقدير محتواها وفلسفتها، يستعير من لوتريامون قوله "ها إني/ منذ يوم ولادتي المشؤوم أعاني القلق"، ويكتب هو بألم: "كل قتلاي الآنمن تراب/ الأول الذي سرق حبيبتي/ والخامس الذي خلع أظافري/ والسادس الذي كان يضحك/ وهو يلعب في دمي/ كل قتلاي الآن/ من تراب/ وأنا في المصحة/ أشرب جرعتي".
وعن رؤيته للعالم، ولما يعاني الإنسان في عوالمه، كان عناني يكتب رؤيته الشعرية لما كان وما هو كائن وما سيكون، فيمتزج لديه الحلم بالواقع المختلط بما يشاء من فانتازيا العبث الوجودية، مع استعانة بالموروث الديني/ الشعبي، "كان حتماً/ أن نحاول/ إيقاف الضربات المضطربة/ قبل أن يتحول العالم/ إلى شركة أموات تستثمر/ كل فتوق اللحم/ وتأخذنا/ أخذ عزيز/ أخذ عزيز/ دون مجاهرة بما نريد من الإنسان/ أو المعنى".
وفي قصيدة له يعبر فيها عن كونه ليس مرئياً، يرى شاعرنا أحوالاً شتى من العزلة والخوف، يرى نفسه في بداياته ومآلاته، "أعزل/ من قبل ومن بعد، وقيل ميت، لمجرد أنه تخفف من آفات البحار/ ولم تدر به معارك، ولم تسجل فيه هزيمة، أو انتصار/ ولم يشهق بدم/ أو كارثة مروعة، ولاهوت فيه سفينة غرقى/ ولا جنحت أخرى، لتطلق صرخات النجاة باكية".
الشاعر والقصيدة في مواجهة أحوال الغربة
وفي عالم آخر، يرى الشاعر نفسه وهو "مشدود بالماء/ لا ضعف، ولا وهن/ يغسل الشمس وتغسله/ فلا عجب إن راح يلاعب خدر المستحمات بأمواجه المتلذذة/ وهو يوشوش/ ويتحرش/ ويلمس، ويحن بدفء يستدل على أعصاب المفاتن ثم يثيرها". وهو يضعنا في عوالم من الرغبة لاحتواء العالم، فنقرأ ما فيه من رغبة "لفضح توت الدامعات في عش الخليقة"، وما يمتلك من رغبة "يفصح عنها بالطين السحري، وهو يتربص بالمسامات، فيحيلها نوافذ يخرج منها الفساد مفتوكاً به".
وفيما هو يبتكر صياغاته وتعبيراته عن حياته/ حياتنا، يوظف شاعرنا الحروف واللغة على نحو يجسد روحه ومواقفه من الأشياء والوقائع في الحياة والوجود، لنقرأ كيف يوظف الفعل الناقص "ليس" في رؤيته للوطن، في قصيدة "أعمال ليس" وفيها يقول "ليس لي بلد/ ليس لي قبر/ وليس لي حتى امرأة/ إذا مت تركض في الفراغ/ مبددة نعيها".
هذا بعض من عوالم شاعرنا العناني، عوالم يعبر عنها في حواراته مع الصحافة، إذ يتحدث عن تجربته مع الكتابة وانتقاله من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، قائلاً، "لقد كنت شغوفاً بصمت الكتابة وهدوئها ورحت أكتب لذاتي وذاتها، ولم يدر بخلدي أنني سأصبح شاعراً. كل ما في الأمر هو أن أحقق فرحي الخاص (...) وجدتني أكتب وأنشر، وكانت قصائدي في حينها تنتمي لقصيدة التفعيلة. في بداية التسعينيات بدأت أنزاح إلى قصيدة النثر... إلى المعنى، وصرت أمقت الصوت التطريبي البحت والغنائية الباهتة".
والختام في آخر ما نشره الشاعر العناني على حسابه في "فيسبوك" قبل إصابته بالجلطة الدماغية، "البيت ما زال هو البيت/ والدرب ما زال هو الدرب/ ربما لم أره وهو يتغير بعد نومك/ ولكن، لا عليك/ إن ضاعت منك أو ضاع عنك/ سيدلك الحزن/ وتقودك/ يد البكاء إلى جنتي".