الطرح الأيديولوجي وحاجات الأمة العراقية
23-تشرين الأول-2022
شمخي جبر
حين ننظر الى واقع الأمة العراقية وما طرحته نخبها او تبنته من أيديولوجيات، نجد ان الوعي كان سائدا كان وعيا مزيفا، فلم يكن تعبيرا حقيقيا للواقع، والتالي فأن ما تطرحه النخب كان خارج السياق الثقافي للأمة العراقية ولم يكن معبرا عن ضميرها او ابن واقعها او منبثق من فعالية وحيوية البنى الاجتماعية السائدة، بل في الاعم الاغلب هي أيديولوجيا منقولة (مستوردة) نقول هذا لأنها لا تعكس حركة المجتمع الفعلية او العلاقات القائمة بين مختلف وحدات هذا المجتمع على اختلاف أنواعها ومستوياتها من فئات وطبقات ومكونات عرقية ودينية وطائفية، بل هي دائما تختصر الوطن في دين او قومية او طائفة، او في حزب او زعيم.
ومن هنا فقد أصبحت الايديولوجيا المطروحة عبئا على الواقع او قد يصبح الواقع عبئا عليها فهي حين تنقاد الى الواقع، لا تأخذ دور المبادر في عملية التغيير، بل تحاول ان تحافظ على سكونية هذا الواقع لان هذه السكونية تخدمها أكثر مما تخدمها المطالبة بالديناميكية والتغيير لان البنية الفكرية التي تحت يدها غير قابلة للتغيير، وبالتالي قد تصبح هذه الايديولوجيا عبارة عن عملية تضليل وتزييف للوعي، او قد تتحول الى غاية بعد ان كانت تدعي إنها وسيلة، فتتحول الى (دوغما) لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.
وان كل شيء خاضع لقياس الواقعي على المثالي، شديد الكراهية للراي بعيد كل البعد عن ديناميات اللحظة التاريخية المعاشة منغلق على ذاته لا يمكن ان يخطأ لأنه هو المعيار للصواب والخطأ وليس أي شيء خارج ذاته اولم يقل يوسف القرضاوي ( إذا أردتم أن تحاكموني فحاكموا الإسلام ) فاختصر الإسلام في فتاويه ومقولاته، الأمر لا يقتصر على الإسلاميين، بل كل النخب تقف موقف هروبي استلابي اكثر منه مواجهة التحديات التي تواجه الأمة ،تحديات مدججة بالثقافة والفكر والحضارة و(الليبرالية المتوحشة) التي تمتطي الدبابات والبوارج وصواريخ عابرة القارات، والشركات متعددة الجنسيات واقتصاد السوق والمد العولمي بكل ما يحشد من مخالب.
نقول مثلما يهرب السلفي الى الماضي ويغلف نفسه بحلم زمني معين كما يقول ( تركي الحمد) نجد أخاه المعاصر يهرب الى حلم مكاني معين ومثلما يقوم التقليدي بجعل (إسلامه الذاتي) محك الأمور ومعيار الحق والحقيقة، الليبرالي يرى ان أسس البلاء هي غياب الديمقراطية والليبرالية، وكذ يفعل الماركسي بندب اشتراكيته وشيوعيته، التي يرى إن لا حل إلا بها. وهكذا بقى الطرح الايديولوجي بعيدا عن ضمير الأمة وآمالها وآلامها وان اتخذ في بعض الأحيان صفة التعبير عن مصالح فئة او مكون من مكوناتها كما هو في الخطاب الإسلامي (سني، شيعي)، او يعبر عن مكون عرقي كما هو في خطاب الحركات السياسية الكردية، او لدى القوميين العرب.
ومنذ التأسيس الأول للدولة العراقية في مطلع العشرينات من القرن الماضي، لم يكن هناك وعيا حقيقيا يحتضن كل مكونات الأمة العراقية فيعبر عن مصالحها مجتمعة، وليس العمل لتأسيس ايديولوجيا تفتت الأمة او تزرع الفرقة والتشتت.
فبقت الأمة مشدوة الى واقع غير واقعها، مرة يقع في زمن مضى، وأخرى في جغرافيا وتاريخ او ثقافة أخرى نقلت من هناك. هذه الايديولوجيات شكلت تشويها لوعي الأمة.
هذا وغيره شكل شرخا كبيرا في وطنية الفرد وفي ارتباطه بأرضه ووطنه فاصبح غريبا بلا هوية، حين ضاع بين الهويات، او تجاذبته الهويات من كل حدب وصوب فمرة الهوية الإسلامية وأخرى الهوية العربية، اما هويته الوطنية الهوية العراقية، فقد سمي من يتسمى بها قطريا او إقليميا وأحيانا يسمى شعوبيا واعتبر من اعداء الوحدة العربية، على اساس ان من يلتزم او يتبنى الهوية الوطنية يشكل ما يسمونه (القومنه القطرية). من جانب آخر فان الفرد العراقي وفي ظل هذه التجاذبات اخذ يحتمي بهويات فرعية من داخل الهوية العراقية او لأحد مكوناتها، مما شكل خطرا آخر على الهوية الوطنية حين يصبح هناك بديلا عنها (العرقية والدينية والطائفية والقبلية).
فحين يختصر الوطن بطائفة او قبيلة او دين، يدخل من يبحث عن مصالحه في ظل الفرقة هذه، وخصوصا الزعامات التي لا تستطيع ان تجد لها مكانا إلا في ظل هذه الظروف.
ونظرة متفحصة للمشهد السياسي العراقي تعطينا كيف يتشكل هذا المشهد، فأكبر أحزابه هي الأحزاب الطائفية والدينية والعرقية، وفي ظل غياب الهوية الوطنية للأمة العراقية تصبح هذه الأحزاب أكثر حظا في الانتخابات لأنها تجيد العزف على أوتار الفرقة، ويخدمها في هذا ما تعرض له الفرد من اضطهاد وتهميش وحرمان من المشاركة السياسية، في ظل سلطة احتكرت الوطن والأمة والدولة في يد الأقلية، وكل ما سلط على الفرد من ظلم جعله يبحث عن هوية او مظلة يستظل بها فلم يجد إلا مظلة هويته الفرعية لان مظلة الوطن والأمة مغتصبة ومحتكرة.