عندما كتب رولان بارت عن "الكتابة في الدرجة الصفر"، كان يتوخى أن يحرض الكتّاب على التخلي عن ثقل الأعباء والضغوط الاجتماعية والثقافية والسياسية، وحتى الدينية التي يرزحون تحت نيرها، والبدء بالكتابة من لحظة البياض، وفي ظن بارت أنه بهذا الخيار الضروري تتكثف الكتابة، وتحفر عن المعنى الجوهري لما تود التعبير عنه بكامل طاقتها وحريتها. يميز بارت بين الكتابة والكلام، ويعطي للأولى أهمية من ناحية أنها تمنح الذات معنى إضافياً يجعلها ذاتاً تاريخية، وأنها متجذرة في ما وراء لغة، وهذا يفرض على الكتابة أن تعي صيرورتها التي تعني في المقام الأول التحرر والانعتاق وتجاوز اللحظة الضاغطة. أما الكتابة في درجة الغليان، فإنها مضطرة إلى التخلص من هذه الضوابط جلها وفاءً للحظة التعبير الساخنة. فالكتابة، ها هنا، هي حاملة أشواق البشر، وليس عليها أن تنتظر نهاية العذابات حتى تكتب، أو تقدم مرافعتها التاريخية من خلال الأدب. لا بد، إذاً، كما يقول أنصار هذا الاتجاه، من أن تكون الكتابة سلاحاً في المعركة.
في الحرب المشتعلة في غزة التي قتلت البشر وحرقت الشجر وصهرت الحجر، وفي ما بعد في لبنان، لم يقف الكتّاب كلهم ينزفون صمتاً وقهراً وعجزاً، بل ذهب بعضهم إلى التعبير عن أهوال المحرقة الوحشية بشعر ورواية وموسيقى، وأشكال التعبير الإبداعي الأخرى، من دون التوقف حتى نهاية الحرب (التي لا يبدو أن لها نهاية) والتأمل في ارتدادات زلازلها. ومن حق معلقين أن يتساءلوا عن كيفية "التعبير المقطعي" عن نار ما زالت تشتعل، أو عن ركام لم يتمكن المسعفون من انتشال الجثث تحته. هل يعبر هنا الجزء عن الكل؟ وهل بيت مهدم يمثل نواة المدينة المدمرة، وهل ذراع طفل منتزعة من جسده كافية للتعبير عن معنى الألم العميق الذي يثقب ذاكرة الإحساس الإنساني؟.
شرق أوسطنا المنكوب بالحروب والعواصف شهد محطات عدة اضطر معها الأدباء إلى خوض المعركة بكتاباتهم، في شكل من أشكال الإسناد النفسي. فخلال "انتفاضة أطفال الحجارة" في فلسطين عام 1987، جرى التعبير عن هذا الحدث الفريد بقصائد من شعراء كبار مالوا إلى المنبرية واللغة الهادرة الغاضبة المحرضة، كما فعل الشاعر نزار قباني في "ثلاثية أطفال الحجارة"، وكما فعل الشاعر سميح القاسم في قصيدة "تقدموا"، في وقت كتب الشاعر محمود درويش قصيدة "عابرون في كلام عابر"، وسواها. ودخل شعراء وأدباء عرب كثيرون في الملحمة الأسطورية التي رفعت أطفال فلسطين إلى مرحلة التقديس والألوهية. وساد إحساس في تلك الآونة بين الأدباء العرب أن من لا يكتب عن الانتفاضة، فهو إما عاجز عن التعبير، أو متواطىء مع العدو، مما جعل نهر التعبير يتدفق من دون حواجز، ولم يتكرر تمجيد الحجارة في الشعر العربي، كما جرى في تلك الانتفاضة.
كان نهر التعبير بلا ضفاف، خصوصاً مع دعوة شاعر وأديب بوزن ممدوح عدوان إلى كتابة الشعر الرديء، ما دام هذا الشعر عن أطفال الحجارة. لقد طغت الحماسة الثورية على كل قوانين الكتابة وشروطها الإبداعية. ومن نجا من تلك التجربة الوجدانية الجارفة كان قليلاً، ومن بينهم محمود درويش الذي لم يتورط، حتى أذنيه، في النشيد الملحمي المنفلت من عقاله، وظل ممسكاً بمهارة بالبوصلة الفنية لأن عينه كانت على التاريخ.
وبين التورط في الكتابة في درجة الغليان التي قد تفرط بالجمالي على حساب السياسي والجماهيري والتي تنشد القول لا التعبير، وبين الانتظار حتى انقشاع غبار المعارك... بين هذين الخيارين يكمن معنى الأدب وماهية التعبير الفني والإبداعي. ثمة من يعتقد بأن من لا يلبي الخيار الأول ويندغم فيه حتى الثمالة، يتخلى عن الجمهور، ويلوذ بالعزلة التي مآلها النسيان والخروج من ملعب الكتابة. أما من يختار التأمل التراجيدي في المأساة، فقد يربح التاريخ، لكنه يخسر سخونة التعبير عن الدم النازف والآهات المخنوقة والرجاء المرتجف. ثم إن الخيارين السابقين يطرحان السؤال عن وظيفة الأدب، أليس في انتظار سكوت المدافع تماهياً للأديب مع المؤرخ؟ ثم ما الذي سيجنيه الأديب إن هو كتب في أول الحريق أم في منتهاه، فالألم هو الألم، والخوف في البداية هو شقيق اليأس في المنتصف والخاتمة؟.
الأديب الذي لا يتحرك الحبر في قلمه في ذروة توهج الموت وانطفاء الحياة في عيون الضحايا، ليس خائناً للقضية العادلة، بل هو مكبل الحواس ومؤمن بأن لا طاقة تعبير في الكون تستطيع الإحاطة بهذه الإبادة. إنه أبكم ومشلول، ويغبط من يستطيعون تحمل تحويل مشاهد القتل الفادحة والفاحشة إلى سرد وصور فنية... حتى الصراخ يحتاج إلى مقدرة، وهو عاجز عن ذلك أيضاً.
محمود درويش استهل قصيدته "ملهاة الفضة، مأساة النرجس" التي كتبها عن أطفال الحجارة، بالقول:
عادوا ..
من آخر النفق الطويل إلى مراياهم... وعادوا
حين استعادوا ملحَ إخواتهم...فرادى أو جماعات.. وعادوا
من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلامْ ..
لن يرفعوا "من بعدُ" أيديَهم ولا راياتهم للمعجزات إذا أرادوا ...
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم، ويرتبوا هذا الهواءْ
ويزوجوا أَبناءهم لبناتهم، ويرقّصوا جسداً توارى في الرخامْ
ويعلقوا بسقوفهمْ بصلاً... وبامية... وثوماً للشتاءْ".
لكّن درويش بعدما ابتعد من الحدث، ومضى يرتب هواء قصيدته التي سيكتبها في درجة الصفر، أنجز قصائد تأملية وفلسفية صافية عن الحدث الملحمي بعد عقدين على تفجره، فزاده بهاء وأدخله باقتدار في فلك الأدب الإنساني الخالد. لم يعُد أطفال الحجارة مجرد فتية فلسطينيين يقاومون بأبسط الأدوات وأكثرها قِدماً وبلاغة، بل صاروا أسطورة. وهذا طموح الواقعي، ونشيد ظله العالي.