المرجع الأعلى: تأمل في مرحلة ما بعد السيستاني
23-أيلول-2024

زاهر موسى

الحلقة الأولى

من سيخلف السيستاني؟ من هُم المرشّحون؟ هل جميعهم يعيشون في النجف؟ كيف سيتم اختيار المرجع الأعلى أصلاً؟ وما الذي يحتاجه رجل الدين ليكون مرجعاً أعلى؟ هل سيستقرّ الأمر على مرجع طاعن في السن، تبدأ مرحلته بالتحضير لمن سيخلفه؟ تأمُّلٌ في مرحلة ما بعد السيستاني.
دخول : سيكون يوماً صعباً واستثنائياً، بكل المقاييس، على العراق أولاً وملايين الشيعة “الاثنَي عشرية” في العالم أجمع ثانياً، يوم رحيل المرجع الديني علي السيستاني عن الحياة، ليس لأنه رجل الدين الوحيد في حياة الشيعة، بل لأنه أبرزهم على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة، ويتّبعه العدد الأكبر من الأتباع-المقلّدين- قياساً بغيره من رجال الدين.
في ذلك اليوم، سوف ينحسر، بالضرورة، أثرُه الشخصي على الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط والعراق على وجه الخصوص، ويضع هذه الطائفة الدينية، بأكملها، أمام قراءة جديدة للواقع من قبل رجل دين واحد (أو أكثر) ستترك بصمتها في حياة الكثيرين لسنوات أو عقود مقبلة، كما حدث مع أسلافه وبمقدمتهم السيستاني الذي التصق به وصف (زعيم الشيعة في العالم) الأمر الذي عزّزته زيارة البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، له في داره البسيطة بزقاق متفرّع من شارع الرسول بمدينة النجف في العراق.
مع بلوغه الـ 94 من العمر، لن يكون غريباً، التأمّل بمشهد ما بعد السيستاني، و محاولة حصر وتبسيط المفاهيم الشيعية الأساسية التي تؤثر في اختيار خليفة زعيم الشيعة، ومعرفة دور الظروف الدينية والسياسية في اختياره.
السيستاني، من هو؟
على الرغم من نسبته إلى إيران وإلى مدينة سيستان تحديداً (كانت تسمى سجستان في المدونات التاريخية) لكنْ علي بن محمد باقر بن علي الحسيني من مواليد مدينة مشهد عام 1930 م، ويبدو أن سرّ هذا الانتساب إلى المدينة الإيرانية ذات الغالبية السنية من عرقية البلوش، هو تولّي أحد أجداد السيستاني مسؤولية القضاء فيها إبان العهد الصفوي، إلّا أنّ الغالب على حياة أسرته هو التنقل بين العراق وإيران، وبين مدن مشهد والنجف وسامراء بشكل أساسي، ولم تغب الأسرة عن العراق طويلاً، فبعد عودة جد السيستاني المباشر عام 1900 م إلى إيران، مُنهياً عقوداً من الدراسة الدينية، رجع الحفيدُ إلى العراق عام 1950 م ليقضي فيه بقية عمره.
بالإضافة إلى أنه ينحدر من سلالة أشراف، تتصل بنبيّ الإسلام وأئمة التشيُّع، فإن غالبية أجداده كانوا من رجال الدين، حيث يتصل نسبه بـ أبي عبد الله الحسين الأصغر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان لأجداده حكم منطقتي طبرستان وقزوين بين عامي 1460 و1473 م، كما أن من بين أجداده محمّد باقر المير داماد أحد أبرز فلاسفة ومراجع الشيعة في القرن السادس عشر.
كان يبدو أن علي السيستاني الشاب كان عبقريا في مجال الدراسات الدينية الشيعية داخل مدارس هذه الطائفة التي تسمى الواحدة منها بـ الحوزة، إذ يشي تتبعُ بداياته بالكثير من المحطات الاستثنائية داخل هذا العالم.
قبل مغادرته مدينة مشهد، حين كان في العقد الثاني من عمره، حضر السيستاني عدداً من بحوث الخارج (المستوى الأعلى من الدراسات الدينية الشيعية)، عند أسماء مهمة في الاعتبارات الشيعية الدينية، مثل الميرزا مهدي الآشتياني والميرزا هاشم القزويني، وحينما ذهب الى مدينة قم حضر البحث الخارج لدى مرجع الطائفة وزعيمها في ذلك الوقت حسين البروجردي بالإضافة الى أستاذ مهم آخر هو محمد حجت الكوهكمري.
وسرعان ما التحق السيستاني، بُعيد وصوله إلى العراق عام 1950، بدرس البحث الخارج عند أربعة من أهم فقهاء الشيعة هم محسن الحكيم (الذي سيكون زعيم الشيعة بعد ذلك بعقد) وأبو القاسم الخوئي (الذي سيكون زعيم الشيعة بعد ذلك بعقدين) وحسين الحلي أحد أبرز أساتذة الحوزة النجفية عبر التاريخ.

بعد أن حطّ رحاله في العراق بعقد بالضبط، حلّ عليه عامٌ مميز، 1960، حين حصل على شهادة الاجتهاد المطلق من أُستاذَيه الخوئي والحلّي، في وقت لم يصل أقرانه لتلك العتبة، بعدها بعام، وفي عام 1961، بدأ السيستاني درسه الخاص على مستوى البحث الخارج والذي سيستمر ما يقارب أربعة عقود لاحقاً، وخلال عقود الستينيات والثمانينيات ذهب الى الحج ثلاث مرات، أولاها كان في عام 1966 م وثانيها في عام 1985 والثالثة في عام 1987، وكانت هذه الرحلات، بالإضافة لرحلة علاجية عام 2004، هي المرات الوحيدة التي غادر فيها العراق على مدى أكثر من سبعين عاماً.
في السنوات الأخيرة لحياة أستاذه الخوئي (زعيم الشيعة من 1970 وحتى 1992) كان السيستاني قريباً منه – وإن لم يتولَّ مسؤولية في مكتبه الذي يرتبط بوكلاء المرجع المنتشرين جغرافيا في عموم العالم ويصطلح عادة على هذا التكوين بمسمى (جهاز المرجعية) – وبحكم هذه العلاقة الخاصة بين الأستاذ وتلميذه فقد طلب منه عام 1989 الصلاة بالناس جماعة بدلا عنه بسبب مرضه وشيخوخته – بلغ الخوئي حينها 89 عاما – في جامع الخضراء بالنجف حيث درّس وصلّى لأكثر من 50 عاماً، وكانت هذه الإنابة اشارة فهمها الشيعة المتدينون على أن السيستاني هو الخليفة المحتمل للخوئي، وبرغم زلزال غزو الكويت وانتفاضة 1991 وما تعرضت له مرجعية الخوئي والقريبون منها من اعتقالات ونقل الى بغداد، بقي أثر هذه الإشارة، وأصبح أشد وقعاً حينما صلّى التلميذ على جثمان أستاذه بعد وفاته عام 1992 ليدخل الشيعة، بعدها بفترة، في مرحلة زعامة السيستاني المستمرة حتى الآن.
ولأن أوان السؤال عمّن يخلفه آن، بحكم حتمية الموت وكِبر السن، لا بد من استدعاء أسئلة أخرى، أسئلة ضمنية أو لصيقة بعضها، فمع الاستفهام عن طريقة انتقال الزعامة هذه، وإذا ما كانت هنالك معطيات لمتنافسين مستقبليين، لا بُدّ من توضيح مفاهيم أساسية مثل (الاجتهاد، التقليد، الأعلمية، أهل الخبرة) وقراءتها ضمن أفقها الزماني والمكاني والتأثير الاجتماعي والسياسي لها وعليها، وعبر تكثيف واعٍ يتجاوز التفريعات غير ذات الصلة.
الاجتهاد : كان المسلمون عامةً يأخذون أحكامهم الدينية والحياتية في المسائل كافة كـ(الصلاة والصيام والحج والزكاة والزواج والبيع والإرث والديات والحدود وغيرها) من النبي محمد في حياته، ثم من صحابته ومن تبعهم بعد وفاته.
لكنّ عدداً من صحابة النبي، اضطُرّوا لإنتاج أحكام جديدة حينما واجهتهم مسائل لم تكن موجودة في حياة نبيّهم اعتماداً على العقل وهذه هي بداية الاجتهاد، الذي تعددت تعريفاته بين المذاهب، لكنّ المتفق عليه بينهم هو أن المقصود بعملية الاجتهاد بذل الجهد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية، غير أن كِلا المذهبين يختلفان في أسلوب الاجتهاد وأدواته ومساحة نفوذه الشرعية.
بالنسبة لأهل السنة والجماعة، فقد استمر الاجتهاد طيلة حياة الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم حتى وقت قريب بعد وفاة آخر الأئمة الاربعة لأهل السنة وهو الإمام أحمد بن حنبل في عام 855 م.
أما الشيعة فلم يستعملوا مصطلح “الاجتهاد” إلّا متأخراً في القرن السابع الهجري، وكانوا قبل ذلك يستعملون مصطلح “التفقُّه”، ذي الدلالة الأضيق، إذ لم يؤمّن الشيعة بذلك منذ حياة النبي في القرن السادس الميلادي وحتى غياب إمامهم الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي في القرن التاسع الميلادي، حيث اعتبروا أئمَتهم امتداداً للنبوة ولم يكن لديهم سبب يدعوهم للبحث عن دليل يدعمون به الأحكام الشرعية التي يحتاجونها أمام المسائل الجديدة التي تمرّ بهم والتي يأخذونها من أئمتهم مباشرة.
وبسبب الحاجة إثر غياب الإمام الثاني عشر للشيعة، ومنذ العياشي المتوفى في القرن التاسع الميلادي، بدأ الاجتهاد عند الشيعة يتبلور ويتحول إلى قطب الرحى في عملية إنتاج الفتوى الدينية، وخلال القرون العشرة اللاحقة أصبحت للمفهوم قواعد ومراحل ومحددات وضوابط تؤثر في اختيار زعيم الشيعة ضمناً.
التقليد : على الجانب الآخر من الاجتهاد يقع التقليد، فكما أن علماء الدين الإسلامي من السنة والشيعة مطلوب منهم الاجتهاد، بغض النظر عن أسلوبه وحدوده، فكذلك على الناس عموما ممّن لم يدرسوا الدراسات الدينية، أن يتبعوا رأي عالِمٍ ما، وهو ما يُصطلح عليه بـ(التقليد)، وفي ما يخص الشيعة الإثني عشرية فإن عمل الإنسان لا يُقبل إن لم يكن مُقلداً لرجل دين محدد يصطلح عليه بـ(المرجع).
وعلى هذا الأساس ينقسم المجتمع الشيعي في كلّ مكان إلى مراجع ومقلدين والقِسم الثاني يعود إلى الأول بكل شيء، ما عدا العقائد أو أصول الدين كـ (التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد) التي لا تقليد فيها، وقد تطورت هذه العلاقة بين رجل الدين الشيعي ومقلديه من الناس إلى آصرة مهمة في ديمومة المذهب عبر القرون، ولأهميتها فقد وضعت قواعد دقيقة يسير عليها الإنسان العاديّ كي يصل إلى رجل الدين المناسب من أجل تقليده.
والعادة الجارية أن يطرح المُقلِد سؤاله على المرجع في إطار ما يُصطلح عليه بـ(الاستفتاء) ليجيب المرجعُ بما يُصطلح عليه بـ(الفتوى)، وتتنوع مستويات الفتاوى بحسب مضامينها، فيمكن أن تتناول مسائل تتعلق بطهارة الإنسان مثلاً، وتصل أحياناً إلى كيفية اختيار رئيس أو مواجهة قوى خارجية.
وغالباً، لا يطرح المرجع رأيه دون سؤال، لكنْ بعض المراجع لجؤوا إلى افتراض الأسئلة الأكثر احتمالاً، وأجابوا عنها في كتب أصدروها، يُصطلح على الواحد منها بـ(الرسالة العملية) من أجل تسهيل المهمة على مقلديهم في كل مكان وزمان.
الأعلمية وأهل الخبرة : كما أشرنا سابقاً، فإن للتقليد عند الشيعة شروطاً واضحة، وأهمها أن يقلّد الانسان العاديُ الأعلمَ من بين المراجع الأحياء الحائزين على مرتبة الاجتهاد، ولصعوبة إدراك البسطاء من هو الأعلم من بين الفقهاء فعليه حينها سؤال طائفة من رجال الدين يُصطلح عليهم بـ(أهل الخبرة)، ولهؤلاء ميزات محددة، أهمها حضورهم واطّلاعهم على دروس الفقهاء المشاهير وقدرتهم على تحديد من هو الأعلم من بينهم على ضوء الإمكانات العلمية في حقلي الفقه والأُصول وهما فرعا الدراسات الدينية الشيعية الأهم، ومن صفاتهم الغالبة كونهم أساتذة في الحوزة أو رجال دين بلغوا الاجتهاد لكنهم لا يتصدون لمهام الإفتاء وليس لهم مقلدون، وأحياناً يكون أهل الخبرة طلبة متقدمين في درس البحث الخارج وقضوا فيه سنوات طويلة وإن لم يكملوه بعد. وفي العادة يلجأ عوام الشيعة إلى وكلاء المرجع الأعلى المتوفى حديثا لسؤالهم عن أهل الخبرة، حيث يتركز أفراد هذه الفئة في النجف بالعراق وقم بإيران -موقعَي الدراسة الأبرز حالياً عند الاثني عشرية- وخلال 100 عام خلت، كان أهل الخبرة يميلون بغالبيتهم إلى مرجع ديني أعلى بعينه وينصحون الناس بتقليده، بل ربما اتفقوا عليه في أواخر حياة المرجع الأعلى استباقاً لموته وخشية تفرّق الناس وعدم استقرار الأمور.
يتّفقُ عدد كبير من مراجع الشيعة على أن موقع “الأعلمية” أو منصب المرجع الأعلى أو زعامة الشيعة الدينية بشكل عام، تحتاج الى ما هو أكثر وأكبر من التفوّق العلمي، فمن الدلائل على ذلك جواب الفقيه المعروف محمد الفشاركي الأصفهاني المتوفّى في النجف سنة 1899، حينما عرض عليه عدد من الشخصيات الشيعية البارزة تولي الزعامة بعد وفاة استاذه الميرزا الشيرازي الكبير عام 1895 م حيث صدمهم حينما قال: “أنا أعلم أنّي لست أهلاً لذلك؛ لأن الرئاسة تحتاج إلى أمور غير العلم بالفقه والأحكام من السياسات، ومعرفة مواقع الأمور”، حسبما ورد في كتاب «تكملة أمل الآمل» للمؤلف حسن الصدر .
يضاف إلى ذلك المسؤوليات الكبيرة التي تقع على عاتق زعيم الشيعة، من قبيل التصرف في ما يعرف بـ(سهم الإمام) أو (الخُمس) ويُصطلح عليه أحياناً بشكل شامل بـ (الأموال الشرعية) وهي الأموال التي يقدمها الشيعة له ضمن سياق تعبُّديّ ديني، حيث يجب عليه إنفاقه في إدامة مؤسسات المذهب الشيعي الدينية ورعاية الفقراء وغيرها من الأمور، وهذه المسؤولية تتطلب وَرَعَاً وزهداً ونزاهة، بالنظر لحجم هذه الأموال الكبير واستمرارية تدفقها منذ زمن الإمام الكاظم سابع أئمة الشيعة الاثني عشرية وحتى الآن.

النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech