حسين فوزي
مر يوم 14 تموز هذه السنة شأنه شأن أي يوم أخر، برغم أنه اليوم الذي أعلن فيه قيام النظام الجمهوري، بعد ان كان العيد الوطني للشعب العراقي، لم تتجاهله 3 جمهوريات، بعد جمهورية عبد الكريم قاسم.
ومعروف جيداً، على الصعيد الداخلي، توجد شرائح اجتماعية مؤثرة لديها "ثأر بائت" مع جمهورية 14 تموز، فهي من اصدرت قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 الذي جرد كبار الاقطاعيين من مساحات شاسعة من الأراضي، وكان من قبله قد جرد شيوخ العشائر من سلطتهم الاستثنائية بإلغاء قانون دعاوى العشائر بعد 14 يوماً فقط من إسقاط النظام الملكي. ضمن الوعي بأن هذا القانون يتعارض مع روح الدستور عندما يميز بين المواطنين أمام القضاء المدني، ويمنح شيوخ العشائر سلطة الفصل في منازعات المواطنين على أساس انتمائهم العشائري وليس على وفق ما نص عليه الدستور المؤقت للجمهورية الفتية في مادته التاسعة بان "المواطنين سواسية امام القانون في الحقوق والواجبات ولا يجوز التمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس او الاصل او اللغة او الدين او العقيدة".
وبجانب هذا العامل الداخلي المعادي لـ الجمهورية العراقية الأولى بزعامة اللواء الركن عبد الكريم قاسم، هناك عامل رئيس خارجي شديد الفعالية هو شركات النفط المتضررة من قانون رقم 80 لسنة 1961، الذي حجم استحواذها على العراق، وفتح افقاً رحباً جديداً للاستثمار الوطني والمشترك للثروة النفطية، وهو شق لعصا الخنوع لإرادة الشركات النفطية متعددة الجنسيات بك الطموحات المشروعة المتسرعة ل ما تمثله من قوى دولية مدججة بالسلاح والنفوذ وادواتهما الاستخبارية المدمرة. وهو الأمر الذي كان يدركه قاسم تماماً حين خاطب مجلس الوزراء عند توقيعهم على القانون قائلاً "لقد وقعتم قانون اعدامكم.."، بجانب الدور الرئيس لعراق 14 تموز في إقامة منظمة البلدان المصدرة للنفط، وتغيير معادلة تحكم الشركات النفطية بتحديد سعر برميل النفط إلى معادلة جديدة، تقتطع جزءاً كبيراً من الأرباح الطائلة لتلك الشركات.
يضاف إلى هذه الأبعاد الأساسية من منجزات 14 تموز، انفتاح العراق الجمهوري على المعسكر الاشتراكي وإقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي وبقية أوربا الشرقية والصين الشعبية، وبدء تبادل تجاري متصاعد، ضمنه تسليح الجيش العراقي بالأسلحة السوفيتية. في خضم حرب باردة مستعرة، بفعل تصاعد حركة التحرر الوطني وانتصاراتها في افريقيا واسيا وأميركا اللاتينية، بالأخص قيام جمهورية كوبا الديمقراطية الشعبية عند خاصرة الولايات المتحدة.
وكانت هناك الطموحات القومية في وحدة العرب التي يتزعمها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتدعو لها بصوت عاطفي عال مسموع إذاعة صوت العرب ومديرها احمد سعيد، الذي بدأ استهدافه للنظام الذي يقوده الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، مع بدء النزاع العلني بين دعاة الوحدة الفورية وفارسها المقال العقيد الركن عبد السلام عارف، ودعاة الاتحاد الفدرالي الذي تصطف ضمنه قوى سياسية متنفذة يتزعمها رئيس الوزراء.
وبقدر ما كانت الوحدة العربية طموحاً تاريخياً للعرب منذ الثورة العربية الكبرى بزعامة الشريف الحسين، فأن تحقيقها كما اثبتت التجارب ليست مجرد عواطف جياشة، استفرغتها الممارسات العملية في التطبيق حتى أودت بالجمهورية العربية المتحدة، بانفصال سورية.
وهكذا كان هناك اصطفاف غير متجانس: الاقطاعيون وشيوخ العشائر وشركات النفط وعواصم دولها الغربية، وشرائح من المؤمنين المتخوفين من الشيوعية، بجانب القوى القومية الداعية لوحدة البلاد العربية...بكل ما يعنيه هذا الاصطفاف من تعدد الموارد المالية للتحرك المعادي لـ جمهورية 14 تموز.
ومن الجانب الاخر، كان الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى برزاني، قد بدأ يتململ، بتشجيع من طهران وشركات النفط بأساليبهما الملتوية، من تحفظ الزعيم على تلبية مطالبه بشأن الحكم الذاتي لكردستان، واصطف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الحزب الشيوعي في تبني شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان"، بدون اية حسابات لطبيعة موازين القوى داخل الجيش العراقي والإقليمية، بالأخص الموقف المتشدد لتركيا اتاتورك وجيشها من المسألة الكردية، بجانب موقف طهران الذي كان قد سطر بعضاً منه في الوآد الدامي لجمهورية مهاباد عام 1946، واعدام زعيمها قاضي محمد ورفاقه في 31 اذار1947 في نفس ساحة جوارجرا (الأسود الأربعة) التي اعلن فيها عن قيام جمهورية كردستان إيران.
هكذا كانت "الجمهورية العراقية الخالدة" بزعامة الفريق عبد الكريم قاسم تواجه قوى معادية تمتد من الرجعية المحلية للإقطاع والعلاقات الاجتماعية المتخلفة وعدم احترام المرأة والطفولة، مروراً بقوى شركات النفط والسلاح الغربية متعددة الجنسيات، بجانب قوى الطموح القومي المتعجل للقوميين العرب والكرد في العراق.
ولعل مما زاد في زخم التحرك المعادي أن زعيماً ديمقراطياً عريقاً مثل الأستاذ كامل الجادرجي تعامل مع سلطات الجمهورية منطلقاً من تجربته مع بكر صدقي وتخوفه من تسلط العسكر في إدارة شؤون العراق، بدون تعمق في تشخيص الفوارق الجذرية بين تسلط الفريق بكر صدقي بعيداً عن اية مضامين اقتصادية-اجتماعية، وبين سلطة 14 تموز بكل ابعادها الوطنية الديمقراطية، برغم طبيعة الحكم الفردي، وليس الديكتاتوري كما طاب لكل الأطراف في حينه بوصف سلطة اللواء عبد الكريم قاسم. كما كان للشاعر الكبير المؤثر محمد مهدي الجواهري نقيب الصحفيين دوره في تسعير الخلاف بين القوى المدنية الديمقراطية والسلطة، وتصوراته في احقيته بأن يكون رئيساً للبلاد.
هدرنا الفرصة ونبكيها
وكان لزعامة الحزب الشيوعي العراقي، سلام عادل ومعه مسؤول التنظيم العسكري عطشان الازيرجاوي، تصوراتهما بشأن ضرورة انتقال ثورة 14 تموز من البرنامج الديمقراطي خطوة للأمام نحو نظام ديمقراطي شعبي متوجه نحو الاشتراكية، فكان مطلب "الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ" في أيار 1959، ثم المحاولة غير المنفذة لتجريد عبد الكريم قاسم من سلطاته، وإقامة سلطة شعبية، حال دون تنفيذ مفرداتها كاملة المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وترجيح كفة بهاء الدين نوري وزكي خيري وعامر عبد الله محمد حسين ابوالعيس، وتأكيد ضرورة التمسك بالتعامل مع الزعيم بمعادلة "تضامن – كفاح – تضامن، بمعنى المساندة مع النقد والتمسك بالمساندة، الذين صفاهم سلام عادل بعد عودته من الدراسة الاجبارية 95-1961، تحت لافتة "حزب شيوعي لا يمينية ذيلية" وطرحه شعار "كفاح – تضامن- كفاح"، وتحري سبل تنفيذ التغيير الذي تطلع له عام 1959، من منطلق تصوره أن قاسم مثل كيرنسكي في الروسيا القيصرية بعد ثورة شباط 17 الديمقراطية، التي تصدى لدفعها لينين وتروتسكي خطوة كبرى للأمام بقيادة ثورة أكتوبر الاشتراكية.
وفي خضم هذه المواجهات، وغياب ناصحين مؤثرين عدا المرحوم محمد حديد زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي، أقدم قاسم على تجريد العسكريين الشيوعيين والكرد من مسؤولياتهم في الوحدات العسكرية الفعالة، وقبلها اعدام مجموعة الضباط القوميين على اثر حركة الشواف في الموصل عام 59، لجأ إلى إعادة الضباط القوميين والبعثيين إلى وحدات عسكرية فعالة ومفاصل مؤثرة في قيادة القوات المسلحة ضمنها رئاسة الأركان، حيث كان المقدم الركن صبحي عبد الحميد على سبيل المثال مدير الحركات العسكرية.
لم تكن زيادة أسعار البانزين 5 فلوس السبب الحقيقي وراء اضراب سواق السيارات، ولا اضراب الطلبة الذي قاده الاتحاد العام للطلبة بقيادته البعثية القومية، تعبيراً عن طموح في إقامة سلطة ديمقراطية، إنما وظفت نقائص سلطة قاسم من قبل القوى الإقليمية وشركات النفط والقاهرة والرجعيين المحليين لتمهيد اسقاط قاسم، في ظل عزلته عن حلفائه الذين أضعفهم.
اليوم تتذكر قوى عديدة، في مقدمتها اليسار وحلفاؤه، مناقب جمهورية عبد الكريم قاسم، وهم في تعدادهم لكل المناقب والحسنات، في مقدمتها النزاهة والتجرد وسرعة انجاز مشاريع كبرى سكنية وزراعية وصناعية واجتماعية، وتخطي المحظورات الطائفية الخفية في توزيع مناصب الدولة وقيادة الجيش، تدفعني للتساؤل لماذا لم تجسد هذه المواقف في دعم حكم الزعيم بدون التورط في تحركات تعزز تشكيك خصومه بالقوى المدنية الديمقراطية، بالتالي تسلل الرجعيين والقوميين إلى مفاصل مكنتهم من الانقلاب الدامي في 8 شباط الأسود؟؟!
بحاجة إلى تسميات قريبة من البسطاء
--------
لست هنا بقصد التعريض بأي طرف، إنما الهدف هو استيعاب حقيقي لأخطاء التعامل مع الجمهورية الأولى، والوعي بأن الأفكار الرائعة للاشتراكية والعدالة والديمقراطية سهل الحديث عنها، لكن تطبيقها بحاجة إلى قاعدة مادية، صناعة وزراعة مؤللة وكهربة الريف، تنبت جماهيرية للفكر الديمقراطي التقدمي وتحوله إلى سلوك عملي، وهذا كانت بداياته الإصلاح الزراعي والخطة الخمسية للصناعات الخفيفة وبناء مدن توطين العشوائيات من الصرائف والمهجرين...
إن الانتصار لمسيرة ديمقراطية تقدمية تؤمن بعدالة توزيع الموارد تستدعي حزباً فاعلاً، او تجمع أحزاب، تكون اسماؤها معبرة عن طموح جماهيري قريب وسيط المدى، وليس تسميات معلقة في هوى تطلعات مثقفين معزولين حالمين بتنفيذ الاشتراكية العلمية، في ظل غياب طبقة عاملة حقيقية وليس حرفيين وموظفين يعتاشون على الريع النفطي، ومزارعين وفلاحين يعتمدون على تسهيلات السلطة لمواصلة الإنتاج، وليس حرث الصخور والأرض البكر لتحقيق انتاج مجدٍ.
انزلقنا في التنديد بسلطات الجمهورية الأولى وعيوب حكمها الفردي بدون توفر اية مقومات حقيقية لإقامة بديل، سوى الوهم الذي أدى على سبيل المثال إلى تولي حزب الشعب الديمقراطي في أفغانستان بزعامة نور الدين تراقي السلطة "الديمقراطية الشعبية"، في بلد تسوده البداوة، والمضاعفات اللاحقة للتدخل العسكري السوفيتي، الذي تحول إلى فخ أدى ليس فقط لسقوط التجربة الديمقراطية الأفغانية، إنما عجل في سقوط الاتحاد السوفيتي نفسه.
التحدي الكبير ..هل هناك من يعي ما تحتاجه المرحلة لدعم التحولات الإيجابية على طريق الإصلاح والتغيير اليوم، أم سنظل نتحدث بأفكار منقولة من الكتب عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وعدالة توزيع الثروة الوطنية، حيث غابت كل قوى الإنتاج المحلي تقريباً، عدا ما يدعم استخراج النفط وتصديره، وتقلص تعداد العمال والفلاحين من الكادحين وفق التوصيف الاشتراكي العلمي، في ظل زيادة مروعة للسكان وتفاقم مشاكل اجتماعية اقتصادية لم يعرفها العراق لا في العهد الملكي ولا الجمهورية الأولى بزعامة المرحوم الفريق الركن عبد الكريم قاسم.
نحن نشارك في ضياع الفرصة بسبب أوهام الحماس لنبكي ضياعها مع الأسف!!؟