هوفيك حبشيان
بين الغث والسمين من الافلام في دورة هذا العام، توج مهرجان "كان" الفيلم الأميركي "أنورا" بالسعفة الذهبية، ورد الاعتبار إلى السينما الهندية بالجائزة الثانية، وكرم المخرج الإيراني محمد رسول آف الذي تمكن من الهروب من بلاده إلى المهرجان.
بعد 13 عاماً على آخر فوز أميركي، عادت "سعفة" مهرجان "كان" السينمائي الذي اختتم دورته الـ77 مساء أمس السبت إلى أميركا، مع نيل المخرج شون بايكر إياها عن فيلمه "أنورا" الذي كان نافس 21 فيلماً من جنسيات مختلفة ضمن مسابقة ترأست لجنة التحكيم الخاصة بها الممثلة والمخرجة الأميركية غريتا غرويغ صاحبة "باربي". السينما الأميركية هي الأكثر فوزاً بالجائزة المرموقة عبر التاريخ، إذ نالت إلى اليوم 13 منها، وكان آخرها عام 2011 عندما أُسندت إلى ترنس ماليك عن "شجرة الحياة".
شون بايكر ذاع صيته كأحد ممثلي تيار السينما المستقلة في الولايات المتحدة، هو في الـ53 اليوم، وسبق أن شارك في "كان" بأفلام عدة، آخرها "صاروخ أحمر" في المسابقة قبل ثلاث سنوات. جديده "أنورا" أشاد به كثير من النقاد كأحد أقوى أفلام المسابقة. بدا الأوفر حظاً في إغواء غرويغ لأنه يحمل شيئاً من روح السينما المستقلة، ومن المعروف أن غرويغ تأتي من هذه السينما، مع التذكير بأن القرار ليس في يدها وحدها. هذه الجائزة تُعد انتصاراً للسينما الأميركية المستقلة المثابرة التي تأتي من خارج نظام المصنع الكبير، وشكّل عرضه في المسابقة أشبه بنسمة هواء منعش. يطرح الفيلم مواضيع مثل الصراع الطبقي والتنصل من المسؤولية عند الأثرياء، مع الانتصار لقضية عاملات الجنس ووصمة العار المرتبطة بهن والنظرة المجتمعية إليهن. ولم يتوانَ بايكر خلال تسلمه الجائزة من يد جورج لوكاس، عن توجيه رسالة قال فيها إنه من أجل الاستمرار بالسينما، فعلى الأفلام أن تُعرض في الصالات"، الكلمة التي نالت تصفيقاً حاداً من الجمهور.
أنورا (ميكي ماديسون)، أو آني اختصاراً، اسم الفتاة التي تقوم ببطولة الفيلم. إنها متعرية في أحد نوادي الليل في نيويورك وتقدم خدمات جنسية لزبائنها. تتعرف ذات مساء على إيفان (مارك أيدلستاين)، ابن عائلة ثرية من الأوليغارشية الروسية. وهكذا تنشأ علاقة بينهما. الشاب طائش متهور أفسده مال الأهل الكثير والامتيازات التي يحظى بها، من دون أن يضطر إلى العمل. بعد بضعة أيام يمضيانها معاً، مقابل مبلغ كبير من المال يعطيه إيفان إلى أنورا، يطلب منها خلال وجودهما في فيغاس أن تتزوجه، فتوافق لما في ذلك من فائدة مالية. لكن الأمور تتطور على نحو يتجاوز التوقعات، عندما يعلم الأهل بهذا الزواج، فيتم تكليف ثلاثة رجال لفك الارتباط وحل المشكلة مهما كلف الثمن.
الفيلم يبدأ بقصة قد تبدو رومانسية من الصنف الذي نراه في أفلام المراهقين، ثم يدخل في مزاج آخر كلياً، مع دخول الرجال الثلاثة على الخط وبحثهم عن إيفان بالتعاون مع أنورا. هذا البحث يفضي إلى سلسلة مواقف كوميدية يصورها المخرج بذكاء شديد، مستخدماً حساً ساخراً أقرب إلى الرسوم المتحركة، بشخصيات قاسية ولكن غير خطرة أو شريرة. هذا كله يعكس قدرة عالية في بناء خطاب بعيداً من الكليشيهات والتوقعات، مع لعب صريح برموز الفيلم الرومانسي التقليدي. باختصار، ما أنجزه شون بايكر مع "أنورا" هو ضربة معلم!.
الجائزة الثانية من حيث الأهمية، أي الـ"غران بري"، ذهبت إلى الفيلم الهندي "كل ما نتخيله كضوء" للمخرجة الشابة بايال كاباديا (38 سنة) التي قدمت عملاً إنسانياً جميلاً، وكان الفيلم قبل الأخير الذي يُعرض في المسابقة، وجذب اهتمام كثيرين. ناقد "ذا غارديان" بيتر برادشو تحمّس له وأعطاه خمس نجوم. تزجنا أحداث الفيلم في الواقع الهندي المعاصر من خلال مدينة مومباي المزدحمة وعلاقة المقيمين بها، من خلال يوميات ثلاث ممرضات يعملن في أحد المستشفيات ونتابع همومهن اليومية ونتعرف إلى أحلامهن، لنكتشف تفاصيل العيش اليومي في مدينة تسحق الإنسان، وحيث النساء يتعرضن إما للإهمال أو يصبحن ضحية للحتمية الاجتماعية التي تؤطرهن ضمن دور معين لا خروج منه. الفيلم متقن على مستوى الصنعة، ويبث نفحة من الدفء الإنساني. ترد كاباديا الاعتبار إلى السينما الهندية بعد أعوام من الغياب في مسابقة "كان"، وصرحت في كلمة خلال تسلمها الجائزة بأنها تأمل في ألا ينتظر المهرجان ثلاثة عقود أخرى قبل أن يختار فيلماً هندياً من جديد.
جائزة لجنة التحكيم ذهبت إلى "إميليا بيريز" للمخرج الفرنسي جاك أوديار الذي يروي في هذا الفيلم الـ"ميوزيكال" قصة تحول زعيم ترويج المخدرات في المكسيك إلى امرأة (قامت بدور العابرة جنسياً كارلا صوفيا غاسكون، ونالت جائزة أفضل ممثلة جماعية مع شريكاتها الثلاث في التمثيل). الفيلم كان أحد أقوى المرشحين لـ"السعفة" منذ عرضه في بداية المهرجان. بدلاً من المعالجة التقليدية لقضية المخدرات، اختار أوديار المشاهد الغنائية الراقصة لأفلمة قصة مأسوية لا تتناول البحث عن الهوية الجنسية فحسب، بل تتطرق أيضاً إلى فقدان الأمهات المكسيكيات لأبنائهن بعد تعرضهم لتصفية حسابات بين مروجي المخدرات. وعلى رغم الآراء الإيجابية في حق الفيلم، فإن كثراً لم يتفاعلوا معه كما يجب.
جائزة الإخراج نالها "جولة كبرى" للبرتغالي ميغيل غوميز، فيلم تبدأ أحداثه في ميانمار الحالية ويحملنا إلى بلدان آسيوية عدة، متعقّباً خطى موظف بريطاني يحاول الهرب من خطيبته التي تحاول أن تجده لتتزوجه بعد علاقة استمرت سبعة أعوام. حكاية بين شخصين سرعان ما تتحول إلى حوار بين بلدان وناس وأماكن، في مزج للثقافات. من خلال هذا العمل، يعود غوميز لحقبة الاستعمار والعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر. فيلم يمزج بين الأسود والأبيض والألوان، ويعيد موضعة السينما البرتغالية ذات الإطلالات النادرة في لائحة جوائز المهرجان بعد غياب طويل، ولمّح المخرج إلى هذا الأمر، في معرض إلقائه التحية على المعلّمين البرتغاليين اللذين تتلمذ على أيديهما، وهما أوليفيرا ومونتيرو.
أغرب ما في جوائز هذا العام هو ابتكار جائزة خاصة عُرفت بـ"الجائزة الخاصة" لإعطائها لـ"بذرة التين المقدس" للمخرج الإيراني محمد رسول آف الذي استطاع الهرب من إيران إلى "كان" بعدما كان صدر في حقه حكماً يقضي بسجنه عقب اتهام السلطات له بتهديد الأمن القومي بفيلمه هذا. رسول آف من الذين اعتادوا المشاركة في "كان"، وعرض فيه أفلاماً عدة، وله تاريخ طويل من المناكفة مع سلطات بلاده، ومع ذلك لم يتوقّف عن التصوير طوال الأعوام الأخيرة. فيلمه الجديد يدخلنا في حياة ناس في ظل الاحتجاجات التي شهدتها إيران في أيلول 2022، بعد مقتل مهسا أميني، وتدور تفاصيله حول عائلة الأب فيها يؤيد النظام وابنتاه من المعارضة.
جائزة السيناريو أُعطيت إلى "المادة" للمخرجة الفرنسية كورالي فارجا التي كانت جاءت بفيلم مقزز يصوّر كيف أن نجمة تلفزيوينة خمسينية تتحول إلى مسخ بعد تلقيها تركيبة كيماوية تعيد لها الشباب. الفيلم أثار القرف والضحك، وهو تنويعة جديدة لفيلم الثائر، مع انتقاد متطرف للتمييز بين البشر على أساس العمر.
أخيراً، نال الممثل الأميركي جس بليمونز جائزة التمثيل عن دوره في "أنواع اللطف" للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس الذي قدّم عملاً جديداً من تلك الأعمال الغريبة التي اشتهر بها، فالممثلون نفسهم يقومون بأدوار مختلفة في ثلاث حكايات منفصلة بعضها عن بعض.
اللحظة الأجمل في حفلة الختام بعد 12 يوماً من ماراثون سينمائي، تجسدت في تسلّم المخرج الأميركي جورج لوكاس الجائزة الفخرية التي منحها له المهرجان من يد صديق العمر فرنسيس فورد كوبولا (الذي لم تكُن تحفته "ميغالوبوليس" على ذوق لجنة التحكيم). وقال في كلمة موثرة إنه مجرد طفل ولد ونشأ في كاليفورنيا، بين مزارع الكروم، قبل أن ينجز الأفلام مع صديقه فرانسيس. مسك أحدهما يد الآخر في واحدة من الصور التي ستبقى من هذا المهرجان.