روبرت موزيل يرسم الإنسان الذي يستحيل رسمه
23-كانون الثاني-2023
مشير باسيل عون
يعد الأديب النمساوي روبرت موزيل (1880-1942) من ألمع أدباء القرن العشرين، إذ استطاع أن يحلل النفس الإنسانية تحليلاً يشبه الاستقصاء الكيماوي الذي يترصد أطوار المادة، ويتحرى أحوال الكون. ولد في النمسا التي كان يسميها الكاكانيا (Cacanie) في رواياته، ودرس في المعاهد التعليمية العسكرية، ورغب في الالتحاق بالجيش، ولكنه ما لبث أن عدل عن المشروع، فانتقل إلى الهندسة، ومن ثم إلى الفلسفة والأدب. أتاحت له دراسة الهندسة أن يعلم في معهد الدراسات التقنية العليا بمدينة شتوتغارت. قصد برلين ليدرس في جامعتها علم النفس والفلسفة، وفي ظنه أنه يستطيع أن يهندس بنية النفس الجوانية. سحرته هذه المدينة بآدابها وفنونها ومسارحها، ولكنه ما لبث أن غادرها عام 1933 إثر تعاظم النفوذ النازي. استثمر الموهبة الهندسية في ما كان يدعوه أمانة سر دراسة النفس الإنسانية. بفضل مثابرته، استطاع أن يعد أطروحة لامعة في الفلسفة تناولت التجريبية النقدية التي كان ينادي بها فيلسوف العلوم الفيزيائي النمسوي إرنست ماخ (1838-1916).
من الهندسة إلى الكتابة
بفضل النجاح الذي اكتسبته روايته "اضطرابات التلميذ ترلس" (Die Verwirrungen des Zöglings Törless)، ظن أنه أضحى قادراً على التفرغ لمهنة الكتابة، ولكنه اضطر إلى الخدمة العسكرية التي أداها برتبة ضابط متفرغ للإعلام العسكري وإدارة مكتبة الثكنة. أثرت الحياة العسكرية الوجيزة في مساره الأدبي تأثيراً بيناً، فعقد العزم على تصوير الوضع الإنساني في أدق اختباراته الباطنية. فإذا به يضطلع بمسؤولية الكشف عن العصبة السياسية العازمة على تمجيد الزمن الإمبراطوري النمسوي - الهنغاري. على هذا النحو نشأت في وعيه فكرة الرواية غير المنجزة "الإنسان العديم الصفات" (Der Mann ohne Eigenschaften). في هذه الأثناء، أبان له المجتمع الفرنسي المشهد الإنساني المعقد الذي جعله ينشئ الروايات التحليلية اللاذعة، ومنها "ثلاث نساء" (Drei Frauen).
بيد أن رواية "الإنسان العديم الصفات" جسدت مشروعه الأدبي الأشمل، إذ أراد أن يطلع القارئ بواسطتها على هندسة النفس الإنسانية الكاملة، لذلك تصور العمل كله في صورة الرواية الشاملة الجامعة المانعة التي لم يستطع أن ينجزها. من أجل إنجاح المهمة، كان قد أعد ما يقارب خمسة آلاف صفحة انطوت على شتيت مذهل من المعاينات والمشاهدات والملاحظات والتحليلات والمسودات والتصميمات والمتنوعات التي استخرج منها نص القسم الأول المطبوع، وبضعة من الفصول التي لحقتها في عام 1933. وما لبث أن انقطع الوحي، وفتر الإنشاء، لا سيما في إثر تنامي النفوذ النازي وهرب الأديب إلى فيينا، ومن ثم إلى سويسراً، طالباً الخلوة والراحة، بيد أن اضطراب الأوضاع الخارجية والنفسية هز كيانه هزاً عاصفاً، فأصيب بنزيف دماغي شله وأقعده عن مواصلة الكتابة، معفياً إياه من مسؤولية ابتكار الخاتمة الدفينة. ليس أدل على صراعية الرواية من المشاجرات العيلية التي أعقبت وفاته، إذ تضاربت آراء الأسرة في شأن نشر أعمال الكاتب الموهوب. لم ينجُ من نار الفتنة الأدبية هذه أهل النخبة الفكرية الذين قسمهم موزيل بعد موته، وجعلهم يتعاركون ويتزاحمون على استجلاء مقامات الصدارة في أعماله المتروكة.
معاناة قارئ موزيل
من أغرب وقائع الإنتاج الأدبي الذي تركه موزيل مشاريع الروايات ومخططات الأبحاث التي لم ترَ النور، بل ظلت منطوية في طور التصميم الإنشائي الأول. في أغلب الأحيان، يقع القارئ على نص غير مكتمل، مشرع الآفاق، مستباح الحدود، منزوع الإقفال والأختام، لذلك يعاني القارئ معاناة شديدة عند قراءة هذه النصوص. خلافاً لأدباء العصر، من أمثال الأديب الفرنسي مارسيل بروست (1871-1922) الذي تريحنا نصوصه، والأديب الإيرلندي جيمس جويس (1882-1941) الذي تفرحنا رواياته ما خلا "سهرة فينيغن"، والروائي الألماني فرانتس كافكا (1883-1924) الذي يسلينا ويستثير فضولنا التذوقي، يرهقنا موزيل بأثقال نصوصه والتباساتها وثنائياتها وتعاكساتها وتعارضاتها. موزيل كاتب تراجيدي مأسوي قالت فيه الأديبة الفرنسية مارغريت دوراس (1914-1996) إنه من أعظم فناني النحت الروائي المعاصر.
المعتزل العابس الغيور
لم يكسب الشهرة الأدبية في أثناء حياته، ما خلا النجاح الذي حصده كتابه "اضطرابات التلميذ ترلس". أما سائر كتاباته، فلم يلتفت إليها أحد أثناء نشرها، لا سيما أن معظمها ظل في طور الإنشاء. عاش وحيداً، متنقلاً بين فيينا وبرلين اللذين لم يغادرهما إلا حين استولى النازيون على الحكم، فاضطر إلى اللجوء إلى سويسرا. غلبت على وجوده مسحة الحزن الكياني العميق، فارتسمت آثارها على محياه العابس المتجهم. إلا أنه كان طموحاً يرغب في الفوز بأعلى مراتب التقدير، وحسوداً يعتقد أن الأدباء الآخرين المعاصرين لم يكونوا يستحقون كلهم الثناء وتسنم قمم المجد. كان غيوراً على مقامه الأدبي، فلم يكن يعترف باستحقاقات الآخرين. حين سأله صاحب المكتبة الشهيرة في فيينا مارتن فلينكر (1895-1986) عن أعظم كاتب معاصر، أجابه بذكر اسم الأديبة الفرنسية إيف كوري (1904-2007) ابنة العالمين بيار وماري كوري. بجوابه الغريب هذا استبعد عظماء الأدب العالمي المعاصرين من أمثال توماس مان (1875-1955) وشتفان تسفايغ (1881-1942) وكافكا، وسواهم.
لم يكن موزيل يحب الحياة والصداقات والمعاشرات الأدبية، فكان يرتاد مقاهي فيينا الشهيرة، ولكنه كان يعتزل الآخرين، وينتبذ بنفسه مكاناً قصياً منفرداً، فضلاً عن مهنة الكتابة الأدبية، أخذ يعتني باستجلاء أحداث السياسة واستقصاء تطورات التاريخ وفتوحات الأفكار العلمية، سواء تلك التي ارتبطت بعلم الطيران أو بهندسة مناجم الحديد في أوروبا الوسطى، أو بأدب المقالة التحليلية في بداية القرن العشرين. كان يسعى إلى الإحاطة بكل اختبارات الوجود، ولو على هيئة التخيل والتعبير الأدبي الحر. عرف عنه أنه كان كاتباً عسير الفهم، يقرؤه الإنسان العادي فلا يدرك مقاصده للوهلة الأولى. كان يحذرنا بنفسه من أن الكاتب العظيم يحارب غيابه محاربة شرسة حتى يصون فيه سره الجذاب. فالنخبة لا تستطيب الإقامة إلا في الغربة الإلهامية.
التشكيك في مقام الوجود واللغة
استطاع النتاج الأدبي النمسوي المكتوب بالألمانية أن يستدخل في الأدب الألماني بعض الشكية التي أخذت ترتاب من مقام اللغة وقدرتها على التعبير عن لطائف اختبارات الإنسان الجوانية. يبدو أن تعبيرية الأديب النمسوي هوغو فون هوفمانشتال (1874-1929) في "رسالة اللورد شاندوس" (The Letter of Lord Chandos) استهلت الأسلوب الأدبي الريبي هذا، وأثرت في كتابة موزيل، ذلك بأنها كتبت في منعطف تاريخي شهد نهاية حقبة من الازدهار الأدبي النمسوي في فيينا، وصاحب بروز الأزمة اللغوية في جميع أبعادها الأدبية والفلسفية والنفسية. ومن ثم، فإن الكلمات أضحت كالفطريات الفاسدة.
من أمثولات رواية "اضطرابات التلميذ ترلس" أن الواقع مفطور على اللاعقلانية واللامنطقية، وأن معنى العالم غير مستقر، يترجح بين استقطابات لغوية متنافرة، لذلك اختبر صاحب الرواية الاضطراب والارتعاش الوجودي، وانغمس في توترات الشك والإرباك. في وصف شخصية التلميذ المرتبك، يبدو موزيل خاضعاً لمنطق التشكيك في ظواهر الحياة عينها. وعليه، لم تكن الكتابة في نظره سبيلاً إلى علاج التأزم الناشب في الواقع. الكلمات محسوسات ملموسة لا تطيق أن تحتمل توترات الحياة، بل تنطق بالاضطراب الذي يعطل فهم الوقائع. إذا كانت اللغة مأزومة، فلأن الحياة في صميمها بؤرة اضطراب متقدة ببركان الهيجان الكوني الشامل.
اتصفت كتابات موزيل بأسلوب حسي تصويري ملموس يغترف الصور من صميم اختبار الحياة. غير أن أزمة النفس هيمنت على هذا الأسلوب، فجعلته يصوغ الكلمات صوغاً متردداً بين المعاني، فتأتي العبارة مشحونة بما يتجاوز دلالتها الظاهرة الصريحة، منعقدة على الالتباس وتراكم المعاني المتعارضة في المفردة الواحدة، لذلك غدا التشكيك في قدرة التعبير على نقل المعاني النفسية الملتبسة القاعدة السائدة في إنشاء موزيل الروائي.
رواية "الإنسان العديم الصفات" في سياقها التاريخي
تقع أحداث الرواية بين 1913 و1914، وتسرد لنا وقائع حياة أورليش، الشخصية الأساسية التي تتمحور حولها جميع الفصول. في القسم الأول من الرواية ينتمي أورليش إلى كوكبة من نخبة المجتمع تروم أن تحتفل بمرور 70 عاماً على حكم الإمبراطور النمسوي - الهنغاري فرانتس يوزف (1830-1916). أكب موزيل يستعرض آراء المثقفين النمسويين في السياسة والنظام الإمبراطوري والعلاقات التي تربط الإمبراطورية النمسوية - الهنغارية الكاثوليكية النزعة بالإمبراطورية البروسية - الألمانية البروتستانتية الهوى. من كنوز هذا القسم الوصف الدقيق الذي يرسم ملامح النخبة الاجتماعية الراغبة في الاحتفال بالحدث الجلل، وقد اغتنى بجميع ضروب الاقتراحات والمشاريع والمبادرات والاستعدادات، بيد أن موزيل كان يستجمع الرؤى السياسية الأيديولوجية هذه من أجل نقضها وإبطالها وإظهار مساوئها ومخاطرها.
إنسان في العقد الأربعين يخرج من منزله ليتناول طعام العشاء في مطعم المدينة. وفي الغد يستعيد عمله اليومي في الصباح، ومن ثم يستقبل عشيقته. غير أن الأمور لا تلبث أن تصطدم بعوائق انسداد المعنى. اللافت في هذا المنعطف، أن موزيل يستحضر أشخاصاً يشاركون لبرهة خاطفة في المشهد الروائي، فيحملون ضمة من الأفكار يتباحثون والآخرين في دلالاتها ومفاعيلها. يرسم موزيل ضياع هذا الإنسان الذي يحيا مع الأفكار ويتصور العالم من خلالها حصراً. فإذا به يضل السبيل ويفقد السيطرة على مسار الأحداث. غير أن موزيل لم يبلغ خاتمة الكتاب بسبب من مرضه وعجزه عن ابتكار النهاية، على غرار بطل الرواية الذي لم تكتمل ملامحه، فظل في طور الرسم.
يبدو أن موزيل كان يروم أن يعالج في رواية واحدة جميع مسائل الأخلاقيات والجماليات، فتاه في شعاب المسارات الوجودية المتعارضة، ولم يستطع أن يكلل بحثه بالظفر النهائي. من جراء التشتت السردي والتبعثر التصويري، حرمت الرواية من مركزيتها الاستقطابية، فاكتسبت على وجه المفارقة خصائص الإرباك والتضليل المتعمد، لذلك أعرض الكثيرون عن تحليل الحطامات الحياتية التي أفضت إليها مسيرة شخصيات الرواية، خوفاً من التورط الوجودي الذاتي. من خصائص الإرباك هذه اللامبالاة واللاتعين اللذان يجعلان القارئ يتيه تيهاً خطراً في إدراك معنى حياته الشخصية.
الصفات المنسلخة عن الإنسان
يفطن أورليش إلى حقيقته حين يخاطب صديقه امرأته واصفاً إياه بالإنسان السليب المزايا. عندئذٍ يدرك أنه مفطور على مثل هذه العدمية، فيقرر أن يعتنق دعوته ويحيا بموجب ما تقتضيه من فكر ومسلك. فإذا به يضطلع بمسؤولية الحياد الطبيعي، ويستأذن الحياة لكي يحيا في فراغها المطلق. حينئذٍ تتحول كل وقائع الحياة إلى محاولات جزئية متبعثرة متفككة لا يربطها سوى التأمل في خواء المعنى، بيد أن هذا الخواء لا يعني انعدام الوجود، بل انفتاح الحياة على ممكنات لا حصر لها ولا هوية ولا ميزة. ليس للحياة من غائية لصيقة بها. جل الأمر أن الإنسان يبسط كيانه ليتقبل جميع أصناف الإسنادات التي تأتيه من اختبارات الوجود. إنها حال اللاتعين واللايقين واللااكتراث. ليس المطلوب أن يعرف الإنسان أسرار الحياة، بل إن يحيا، إذ إن الفكر يتحول عند أورليش إلى رغبة بسيطة في العيش. أما إذا أراد الإنسان أن يتمرد على هذه الحال، فلا يبقى أمامه سوى الجنون الذي غالباً ما عاينه موزيل في مسلك أهل فيينا. الإنسان العديم الصفات السليب المزايا هو الإنسان الذي يتحلى بالصفات من غير أن يمتلك في ذاته إنسانيته الحق. العديم الصفات صاحب الصفات المحروم من إنسانيته، لذلك أكب موزيل يصف واقع الناس وصفاً يستفز الفكر المستكين. كان الناس في قديم الأيام يدركون إنسانيتهم أفضل من إدراك المجتمع السائد في الزمن الراهن، إذ كانوا أشبه بسنابل الحقل تحركها يدا الله ولسعات الطاعون وحبات الثلج وحمم حرائق الحروب التي تلتهمها بين الحين والآخر. أما اليوم، فالتحول أصاب الإنسان في مركزية قراره، إذ جرده الوجود من قوة الإرادة، وجعل قرار الكون في الأشياء تترابط ترابطاً بنيوياً يعجز الإنسان عن تدبره.
أصبح كل أمر من أمور الحياة مرهوناً بمثل هذا الترابط، فنزعت اختبارات الناس من جوانيتهم، وقذف بها في بنى النصوص الوصفية واللوحات الفنية، وخضعت لمختبرات التحليل النفسي الاجتماعي الديني. ومن ثم، فقد الاختبار الوجودي انغراسه في تربة النفس الإنسانية، وأطلق إطلاقاً عبثيا في الأجواء الأثيرية. يجرؤ موزيل فيورد لنا مثالاً على هذا التحول، إذ يحدثنا عن غضب الإنسان، ويسألنا: من يستطيع أن يثبت لنا أن غضبنا من فعل ذاتيتنا الخاصة يعكس أحوال نفسنا اللصيقة بنا، لا سيما حين يشاركنا فيه الآخرون من حولنا ويتناولونه بالتحليل والتفكيك والتعرية؟ لذلك يمكننا أن نتصور عالم الإنسان مؤلفاً من صفات مجردة منعزلة عن كيان الإنسان، بحيث يستحيل على الإنسان أن يستعيد ذاتيته ويحيا في نطاق اختباره الشخصي الفردي الخاص.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech