احمد شافعي
لا ينبغي أن يكون اسم ريتشارد فلاناغان مجهولاً لدى القارئ العربي اليوم وقد قرأ له في الأقل روايتين مترجمتين إلى العربية هما "الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال" التي حاز عنها جائزة "مانبوكر" قبل بضعة أعوام ورواية "الرغبة" وربما قرأ له غيرهما من مقالاته أو محاضراته. فليس غريباً في تصوري أن يكون صدور رواية جديدة له خبراً مهماً لمن قرأ هاتين الروايتين، وربما تزداد الأهمية في تقديري لدى من يتابع كتابات فلاناغان غير الخيالية التي تنم عن اهتمام أصيل بما آل إليه العالم. والرواية الجديدة بالذات جديرة بأن ترضي قارئ فلاناغان سواء في خياله أو مقالته.
صدرت الرواية الجديدة بعنوان "السؤال رقم 7"، ويقدم لها فلاناغان بحكاية عن محاولة جسورة قامت بها صحيفة "هوبارت تاون ميركوري" لتصنيف رواية "موبي ديك"، إذ لم يعرف الناقد البائس عام 1851 أهي تاريخ، أو سيرة، أو جغرافيا، أو مأساة، أو ملحمة، أو ميلودراما، أو فنتازيا. "قد تكون كل ذلك وقد لا تكون أياً من ذلك. السؤال مطروح، ولكن ماذا عن الإجابة؟".
تعلق ميراندا سيمور على هذا المفتتح ("فايننشال تايمز" في الثامن من يوليو (تموز) 2024) بقولها إنه اختيار مناسب تماماً للكتاب ومبرر لطبيعته، ذلك أن "السؤال رقم 7" يتألف من 10 أقسام تتنقل بسرعة بين مختلف التصنيفات، ففيها التاريخ الأدبي (قصة غرامية لجي أتش ويلز)، والعلم (الجذور التي أفضت إلى القنبلة الذرية)، والهم البيئي والتاريخ العائلي والسيرة الذاتية التي تبلغ ذروتها بواقعة مشارفة الكاتب على الموت. وتكتب سيمور أن "في ’السؤال رقم 7‘ شبهاً واحداً في الأقل برواية هيرمن ميلفيل يتمثل في حرصها على أن تستعصي على التصنيف ونجاحها في ذلك".
من جهة أخرى، كتب أليكس بريستن ("غارديان" في الـ27 من مايو (أيار) 2024) أنه "منذ الجملة الأولى في’السؤال رقم 7‘، وهو الكتاب الـ12 لفلاناغان، يبدو المثال الذي يحتذي به هذا الكتاب الاستثنائي واضحاً، وهو الكاتب جي دبليو زيبالد الحاضر في الحرب العالمية الثانية وأخلاقيات حملات القصف والتضفير ما بين التاريخ الشخصي والتاريخ السياسي، والمزج بين الحقيقة والذكرى فضلاً عن الماضي الحقيقي والخيالي في آنٍ واحد، وزيبالد حاضر أيضاً في تيارات أعمق داخل الكتاب، إذ نجد رجلاً في منتصف العمر، معزولاً بعض الشيء، لا يخلو من سخافة، يسعى إلى التصالح مع مكانه في العالم ويصارع بصورة خاصة حبه المعقد لأب تشكلت حياته بتجاربه في الحرب".
وليس أقدر من فلاناغان نفسه على إيضاح الإشارة إلى هذا الرجل المتعثر في التصالح مع العالم. ففي حوار مع موقع "بوكتشينو"، بدت محاورة فلاناغان حائرة أمام اتساع نطاق مواضيعه وتنافرها الظاهر، فسألته عن بذرة الكتاب الأولى وطريقة عمله فيه فقال:
"في الليل الطويل الذي عشناه في أعوام ’كوفيد‘، بدت الحياة لغالبيتنا معطلة... أدركت فجأة خلال ’كوفيد‘، ومن دون سابق إنذار، أنني كبرت، وأن العالم من حولي بات غريباً ومجهولاً. بدا وكأنني اجتزت مرآة وباتت العودة مستحيلة. أو أقول بطريقة أخرى إن العالم الذي كنت أفترض أنني أعيش فيه، بقيمه وحقائقه، بل وبفصول السنة فيه وبحيواناته وبطيوره، كل هذا العالم إما انتهى أو هو يتلاشى. أدركت أنني أعيش خريف الأشياء وأن العالم الذي عشت فيه من قبل قد ذهب بلا رجعة. وشعرت بظلَّي والديّ الراحلين قريبين فأردت أن أقبض عليهما وأستبقيهما على مقربة مني، ولم أعرف لذلك من طريقة إلا واحدة بالكلمات".
استهل مايكل ديردا استعراضه للرواية ("واشنطن بوست" الأربعاء الماضي) بقوله إن فلاناغان فاز قبل 10 أعوام بجائزة "مانبوكر" الدولية عن روايته التي تناول فيها قصة أسرى أستراليين في الحرب العالمية الثانية شاركوا في إقامة ما بات يُعرف لاحقاً بسكة حديد الموت بين تايلاند وبورما. كان والد فلاناغان أحد أولئك الأسرى، ونجا من معاملة قاسية على أيدي اليابانيين طوال ثلاث سنوات قضاها في إقامة ذلك الطريق، وفي العمل أيضاً بمناجم أوهاما للفحم في هونشو، فتركت معاناة سنوات الأسر الثلاث تلك أثراً عليه رافقه بقية حياته، إذ بات رجلاً قليل الكلام، قليل الاختلاط، ولكنه طيب، وورث عنه ابنه شيئاً من عمق تفكيره.
في أدبه وكتاباته غير الخيالية الغزيرة، يصارع فلاناغان بجرأة التاريخ الحديث وما فيه من تعقيدات اجتماعية وسياسية وأخلاقية. فعلى سبيل المثال، استكشف في "كتاب غولد للأسماك" (2001) الذي فاز بجائزة كتاب الكومنولث علاقة بين سجين أوروبي تحول إلى فنان وامرأة سوداء من السكان الأصليين في أرض فان ديمن [اسم تزمانيا حينذاك] في أوائل القرن الـ19. كما يشن فلاناغان في كتاباته الصحافية الأخيرة هجوماً مباشراً على نهب الشركات للعالم الطبيعي، ويتساءل ديردا محقاً "أي روائي كبير غيره يمكن أن ينشر مثلما نشر هو عام 2021 كتاباً بعنوان، "السامّ: الجانب العفن في صناعة سمك السلمون بتزمانيا؟".
غير أن فلاناغان في كتابه الأخير يقدم "ما يشبه فانتازيا فلسفية" فيها "نسيج شديد الأصالة من بضع سرديات مقالية عن العالم العجيب المحزن الذي نعيش فيه جميعاً". ووصف الروائي الأسترالي البارز بيتر كاري ضمن مقالته في صحيفة "سيدني مورننغ هيرالد" كتاب "السؤال رقم 7" بأنه "أغنية غرامية مؤثرة وعميقة يغنيها الكاتب لأبويه، وهو تنقيب عن أدلة جنائية وهو مرثية وهو اعتراف وهو أحجية تربط أجزاءها بين هيروشيما وأتش جي ويلز ومستعمرات الكائنات الفضائية المريخية في تزمانيا. بل إن فلاناغان يشطح في بعض الأحيان إلى شيء من الصوفية، فلعل في أستراليا شيئاً ما، قد يكون إرثاً خافتاً قديماً شديد الروحانية من سكانها الأصليين، هو الذي يثمر مثل تلك الأعمال الأصيلة".
يكتب فلاناغان، "في خريف عام 2012، خالفت عقلي، ولأسباب لم تكُن متعلقة كلها بالكتابة ـ كما كنت أقول. وليست الآن واضحة لي، زرت موقع معسكر أوهاما في اليابان الذي كان والدي معتقلاً فيه ذات يوم".
هكذا يستهل فلاناغان "السؤال رقم 7" بمحاورته لـ"ساتو"، الحارس المشرف على أسرى منجم هونسو في الحرب العالمية الثانية. "يبدو الرجل شيخاً طيباً، يعتني بابنة معوقة. ولكن فلاناغان يثير على الفور مسألة ماضيه وما نعتته حنة أرنت بـ’تفاهة الشر‘. يتساءل فلاناغان ’تراني كنت لأختلف عنه [لو كنت مكانه]؟ تراني كنت لأشترك أنا الآخر في ضرب الأسرى، حتى لو كنت غير راغب، تراني كنت أصدر أمراً لكي يتجمد رجل عارٍ حتى الموت وهو جاثٍ على ركبتيه بينما ينهمر الجليد، لأن ذلك هو المتوقع مني، ولأنه يصعب كثيراً قول لا؟‘".
وما ذلك بحسب ما يكتب مايكل ديردا، "غير أحد التعقيدات الأخلاقية الكثيرة التي يعالجها ’السؤال رقم 7‘. لقد نجا والد فلاناغان من محنته تلك لسبب واحد هو أن الولايات المتحدة قصفت هيروشيما. فلو كان الأميركيون غزوا اليابان بدلاً من ذلك، لقُتل الرجل على الفور أو استُعمل درعاً بشرياً. وإذاً فما كان فلاناغان نفسه ليولد لولا العمل الذي أدى إلى تبخُّر نحو 60 ألف مدني على الفور ثم ترك آخرين للموت البطيء. غير أن فلاناغان مقتنع أن قصف هيروشيما كان عملاً شنيعاً، عديم الأخلاق ويعتقد أيضاً بأن هذا العمل ما وقع إلا "بسبب كتاب".
هكذا يستهل فلاناغان "السؤال رقم 7" بمحاورته لـ"ساتو"، الحارس المشرف على أسرى منجم هونسو في الحرب العالمية الثانية. "يبدو الرجل شيخاً طيباً، يعتني بابنة معوقة. ولكن فلاناغان يثير على الفور مسألة ماضيه وما نعتته حنة أرنت بـ’تفاهة الشر‘. يتساءل فلاناغان ’تراني كنت لأختلف عنه [لو كنت مكانه]؟ تراني كنت لأشترك أنا الآخر في ضرب الأسرى، حتى لو كنت غير راغب، تراني كنت أصدر أمراً لكي يتجمد رجل عارٍ حتى الموت وهو جاثٍ على ركبتيه بينما ينهمر الجليد، لأن ذلك هو المتوقع مني، ولأنه يصعب كثيراً قول لا؟‘".
وما ذلك بحسب ما يكتب مايكل ديردا، "غير أحد التعقيدات الأخلاقية الكثيرة التي يعالجها ’السؤال رقم 7‘. لقد نجا والد فلاناغان من محنته تلك لسبب واحد هو أن الولايات المتحدة قصفت هيروشيما. فلو كان الأميركيون غزوا اليابان بدلاً من ذلك، لقُتل الرجل على الفور أو استُعمل درعاً بشرياً. وإذاً فما كان فلاناغان نفسه ليولد لولا العمل الذي أدى إلى تبخُّر نحو 60 ألف مدني على الفور ثم ترك آخرين للموت البطيء. غير أن فلاناغان مقتنع أن قصف هيروشيما كان عملاً شنيعاً، عديم الأخلاق ويعتقد أيضاً بأن هذا العمل ما وقع إلا "بسبب كتاب".
تكتب سوزان غريميت في موقع كنيسة سان أندروز الأنغليكانية (الـ25 من ديسمبر (كانون الأول) 2023) أن "كتاب فلاناغان الجديد تأمُّل فاتن في عمل أثر الفراشة على التاريخ، إذ يتعقب قصة حب بين الكاتب أتش جي ويلز والكاتبة ريبيكا ويست، أدت إلى أن يؤلف ويلز رواية ’العالم تحرر‘ التي ألهمت الفيزيائي ليو زيلارد بتصور تفاعل نووي متسلسل... مما أدى إلى اختراع قنبلة ذرية".
غير أن هذا الربط بين رواية ويلز الخيالية وإحدى أبشع مآسي الإنسانية ليس كل ما في الرواية من علاقة لتاريخ الأدب بالرواية، إذ تمضي سوزان غريميت قائلةً إن عنوان رواية فلاناغان محاكاة "لامتحان مدرسي وضعه أنطون تشيخوف في مقالة بعنوان ’أسئلة أستاذ رياضيات مجنون‘"، فكان ضمن الأسئلة الكثيرة الساخرة من طرائق التدريس سؤال نقله فلاناغان في روايته:
"الأربعاء في الـ17 من يونيو عام 1881، كان على قطار أن ينطلق من محطة أ في الثالثة صباحاً ليصل إلى محطة ب في الـ11 ليلاً، ولحظة أن كان القطار يتأهب للانطلاق، صدر أمر بأن يصل إلى محطة ب في السابعة مساء، فمن يدوم حبه أكثر، الرجل أم المرأة؟".