سمفونية مراقبة الناس
2-أيار-2023
د. ياس خضير البياتي
كلٌّ يُراقب بعضُه بعضًا؛ هذه هي العلامة المختصرة للحياة الجديدة، وأجنداتها السياسية والاجتماعية. بالأمس القريب كانت “العين الاجتماعية” خجولة تتلصَص بأدب وحياء على الحبيبة والمحسود؛ بينما دخلت “عين التكنولوجيا” لتزيد الطين بلَّه، بعدما اخترقت حواجز الخصوصيات؛ بحثًا عن سر الأسرار، وهمسات المعلومات المخفية، وبواطن النفس البشرية المعقدة، لتُحيل حياتنا جحيمًا لعيون البشر الزائغة، والآلة السيئة التي لا تعرف الخجل ولا تتخلَّق بالحياء!
وبين عشية وضحاها صرنا اليوم، تراقبنا عين بشرية حاسدة تعيش بيننا، وتتتبع خطواتنا بفضول لإفساد الود في العلاقات الاجتماعية. قال الفيلسوف أرسطو: لا تتجسس على الناس واشتغل بنفسك وأصلح عيوبك. وقيل أيضا: عيوبي لا أراها ولكن عيوب الناس اركض وراءها!
وانتقلت عدوى التلصُّص إلى الدول من باب الفضول أحيانًا، والتجسس في أحايين أخرى كثيرة؛ لمعرفة أسرارها وخططها، ومن أجل ذلك أنشأت جيوشًا إلكترونية ضخمة، وأخرى تعمل على الأرض للمراقبة وجمع المعلومات. فصار التلصُّص له نظريات وقواعد، وتحوَّل الصراع على المعلومات للجمع بين التقليدي الذي يعتمد على العملاء في الميدان من مصادر سرية، وبين الاعتماد على جمع المعلومات من المواقع الإلكترونية مفتوحة المصدر والمتاحة للجمهور.
صرنا لقمة معلوماتية سائغة بين عيون البشر، وعيون الهواتف النقالة، والواتساب والفيسبوك والسناب شات والإنستغرام وتوتير ولينكدان وفايبر، وكلها تصبُّ في خدمة المؤسسات الأمنية التي تأتيها المعلومات مجانًا، بعد أن كانت تصرف الملايين من الدولارات على تمويل الجواسيس، ومؤسسات الواجهات السرية المُضللة.
خاصة وان خوارزميات الذكاء الاصطناعي تستطيع توقُّعَ المستقبل، ومعرفة تصرفاتنا من خلال جمع المعلومات عن المؤثرات المحيطة بنا طوال الوقت، وأي شارع نسير به، وأي ماكينة حلاقة نستخدمها، ومعرفة السلوكيات المتكررة للاستخدام الرقمي، وتوجُّهاتنا وطرق تفكيرنا وقراراتنا.
الأغرب في عالم التلصُّص والجاسوسية، هو قدوم وسائل مبتكرة ليست من صنف البشر والآلة؛ إنه (الصرار الجاسوس) القادم من أمريكا اللاتينية، الذي يمتاز بكبر حجمه وبطء حركته، والقادر على حمل حقيبة مزوَّدة بتقنيات للوصول إلى مخازن الأسلحة، والمواد الممنوعة للتجسس على الحوارات، ومراقبة المواطنين، كذلك حشرة (اليعسوب الجاسوس) الذي تستطيع الطيران والهبوط في أي مكان للتجسس.
صرنا بين عوالمَ مختلفة ومتناقضة؛ بشر لا يرحم في صيد العباد وتشريحه، وحيوانات ذكية تلدغ بفعل فاعل، وتكنولوجيا تستطيع الدخول إلى عقولنا، والتجسس على خصوصيتنا، والعبث بحياتنا، وإيقاعنا في مصيدة الخبث والتضليل والتوريط.
اجتماعيًّا، أصبحت مراقبة الناس في مجتمعاتنا منهجًا حياتيًّا، ومقررًا ثابتًا في السلوك؛ فلا يسلم أحدٌ من القيل والقال، والتنابز بأرذل الألقاب، ومفاعيل الصور السلبية، ومستحدثاتها الجديدة. فلا تجد إنسانًا يسلم، حتى ولو كان مقيمًا في غربته بالبيت، وبعيداً عن ضجيج الناس وهلوساتهم الاجتماعية والنفسية. صارت أسهم العباد تأتيه حتى وهو في قبره؛ فكيف إذا كان يعيش فوق الأرض بين نفوس مريضة ملوَّثة بثرثرة التفاهات وبلادة العقل والإحساس!
كنا قديمًا نشتكي بعض فئات الناس، ممن يعانون نقصًا في التعليم والتربية، واليوم تغرق مجتمعاتنا بجيوش المتملّقين والبذيئين والمنافقين الذين يوزِّعون شر الحياة وبذاءتها على العباد بالتساوي؛ فقيرهم وغنيهم وجاهلهم ومثقفهم، كلهم يتساوون بنثر آخر صيحات “بلاوي” موبقات الحارات الخلفية، وجميعهم يحملون مناظير لمراقبة الناس منذ ولادتهم وحتى الرمق الأخير في حيـاتهم!
صارت مراقبة الناس وتحركاتهم هوسًا مرضيًّا، وعبادة يومية مع كل سلوك ودردشة وهمسة سرية! ؛ فامتلأت المقاهي ومؤسسات التعليم والوظيفة بدخان الغيبة المسرطن ومشروبات النميمة المنتهية صلاحيتها، وتحولت إلى قصابة لتقطيع أوصال البشر نقدًا وتجريحًا؛ حتى تنتهي بخلاصة حياتية هي أن نخبنا الثقافية تقود المجتمع إلى هاوية الفواجع، ومنحدرات الرذائل.
صار الناس أهل فضائح، بعد أن دخل عليهم الإعلام الجديد بوسائله المختلفة إلى بيوتهم؛ ليعلمهم فن الفضائح والنفاق، ويؤسس لهم عالمًا متناقضًا من القيم الغريبة، تصطدم فيه الرغبات والشهوات والتطلُّعات والآمال الخادعة، وجعلهم يسبحون في فضاء مفتوح تكثر فيه أنواع الثقافات والقيم المختلفة، والجمال والبذاءات والتفاهات معًا؛ مما سهَّل على بعضهم المشاركة بالقيل والقال، وتتبُّع أخبار الناس وأحوالهم ونشاطاتهم، والدخول إلى غرف النوم، والتلذُّذ بالفضائح والخرافات والخصوصيات والصور العائلية السرية!!
من الآخر، وبلغة العلم؛ إن مراقبة الناس مرض نفسي لهدم الذات، قد تجلب الحسد والنميمة والغيبة، وتسبب البغض والعداء. وهو من رذائل قوة الغضب المتمثلة بالحسد والحقد والانتقام، وتتبُّع شؤون الآخرين. هو صراعٌ مع النفس، وإشارة إلى أن الفرد غير راضٍ عن نفسه، ومشغول بإيجاد التفسيرات غير المنطقية لنجاح الآخرين، كما تشير إلى السطحية في التفكير؛ فينتهي عمر الإنسان، وهو لم يعش حياته، بل عاش حياة الناس!
نعيش في عالم لا يهدأ؛ عين تراقب، ولسان اعوج النطق، وقلب أسود مملوء بالغيرة والأحقاد. عالم لا يتلذَّذ إلا بفقاعات قصص التشهير والتنابُز والمراقبة. قيل لمتصوف قديم: “ما نَرَاك تَعيَّب أحَداً؟ فقال: لَستُ عَن نَفسي راضيا حَتَّى أتفرغ لذم النَّاس”. وقال الحكماء من قبل: من راقب الناس مات هماً وغمداً وكمداً …ففز بنفسك وعالجها قبل الغم والهم. والعقل يقول: أياك أن تبحث عن قيمتك في تفاهات مرضى الناس!