عبده وازن
كان من المقرر أن يحل الشعر الفلسطيني ضيف شرف على "سوق الشعر" الفرنسي والعالمي في دورته المقبلة العام 2025، لكنّ المؤسسة الغت هذه المشاركة، وبعثت برسالة الى الشاعر المغربي الفرنكوفوني عبد اللطيف اللعبي المولج بتنظيم المشاركة، تعلمه فيها بأمر الإلغاء. فرد عليها برسالة تكشف خلفية هذه البادرة السلبية، ونشرها في صفحته على فيسبوك، واحدثت ضجة في كافة الأوساط.
لطالما فتحت باريس أبوابها أمام القضية الفلسطينية، سياسيا وثقافيا وأدبيا، ودعمت على اختلاف التيارات السياسية الفرنسية، حقوق الشعب الفلسطيني، وحل الدولتين. بل لعل باريس هي المدينة الأوروبية الوحيدة التي كانت سباقة في استقبال الشعر الفلسطيني وترجمته وتقديمه في لقاءات واحتفالات. وكانت الأولى أيضا في إقامة ساحة باسم الشاعر محمود درويش في الدائرة السادسة، وفيها ارتفعت لوحة تحمل اسمه وتاريخ ولادته ورحيله، وأضيفت إليها لوحة تحمل جملة للشاعر بالعربية والفرنسية "ونحن نحب الجياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا". وأطلق كذلك اسم الشاعر الفلسطيني على شارع في منطقة كوربفوا، الضاحية الباريسية الشهيرة. وباتت المكتبة الفرنسية بدءا من منتصف السبعينيات، تضم أبرز الأعمال الفلسطينية، الأدبية والشعرية والتاريخية، في ترجمات عدة، تشكل مرجعا مهما للقراء والباحثين والطلاب الجامعيين الفرنكوفونيين.
لكن "حدثا" ثقافيا وأدبيا لم يكن متوقعا بتاتا، بدا كأنه يقلب المعادلة الفلسطينية الفرنسية الثابتة، تمثل قبل أيام في إقدام إدارة "سوق الشعر" الفرنسي والعالمي الشهير، الذي يقام في شارع سان سولبيس (باريس، الدائرة السادسة) على إلغاء الاحتفال بالشعر الفلسطيني ضيف شرف في الدورة المقبلة يونيو (حزيران) 2025، والسبب كما أوضح البيان الرسمي، بلهجة خافتة، هو "سياسي". أعلن القرار عشية انطلاق الدورة الراهنة 2024 ل"السوق" الذي يحل فيه الشعر اليوناني ضيف شرف. ومعروف أن مهرجان "سوق الشعر" الذي أسس العام 1983 هو مهرجان عالمي يستضيف شعراء من العالم أجمع، يترجم قصائدهم ويقدمهم إلى الجمهور في أمسيات ولقاءات. ويجمع 500 ناشر فرنسي وفرنكوفوني ويستقبل نحو 50 الف زائر خلال 5 أيام، تحت الخيم البيضاء التي تنصب في الساحة العريقة.
الشاعر المغربي الفرنكوفوني الكبيرعبد اللطيف اللعبي الذي كان من أول من ترجم الشعر الفلسطيني إلى الفرنسية في مختارات وكتب، بدءا من العام 1970، هو ممثل الشعراء الفلسطينيين إزاء إدارة "سوق الشعر"، وكانت أبلغته في شأن استضافة الشعر الفلسطيني في رسالة رسمية في 20 يوليو (تموز) 2022، وأعلمته أنها ستعتمد المختارات الشعرية التي أنجزها وترجمها إلى الفرنسية، وصدرت العام 2022 في سلسلة بوان" المهمة لدى دار سوي، بالتعاون مع الشاعر المغربي ياسين عدنان، الذي جمع الشعر بالعربية وكتب المقدمة. لكن إدارة "السوق" نفسها فاجأت اللعبي برسالة وصلته في 30 يونيو (حزيران) 2024 تعلمه فيها بإلغاء قرارها باستضافة الشعر الفلسطيني في الدورة المقبلة 2025. وجاء في الرسالة التي وقعها رئيس المهرجان إيف بودييه ومديره العام فنسان جيمانو بونس: "العزيز عبد اللطيف اللعبي: لقد خططنا في البداية لاستقبال الشعر الفلسطيني في "سوق الشعر" في عام 2025، انطلاقا من المختارات التي أنتجتها في سلسلة "بوان". ورغم ذلك (هل يحق لنا إخبارك المزيد؟) فالوضع المأساوي الراهن لم يعد يسمح لنا في النظر في هذا المشروع. فـ"سوق الشعر" سيتحول آنذاك، إلى منتدى سياسي (وليس شعرياً) حيال تحديات تتخطى قدرتنا. لا يمكن لـ"سوق الشعر" أن يتخذ مثل هذا الموقف".
وأضافت الرسالة : "لقد حاولنا، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تنظيم لقاء بين الشعراء الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن ذلك كان مستحيلاً: الاتصالات التي أجريناها بين الجانبين أفادت برفضهما الحضور في الفضاء نفسه. الفلسطينيون (مثلهم مثل الأوكرانيين نظرا إلى المعتدين الروس) يعارضون أي لقاء، حتى ولو كان شعريا، مع الإسرائيليين. ومن الواضح أن هذا الوضع ليس من المرجح أن يتحسن في المستقبل القريب. ويفضل مجلس إدارة جمعيتنا، في ظل هذه الظروف، تأجيل المشروع إلى أجل غير مسمى".
وورد في ختام الرسالة :"صدقنا، نحن نأسف بشدة أمام هذا الوضع، لكن الظرف الدولي لا يفسح المجال في أي حال، أمام آفاق إيجابية. مع صداقتنا واحترامنا".
صُدم اللعبي حتما بالموقف السلبي هذا خصوصا أنه كان يخطط لإحياء تظاهرة شعرية فلسطينية راقية، فرد على إدارة الجمعية برسالة شديدة اللهجة جاء فيها: "قرأت بذهول رسالتكم التي تعيدون فيها النظر في قراركم استقبال الشعر الفلسطيني كضيف شرف في دورة العام 2025 من "سوق الشعر". وأرفق رسالتي، للعلم، بالرسالة التي كنتم أرسلتموها لي في 20/07/2022 والتي عبرتم فيها بطريقة، لا لبس فيها عن رغبتكم في الترحيب بالشعراء الفلسطينيين، بالطريقة نفسها التي استقبلتم بها خلال السنوات السابقة شعراء من إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وإستونيا والهند وفنلندا وكاتالونيا وسنغافورة ولوكسمبورغ وغيرها، وتستعدون هذا العام لاستقبال شعراء من اليونان".
وأضاف اللعبي: "أعتقد أن الأسباب التي قدمتموها لتبرير مثل هذا التغيير في الرأي، هي أسباب متحيزة سياسيًا وغير محتملة من الناحية الأخلاقية. كنت أتوقع منكم المزيد من الفطنة والشجاعة".
شعراء شباب يواجهون تحديات القصيدة وأسئلة العصر
وختم: "أعرف الشاعرات والشعراء الفلسطينيين جيداً، وأقول بطمأنينة تامة، إنهم أكثر إنسانية مني ومنكم. أصواتهم لا غنى عنها، بالنسبة. إن قراركم بعدم إفساح الحرية لهم في العام المقبل سوف يلقي بظلال من الشك على حسن نيتكم، كمنظمين ل"سوق الشعر"، وسوف يقوض مستقبل الشعر نفسه".
ما أن نشر الشاعر عبد اللطيف اللعبي الخبر ورسالة الإلغاء ورده على الرسالة في صفحته على الفيسبوك، حتى انهالت الآراء، بالعربية والفرنسية، المؤيدة لموقفه والمستنكرة مثل هذا الإلغاء غير المتوقع، للمشاركة الفلسطينية، ووصفه البعض بإلغاء الشعر الفلسطيني. والأمل الآن أن يكتب عن هذه القضية ذات البعد الخطير، الكتاب الفرنكوفونيون والعرب المقيمون في فرنسا، والذين لم يدافعوا عن الشعب الفلسطيني وعن غزة وسط المجازر التي تحصل يوميا، ومنهم: الطاهر بنجلون، بوعلام صنصال، ياسمينة خضرا، ليلى سليماني، أدونيس وسواهم.