عامر بدر حسون
يقول مثل افريقي: "اذا ضعت في الغابة ولم تعرف اين تتجه.. فتذكر من اين اتيت"!
ونحن كعراقيين وكعراق حديث اتينا من صراع او تعايش الطائفة السنية والطائفة الشيعية.
ولا ينبغي ان تتخوف من ذكر الصراع والقتال الطائفي فهو مرحلة في تطور او تدهور الاديان والمجتمعات عبر التاريخ. وصراعنا كسنة وشيعة لم يكن اكثر شراسة وعنفا من صراع الكاثوليك والارثوذوكس، وهو صراع انتهى وانقضى بعد ان تم الاعتراف بوجوده ومعاملته كداء يحتاج الى الدواء. لكننا ما زلنا حتى الان نصرخ بوجه من يريد الاقتراب من هذا الجانب ونصر على اننا "اخوان سنة وشيعة"! وان الاجنبي هو من اجج الصراع بيننا بعد ان كنا احبة ولا نعرف حتى ان كانت زوجاتنا شيعيات او سنيات كما يقول السفهاء منا! ولا بد من ملاحظة ان الدولة العراقية تأسست مرتين: مرة على يد السنة ومرة على يد الشيعة فالعراق الانكليزي تأسس على يد السنة رغم اعتراض الشيعة وقتالهم الانكليز، والعراق الامريكي تأسس على يد الشيعة رغم اعتراض السنة وقتالهم الامريكان. فهل يمكن القول ان ما قاد العراقيين للمواجهة هو الدفاع عن الدين او الطائفة وان فكرة الدفاع عن الوطن لم تكن موجودة بأعماقهم بشكل كاف كي تجمعهم عليها؟!
هذا سؤال قد يكون مفتاحا لفهم الكثير مما نحن فيه. لقد مضت مئة عام على حرب الشيعة وعشرون عاما على حرب السنة وثقافتنا السائدة تتجاهل هذا الموضوع او تصر ان ما حصل كان بدافع وطني، ولا ترى اية فائدة من التطرق اليه او استخلاص خبرة او عبرة منه. والغريب ان العراقيين الذين وجدوا انفسهم محشورين في حدود دولة وطنية بقيت عيونهم ومشاعرهم تتطلع الى من كان يحميهم: الدولة العثمانية والدولة الصفوية. وطيلة المئة عام الاخيرة كان الشيعي والسني ومهما بلغ تغلغل وتصاعد الوطنية العراقية الحديثة فيه، يحتفظ في اعماقه بذكر الطرف او العمق الخارجي الذي ابقاه حيا لمئات السنين. ويمكن ان نرى ان السنة وعبر قرن مضى اعتادوا اعتبار انفسهم جزءا من العرب او الامة العربية مهما ترامت الحدود واتسعت، وكانوا يعلون من شان هذا الانتماء حتى لو تعارض مع المصلحة الوطنية. ان انتماء السني الى امة وطائفة اكبر يخفف عنه وقع اختلال الميزان الطائفي عدديا لصالح الشيعة في العراق.. وهو عندما يستذكر اخوته في القومية والمذهب في زنجبار او موريتانيا وجزر القمر والصومال والخ يشعر بمزيد من الاطمئنان ويزداد ايمانه بضرورة تحقيق وحدتين: الوحدة القومية والوحدة الدينية.. وبانتماء العراق لهاتين الوحدتين يشعر بالاطمئنان العميق. لذلك لم يستطع السني الايمان بـ او الانتماء لفكرة وطنية او اقليمية عراقية بل كان ينتمي للاحزاب ذات الشعارات والمشاريع القومية حتى لو كان في ذلك قفزا على الواقع او الحاق ضرر بالعراق! ومن جهة اخرى نشأت ثقافة سنية (وصلت لعالم السياسة والادب) تتهم الشيعة العراقيين بانهم "عجم" وان الولاء عندهم عبر التاريخ كان لإيران! وكان من ابرز رموز هذا التوجه الشاعر معروف الرصافي ونقيب اشراف بغداد ورئيس اول حكومة عراقية السيد عبد الرحمن النقيب ووصل الامر الى تبني بدر شاكر السياب لهذا المنطق! وكتابة هؤلاء تبدو وكانها تمهيد غير مقصود لما صدر لاحقا من مكتب صدام حسين من مقالات تتهم الشيعة (سكان الاهوار او الجنوبيين عموما) بالانحطاط وانهم طارئون على البلد وجاءوا مع الجاموس ايام محمد القاسم!
والواقع ان احساس السنة بانهم اقل عددا في العراق جعلهم يقفون دائما ضد فكرة الديمقراطية لانها في مصلحة الاكثرية الشيعية. ولهذا السبب تميزت الاحزاب والحركات القومية بالايمان بفكرة القائد اكثر من ايمانها بالديمقراطية والياتها. ومن جهة اخرى يمكن ان نرى ان الشيعة كانوا اكثر ترحيبا واستجابة لرفض عبد الكريم قاسم لفكرة الوحدة الفورية مع مصر وكانوا اكثر انتماء لأي حزب يقف ضد الوحدة الفورية. فهذه الوحدة ستجعلهم، من جديد، اقلية في عالم سني وعربي اوسع من العراق، وهم لم يجدوا في المحيط العربي كله من يمكن ان ينجدهم كما ينجد السنة. انا لا اتحدث هنا في موضوع طائفي اطلاقا.. بل هي محاولة متواضعة لجمع اجزاء متفرقة من الموزاييك العراقي لنعرف لماذا هادنّا المحتل ولماذا قاومناه؟ وهل نجحنا في بناء هوية وطنية تتفوق على الهوية الطائفية؟ الشيعة من جهتهم وعبر قرون او عقود كانوا يتعرضون لتهديدات وهجمات من سنة عرب خارج الحدود (هجوم الوهابيين على كربلاء والنجف واستباحتهما وتقتيل رجال هذه المدن) اضافة الى كونهم منبوذين في العهود الاموية وحتى العباسية وليس في ذاكرتهم من دافع عنهم بوجه ما تعرضوا له من هجمات سوى ايران الصفوية. ومن الطبيعي ان يتعدل الميزان عند شيعة العراق كما عند سنته بوجود عمق له خارج جمهوره العراقي.. وهو ما يحصل الان بشكل اوضح: فالشيعي العراقي يرحب بالشيعي الايراني والافغاني والهندي والبحريني والسعودي، وهو نجح في تحويل زيارات عاشوراء الى استعراض لمن يمثلون عمقا له ويخفف عنه الاحساس بانه اقلية في عالم سني كبير. والشيعي ليس متضايقا حقا من وجود الميليشيات او الحشد الشعبي وحتى من الحديث عن ارتباطها بايران.. تماما مثل السني الذي لم يتضايق من مجيء السعودي (الاخر) والشيشاني والاردني والمصري حتى لو كانوا تحت شعار القاعدة او داعش!
وخلاصة هذا الحديث المربك والمرتبك ان الهوية الوطنية العراقية الجامعة ليست امرا مفروغا منه ما دامت حتى الان اضعف من الهوية الطائفية واضعف حتى من الهوية العشائرية!
ولا اقول ان الشيعة او السنة او الكرد على صواب او خطأ.. بل اقول ان القوى الفاعلة في هذه الطوائف او المجموعات هي قوى مسلحة حتى الاذقان. وحقا لا توجد حرب طائفية او قومية قادمة، فكل الاطراف ممسوكة من "عمقها" الذي هو خارج الحدود.. لكن الا توجد طريقة نحدق فيها بهذا الوضع حتى يصبح هذا السلاح للعراق وليس ضده؟