فئران فائضة عن القيمة
23-آب-2023
صباح الأنباري
الصامتون: رجل التمثال (العازف) مجموعة من الشباب.. مجموعة من الشيوخ.. مجموعة من عامة الناس.. عازفة الكمان.. الشاب (المتسلل).. امرأتان ورجلان.
المنظر: شارع مغلق مخصص للمشاة فقط. الناس في حال رواح ومجيء. تتراصف على جانبيه واجهات المحال التجارية الأنيقة الفاخرة. تنتصب على منتصفه دكة تمثال يقف عليها رجل مع آلته الموسيقية.
المُصْمَت الأول:
يبدأ الرجلُ العزفَ على آلة الكمان. يتجمع تحته عدد من المستطرقين الشباب. يعزف لحناً راقصاً. يبدأ الشباب بالرقص فرحين ومبتهجين. يزداد إيقاع الموسيقى سرعة. يتابعون الإيقاع برغبة وولع. يرتفع صوت الموسيقى شيئا فشيئا حتى يصل الى أعلى طبقة ممكنة. يترنح الراقصون كما لو كانوا سكارى. يزداد صوت الموسيقى ارتفاعاً حتى يتحوّل الى ضجيج عال جداً. يرتفع أكثر متحولاً الى ضجيج لا يطاق. يضع الراقصون راحات أيديهم على آذانهم وهم يترنحون. يضغطونها بشدّة. يتألمون بينما تستمر الموسيقى على نفس الدرجة من الصخب العالي. يتساقط الراقصون. يغمى عليهم جميعاً. تتوقف الموسيقى ويعم الهدوء والصمت أرجاء المكان. يتحول عازف الموسيقى الى تمثال حجري. تمر لحظات مريبة. يبدأ الناس بعدها بالاستيقاظ واحدا تلو الآخر. يقفون في صفين متقابلين على أرضية المكان. يتقدم أحدهم من الصف الأيسر نحو أحدهم في الصف الأيمن يشير له بسبابته مركزا إصبع الاتهام نحوه ثم يتبعها بحركة ذراعيه علامة الاستفهام. يحرك الآخر كفه علامة رفض الإجابة ويتبعها بحركة الطرد أو الابتعاد عنه. يتراجع الرجل الى الوراء مخذولاً. يتقدم آخر من هنا باتجاه آخر من هناك، يقومان بالحركات نفسها ثم يبتعدان عن بعضهما بعضاً. تتكرر الحركة نفسها مع البقية بإيقاع سريع. يستدير الكل نحو التمثال. يتقدمون منه يقوم أحدهم بمحاولة ضربه بحذائه لكنه يتلقى رصاصة من مجهول فيسقط أرضاً. يدبّ الخوف في نفوس الشباب. يتراجعون رويدا رويدا ثم يفرون بكلّ ما أوتوا من سرعة الركض الى خارج الكواليس. تطفأ الأضواء تدريجياً ويعم المسرح ظلام تام.
إضاءة دائرية مركزة (من السبوت لايت) على تمثال عازف الموسيقى، يتجمع الناس قربه منبهرين به وبقوامه المهيب. يمدون أيديهم نحوه بقداسة. يرمون أمامه قطعاً من النقود المعدنية والورقية. ينظر إليهم رجل التمثال بغرور. يبتسم لهم ابتسامة ماكرة. يضعون مزيداً من النقود تحت قدميه. يبدأ العزف بصوت منخفض. يتأثرون به. يتمايلون بخدر. يرتفع صوت الموسيقى حزيناً فتخيم الكآبة على وجوههم. تزداد الموسيقى حزنا فيبدأ الكل بالنحيب والبكاء. يشتد العزف بوتيرة أقوى فيشتد النحيب والبكاء حتى يصبح هستيرياً وتصبح حركاتهم شبيهة بحركات الدراويش في حلقات الذكر ومع الصخب وازدياد الشعور بالكآبة يتساقطون الواحد تلو الآخر منطرحين على أرضية الشارع، والكل منكفئ على وجهه أو متكور على بعضه بقوة. تتوقف الحركة، وتهدأ الموسيقى ويعم الصمت.
تمر لحظات مريبة قبل أن يبدأ الكلّ بالاستيقاظ على التوالي وهم ينظرون الى التمثال بريبة وتوجس. يتحركون بشكل مفاجئ نحو التمثال، وقبل أن يفعلوا شيئا ينطلق صوت الموسيقى آتياً من وراء الكواليس هذه المرة. تظهر عازفة جديدة وهي ترقص مع عزفها بغنج ورشاقة. تمر من بينهم أثناء رقصها وهم في ذهولهم ساهون صامتون. تتوقف عن العزف حين تصل الى منتصفهم تشير للتمثال كي يشاركها العزف. يعزفان بفرح غامر أول الأمر ثم تتوقف هي عن العزف وتكتفي بتحريك قوس الكمال في إشارات مدروسة وكأنها تقود أوركسترا. تبالغ في إشاراتها كثيرا يتابعها العازف بزيادة الإيقاع زيادة جنونية حتى يفقد السيطرة على نفسه. جرة كمان مدوية على إثرها يسقط العازف من على قاعدة التمثال الى الأرض. ترفع العازفة كلتا يديها الى الأعلى في إشارة الى انتهاء المعزوفة، وانتصارها الأكيد وفي ذات اللحظة تتلقى رصاصة مجهولة تخترق رأسها الصغير فتسقط ميتة على أرضية الشارع. تطفأ الأضواء.
المُصْمَت الثاني:
ينهض العازف أو رجل التمثال وكأن الحياة قد ردت إليه. وبعد عزف قصير يتجمع الناس حوله بآلية مفرطة. يرقصون رقصاً طقوسياً غريباً. يحتضنون بعضهم بعضاً ثم يترك بعضهم بعضه الآخر غير مخيّر وفقط مشدود الى العزف والإيقاع الذي يتباطأ بين فينة وأخرى. يدخل الى المكان بضعة أنفار من الشباب يندمجون مع الموقف العام وكأنهم جزء لا يتجزأ من الكل. يدخل اثنان من الشباب امرأة ورجل يحاولان الفصل بين الناس والعازف. يبذلون قصارى جهدهم لكهم يفشلون. تتكرر المحاولة من قبل غيرهما فيفشلون أيضاً ينسحب الرباعي الى دكة التمثال وهم ينظرون الى الجميع نظرة أسف وتوجس مما قد يحدث لاحقاً. يغير العازف إيقاع الموسيقى الى إيقاع مختلف ينم عن الرعب والخوف والشيطنة. يصبح الإيقاع بطيئا. يتحرك الناس ببطء أيضا حركات تجعلهم يطيرون في الهواء وكأن أقدامهم لم تمس الأرض. يدورون حول العازف دورة دورتين أو أكثر ثم يتركونه ويتوجهون نحو الأشخاص الأربعة. يدورون حولهم. يغطونهم بدائرة تدور حولهم وإذ تنفرج يكون الأربعة قد اختفوا من الوجود. يعود العازف الى الموسيقى التي جمع بها الناس من حوله. يعيدها عدة مرات حتى يبدأ الناس بالتدفق الى المكان. يتقدمهم جميعا وهو يحث الخطى الى خارج المسرح. يتبعونه بآلية الى حيث يذهب. يخرجون الى الكواليس. يدورون من خلف الستارة الخلفية أو (السايكلوروما) ثم يدخلون من الجهة الأخرى للمسرح. يقف العازف فيتوقفون. يتحرك الى الجهة المقابلة. يشير عليهم بقوس الكمان أن يظلوا في محلهم. يطيعون. يضع الكمان جانبا والقوس أيضا. يعطي إشارة البدء بموسيقى مختلفة مستخدما آلة الفلوت هذه المرة أو الناي. تنفتح في وسط الخشبة حفرة واسعة وعميقة ممتلئة بالماء. يعزف على الفلوت فيبدأ الكل بالتقدم منه الواحد تلو الآخر غير مبالين بأي شيء. وكأن العازف قد تحوّل الى آلة مغناطيسية يجذب أولهم الى حافة الحفرة. ينطلق صوت إطلاقة مجهولة تخترق رأسه فيسقط في البركة وسقوطه يطرطش الماء منها الى خارجها. يتقدم الثاني وبالطريقة نفسها يصاب برصاصة مسدس مجهول فيسقط في البركة أيضا وهكذا تستمر العملية حتى يلاقي أخيرهم مصير من سبقوه. يمر العازف على الجثث القديمة المكومة حول دكة التمثال. ينهض من الجثث ثلاثة أو أكثر أو أي عدد يرتئيه المخرج. يصنعون من أجسادهم سلماً. يرتقي العازف درجاته بحذر شديد. يقف في محله القديم على منتصف الدكة. يستقر فوقها تماماً، ويتوقف عن الحركة مثل تمثال حجري. تجمد الحركة وتطفأ الأضواء.
المُصْمَت الثالث:
يدخل الى المسرح عدد من الرجال المسنين أو الحكماء. يبدأ رجل التمثال بالعزف لكن الجميع لا يبالون بعزفه. يغير اللحن ولا يبالون أيضا. يغيره بلحن آخر مختلف ولا يبالون أو ينتبهون له وفقط يستمرون بحركاتهم التقليدية، وعندما يضطر العازف الى القيام بضربة إيقاع قوية جداً ومعها رفسة قوية بإحدى قدميه يستديرون نحوه. ينتبهون له. يصغون لعزفه بارتياب وكأنهم مجبرين على الإصغاء. وما أن ينتهي من العزف حتى يرمونه بالحجارة أو بأي شيء قذر يحصلون عليه من محيطهم. نسمع صوت إطلاقة مجهولة مدوية. يتوقفون عن الحركة. ينظرون الى كل الجهات بحثاً عن الجهة التي صدر منها صوت الطلق الناري. يركزون النظر الى جهة اليمين. يندهشون من ظهور سبطانة مدفع تتقدم نحوهم ببطء منذرة بشؤم مستطير، ومع تقدمها يتراجعون بحذر الى الوراء. يشعرون بتهديدها. تتوقف عن الحركة.
ينحنون أمامها تفاديا لمقذوفها في حالة انطلاقه باتجاههم. تنخفض السبطانة الى الأسفل فيتراجعون مرة أخرى. يرفعون هاماتهم فترتفع السبطانة أيضا. ينحنون ثانية فتنخفض هي الأخرى. يقومون بحركة تنم عن التحدي. يتقدمون بإصرار صوب السبطانة فتتراجع أمام تقدمهم. يتقدمون ولاتزال السبطانة تتراجع حتى تختفي تماما وراء الكواليس يتوقفون عن الحركة. يجتمعون في منتصف المكان. تنطلق قذيفة مدوية يرمون بأنفسهم على الأرض تسقط القذيفة في منتصفهم. تنفجر محولة أجسادهم الى أشلاء متناثرة. تفتح النيران الكثيفة على من تبقى حياً فيقع الجميع صرعى على الأرض. يعم الصمت بعد لعلعة الرصاص لحظات قصيرة وينطلق العزف بلحن جديد. يتسلل شاب الى دكة التمثال. يقف عند أسفلها وهو يراقب العازف وحركاته النزقة. يرتقي الدكة بهدوء وحذر. ينظر صوب المكان الذي انطلق منه الرصاص والقذيفة المتفجرة يقترب من العازف. يطوق رقبته بإحدى يديه فيجمد العازف في محله. يأخذ منه قوس الكمان. يضعه على رقبة العازف كما لو كان القوس سيفاً. يمرر القوس على رقبة العازف فتندلق الدماء بغزارة وينهال الرصاص على الشاب بكثافة أشد من ذي قبل. يظل الشاب محافظاً على وقفته لحظات. يبدأ بالتكور على نفسه باركا على قاعدة التمثال ولا يزال الرصاص مستمراً بجنون ومع استمرار الموسيقى تتوقف حركة الشاب شيئا فشيئا. يتوقف إطلاق النار، ويعم الصمت، وكأن شيئا لم يكن. يظهر من عمق المسرح راكضا طفل صغير. يتقدم الى الأمام. يتقدم حتى يصل الى قاعدة التمثال. يحاول تسلقها وإذ يفشل فانه يكتفي بمسك قبضة الشاب ويترك قبضته الأخرى مضمومة ومرفوعة عاليا في فضاء المسرح. تطفأ الأضواء. وحده السبوت لايت يظل مركزاً على الشاب والطفل وقاعدة التمثال. تستمر موسيقى الكمان أو العزف على الناي بضع لحظات مؤثرة ثم تبدأ مع الإضاءة بالخفوت تدريجياً ( فيد أوت( Fade out حتى يغطي الظلام أجزاء المسرح.