كاترين لاسي تفضح أكاذيب المجتمع الأميركي في رواية «مقعد»
14-أيلول-2022
انطوان جوكي
"غرانتا" (Granta) هي من دون شك أقدم مجلة أدبية ليس فقط في الولايات المتحدة، حيث تأسست عام 1889، بل أيضاً في العالم. لكن قيمتها لا تعود إلى عمرها المديد، مقدار ما تعود إلى الكتّاب الكبار الذين كتبوا في صفحاتها، ومن بينهم سيلفيا بلاث وسلمان رشدي وما لا يقل عن 27 فائزاً بجائزة "نوبل"! وعلى صفحات هذه المجلة العريقة انطلقت مسيرة الكاتبة الأميركية كاترين لاسي، فنشرت فيها قصصاً غريبة حول موضوع التيه. موضوع بات ثابتة في عملها، كما تشهد على ذلك روايتها الأولى، "لا أحد يختفي" (2014) التي روت فيها قصة امرأة أميركية تتخلى عن كل ما يشكّل حياتها لمعانقة الطرقات. وكذلك روايتها الثالثة "مقعد" (2020) التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود"، وتنقلنا قصّتها إلى بلدة صغيرة وغير محدَّدة في وسط أميركا حيث تحطّ شخصيتها الرئيسة رحالها بعد تيهٍ طويل.
القصة نتلقّاها بصيغة المتكلم، من فم هذه الشخصية اليانعة التي فقدت ذاكرتها. بالتالي، لا نعرف لا اسمها ولا جنسها ولا أصولها. المؤشّر الوحيد حولها هو ما تقوله بنفسها في مطلع الرواية، ويعزّز لغزها: "من المحتمل أن مَن أنا ــ مهما كنتُ ــ ممددٌ داخل زورق، يحدّق في السماء". حين تصل ليلاً إلى البلدة المذكورة، تجد مأوى لها في الكنيسة. وصباح اليوم التالي، تستيقظ خلال القداس بجانب الزوجين هيلدا وستيفن بونير اللذين سيستضيفانها في دارهما لأنّ من الواضح، في نظرهما، أن البارئ أرسلها إليهما. لكن بسرعة يسبب هذا الكائن الملغّز مشكلة لهذه العائلة، ولأبناء البلدة عموماً، لكونه لا يتكلم، أو يرفض الكلام.
"مقعد" الضيف الغريب
لحلّ مسألة اسمه، يُطلِق كاهن البلدة عليه اسم "مقعد" لأنه كان ممدداً على أحد مقاعد الكنيسة حين عثرت عليه عائلة بونير. كما لو أن هذا الكائن لم يظهر إلى حيّز الوجود إلا انطلاقاً من اللحظة التي رأته هذه العائلة فيها! وحين يصل إلى دار هذه العائلة، يؤكّد هيلدا وستيفن له باستمرار عزمهما على مساعدته. لكن بموازاة ذلك، نراهما يراقبان أدنى تنقلاته خلال ساعات النهار، ويغلقان عليه باب الغرفة العلوية التي خصّصاها له، خلال الليل. وكما لو أن ذلك لا يكفي، يقرران بسرعة إخضاعه لفحص طبي بعذر أنّ من المحتمل أن يكون مصاباً بمرض مُعد رهيب، ثم لفحص سيكولوجي للتأكد من سلامة عقله، وذلك ضمن حوار من طرف واحد معه، مليء بتعاطف زائف ورقّة مفتعَلة.
وفي الحقيقة، يتأرجح هذان الزوجان بين ما يتصوّران أنه واجبهما كمسيحيَّين، وخوفهما من الغريب، خصوصاً وأن "مقعد" ليس أبيض البشرة تماماً. وفي ضوء ذلك، "ألن يجد راحته أكثر في عائلة أخرى تشبهه؟" سؤال لن يترددا عن طرحه في لحظة ما، وعن وضع جواب له، موضع التنفيذ. لكن قبل أن يحدث ذلك، يضطر "مقعد"، بإيعاز منهما، إلى مقابلة العديد من الأشخاص الذين سيحاولون جميعاً معرفة مَن هو، اسمه الحقيقي، من أين أتى، وإن كان فتى أو فتاة. كما لو أنه من الضروري التمكّن من وضعه في خانة محدَّدة سلفاً، قابلة للقراءة وسهلة الفهم. شخصٌ لا يبدي أحد في الواقع اهتماماً به ككائن بشري، وينظر إليه كل مَن يقابله، بشكلٍ مختلف.
في هذه البلدة "الورعة" التي يمثّل الدين فيها حجر الزاوية في تعريف كل فرد من أفراد مجتمعها، يقود صمت "مقعد" أولئك الذين سيلتقون به، إلى الكلام، كما لو أنّ من الضروري جداً ملء الفراغ، وكما لو أنهم على كرسي الاعتراف. وبما أنه لا يتفوّه بكلمة، فهو لا يكذب على أحد، لكنه في الوقت نفسه لا يكشف أي شيء، وهو ما سيعزز فضول محاوريه، ويغرقهم في الحيرة ويدفعهم إلى التعبير بحرية. هكذا، يشعر كل واحد منهم أمامه بالحاجة إلى خيانة نفسه وإظهار أسوأ ما فيها، ساعياً بذلك ليس إلى الغفران، بل إلى قول تلك الكلمات المكبوحة داخله، إلى ذلك الذي لن يكرر أي شيء منها، ولن يجبر أحداً على تبرير نفسه. وحين يؤول بوحهم الجارف له، إلى إسقاط انحرافاتهم الخاصة عليه، يفقد "مقعد" وجوده كشخص في حد ذاته، ويصبح لا وجود له أو هوية إلا من خلال النظرة التي يلقيها كل واحد منهم عليه.
اللاهوية الجنسية
على مدى أسبوع، تتتبّع هذه السردية إذاً حياة هذا المراهق/المراهقة داخل مجتمع البلدة الضيق، كاشفةً الشخصية الحقيقية لكل واحد من أفراده، أكاذيبهم، عنصريتهم الكامنة، فحش أفكارهم وخبثهم الذي يتبدّى خلف كل ابتسامة كاذبة، وكل كلمة زائفة في لطفها. لكن عن "مقعد" لن نعرف أي شي مما نعرفه عادةً عن شخصٍ ما بمجرد أن يقع نظرنا عليه، أي عمره التقريبي وهويته الجنسية وأصوله الإثنية. لكننا نعايشه عن قرب ونشاركه مشاعره وأفكاره وتحليلاته وتفاعله مع الآخرين، فيتجلى لنا ككائن شديد الحساسية والهشاشة، ومع ذلك، هو صلب أمام رداءة الآخرين ودناءتهم وتناقضاتهم.
كائن يخطّ تحت أنظار القراء، بسرديته، لوحة اجتماعية رهيبة تشكّل فيها شخصيته الدخيلة والكاشِفة مكثّفاً مخاوف معظم سكّان تلك البلدات الأميركية الصغيرة، الذين يظنّون أنهم يتفوّقون على غيرهم بقيمهم الأخلاقية وفضائلهم، في حين أنهم في الواقع، متعصّبون ومنافقون، يخشون مَن لا يشبههم كلياً، ولا يعرفون سبيلاً للتخلص من شعورهم بالذنب، إلا بتوجيه أصابع الاتهام إلى الآخر، المختلف عنهم، الذي قرروا استبعاده. وفي هذا السياق، تبيّن الكاتبة من خلاله كيف أن الظهور المفاجئ للغريب المطلق داخل مجتمع محافِظ من جميع النواحي، وفخور بجانبه "الإحساني"، كافٍ لتمزيق مظاهر كماله الهشة، وتعرية ما تبيّته نياته "الحسنة".
الذات الجماعية
لكن قيمة هذه الرواية لا تقتصر على ذلك، فقصّتها اللازمنية تستحضر، بأجواء البلدة التي تقع أحداثها فيها، مخاطر الوقوع على الذات الجماعية الذي يؤول حتماً إلى بارانويا تنعكس بقوة في مرآة شخصية "مقعد" المحرّرة من كل شيء: الذاكرة، العائلة، المجتمع، العمل، الأصدقاء، الانتماء الديني والجغرافي... وبالثرثرة الفارغة من المعنى لأبناء البلدة مع هذا الكائن "الغريب" وفيض بوحهم له، وله فقط، وبالصمت الذي يقابل هذا الأخير به هذا الهذر، تعرّي الكاتبة آفةً أخرى لهذه المجتمعات المنغلقة على نفسها، أي انعدام التواصل الحقيقي والصريح بين أفرادها.
وبالنتيجة، تُقرأ رواية "مقعد" كنوعٍ من استجواب الذات في مرآة الآخر، وفي الوقت نفسه، كحوار طرشان، كما أصاب أحد النقاد الفرنسيين في وصفها. رواية يقلب القارئ ببطء،ٍ صفحاتها المكثّفة بالتفاصيل والملاحظات الدالّة، ويعبر الأيام السبعة التي تدور أحداثها خلالها، على أمل بلوغ فرجة في الطرف الآخر من الهاوية السيكولوجية التي تصوّرها. لكن لا فرجة ولا حتى نقطة أمل تنتظر القارئ في نهايتها، إذ تبقى البلدة على حالها التعيسة، ويبقى الغموض يلف كلياً شخصيتها الرئيسة.
في معرض تحديده ميزة هذا العمل الروائي المهم، طرح الناقد الأدبي في مجلة "نيويوركر" عبارة "فن اللغز". لكن حين نفرغ من قراءته، يتبيّن لنا أنه أكثر من ذلك. إنه فن استخدام اللغز لإخراج ما هو كامِن وغير مُصاغ داخلنا.