كيف تبدو قراءة امرئ القيس في عصر الحداثة؟
15-أيار-2023
محمد السيد اسماعيل
يجمع الناقد المصري محمد عبدالباسط عيد بين مزيتين تبدوان في نظر بعضهم على طرفي نقيض، وهما الانضباط المنهجي من جانب والقدرة على تذوق الشعر من جانب آخر، ويتضح هذا في كتابه "خباء النقد والشعر: معلقة امرئ القيس – الشروح - البلاغة – الحِجاج" (دار العين- القاهرة)، الذي ينقسم إلى فصلين كبيرين يحمل الأول عنوان "العقل النقدي حول المعلقة" ويتكون من مبحثين، المضمر النقدي في شروح القدماء وسؤال المنهج في قراءات المحدثين، بينما يحمل الثاني عنوان "الحِجاج والتخييل... البحث عن حيوية النقد" ويتكون من ثلاثة مباحث هي على التوالي، الشروح والبلاغة والحِجاج، جدارية امرئ القيس: قراءة في إستراتيجيات الحِجاج، والإيقاع: جدل ظاهر النص وباطنه.
والكِتاب كما يبدو من العناوين السابقة، قراءة حِجاجية طبقها الناقد كثيراً في أعمال سابقة مثل "في حِجاج النص الشعري"، وقصيدة "ليت هنداً أنجزتنا ما تعد" لعمر بن أبي ربيعة، ورواية "فساد الأمكنة" لصبري موسى، وها هو يطبق إستراتيجيات هذه القراءة مرة أخرى على معلقة امرئ القيس، وهي نص ينحاز إليه الناقد بكليته إلى درجة يرى فيها أن "كل شعر بعدها هو عميق الصلة بها، تتمدد فيه تراكيبها وأخيلتها"، وهو قول مبالغ فيه، فقد بدأ التمرد على تراكيب الشعر الجاهلي وأخيلته منذ العصر الأموي مروراً بالعصر العباسي ووصولاً إلى شعر الإحياء والرومانسية وحداثة شعر التفعيلة وقصيدة النثر، وهكذا يصبح من المستبعد وضع هذه الشعريات المتعاقبة فى جملة واحدة.
ضرورة التأويل
ويعتمد عيد في قراءته الحِجاجية على التأويل الذي لا أراه خاصاً أو وقفاً على الحِجاج، فهو آلية شائعة في كل المناهج التاريخية والاجتماعية والنفسية، ويبدو الفصل الأول بمبحثيه تمهيداً لقراءة الناقد إذ تناول فيه شروح القدماء للمعلقة متوقفاً أمام الباقلاني الذي عاب مثلاً تكرار دال "خدر" في قول امرئ القيس: "ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة..."، ورأى ذلك من قبيل الحشو الذي لا يضيف شيئاً إلى النص، ولا شك أننا نلاحظ ما في كلام الباقلاني من غلو وافتعال، فالتكرار ظاهرة معروفة في الشعر والنثر ولا اعتراض عليها ما دامت موظفة فنياً، ولكن الباقلاني يقرأ المعلقة بنية مسبقة وهي إثبات تفككها، وعدم انسجامها لكي يثبت في المقابل إعجاز القرآن، وهو غرضه الرئيس.
مرت قضية الإعجاز بمرحلتين تتمثل الأولى في التفسير الميتافيزيقي الذي قال به النظَّام، وهو أن الله صرف المشركين عن محاكاة القرآن الكريم. وتتمثل الثانية في التفسيرات النصية التي بلغت ذروتها عند عبدالقاهر الجرجاني في نظرية النظم، ومع ذلك يمكن القول، مع الباحث، إن الباقلاني تجاوز البيت والشاهد وتقدم في شكل ملحوظ نحو عالم النص، منشغلاً بمفهوم البنية، وكانت النقلة الأكثر أهمية على يد الجرجاني حتى أننا "صرنا إزاء بلاغتين متمايزتين، بلاغة الشعر وبلاغة القرآن"، وهي لفتات ذكية توصل إليها الباحث، لكننا لا نستطيع أن نذهب معه إلى أن "عمل الشارح هو جوهر عمل الهرمينوطيقي"، وذلك لأن الشارح يتحرك في إطار البحث عن المعنى أو المعاني الممكنة للمفردة اللغوية، وهي معروفة سلفاً ومتضمنة في الشواهد الشعرية السابقة واللاحقة، بينما عمل الهرمينوطيقي أكثر شمولاً من ذلك.
عالم النصوص
على أن مأثرة الشراح الكبيرة هي تعاملهم مع النص المدروس بوصفه جزءاً من عالم النصوص، ومن هنا سقطت قضية "السرقات" التي انشغل بها النقاد كثيراً، وفي المبحث الثاني (سؤال المنهج في قراءات المحدثين) يتناول عيد ما يعرف بالمنهاجية الخارجية التي تشمل المناهج التاريخية والاجتماعية والنفسية والأنثرولوجية، والمنهاجية الداخلية ممثلة في المنهج البنيوي والأسلوبي والسيميائي والتفكيكي ونظريات القراءة وعلوم النص وبلاغة الخطاب، ويرى أن المنهج التاريخي والاجتماعي عند طه حسين أضاء في شعر المعلقات جوانب مهمة لم تعرفها الشروح ولا كتب النقد القديم إلا لماماً وعبر شذرات متفرقات، وهو ما ترتبت عليه المعرفة الواسعة بالشاعر وعالمه الشعري الذي هو جزء من عالمه الاجتماعي.
ومع ذلك فقد وجهت انتقادات كبيرة إلى طه حسين في هذا الصدد، منها انشغاله بتطور المجتمع وما يعرف بالحقيقة الخارجية التي يجعل من النص وثيقة لها، ومن الزاوية نفسها انتقد الدارسون "إسراف المنهج النفسي في توظيف مقولات علم النفس وانشغاله بنفسية المبدع".
المناهج الداخلية
ومن خلال هذه الانتقادات بدأت المنهاجية الداخلية التي تعنى بتحليل بنية النص، هذه المنهاجية التي بدت فيها "المعلقة بناء مستقلاً وعملاً قائماً بذاته، وعلى الناقد أن يبحث في جماليات اللغة وما قد تنطوي عليه من طاقات رمزية"، ويضرب عيد مثلاً بمصطفى ناصف الذي يرى أن "الشاعر الجاهلي لا يتصور الفن عملاً فردياً بل يتصوره نوعاً من النبوغ في تمثل أحلام المجتمع ومخاوفه وآماله"، والحقيقة أن ناصف عسير على التصنيف النهائي، كما يقول الباحث، لأنه "واسطة عقد منهجي بين تيار النقد الاجتماعي والتاريخي والنفسي الذي قدمه طه حسين والعقاد والنويهي، وتيار النقد الألسني الذي سيهيمن على كثير من الدراسات التي قدمت لشعر المعلقات ومنها النقد البنيوي، كما نجد عند كمال أبو ديب وعدنان حيدر وريتا عوض وغيرهم، أو النقد الأسلوبي عند صلاح رزق".
ويتوقف الباحث بعد ذلك بإيجاز عند ما قدمه أبو ديب وصلاح رزق، ويرى أن الأسلوبية هي الأقرب إلى المزاج العربي فقد نظر إليها كل من شكري عياد ومحمد عبدالمطلب بوصفها امتداداً للبلاغة العربية القديمة، ويفرغ الفصل الثاني كله لدراسة معلقة امرئ القيس، وهي دراسة تقوم على "نظر نسقي سيميائي كلي يلتقي فيه الشكل بالمحتوى والتداولي الحجاجي بالتخييلي الجمالي، وهذا التركيز على الجانب التداولي في الخطاب بعد جوهري في بلاغة الحجاج"، وهذا معناه أننا أمام إجراءات نقدية تتجاوز القسمة القديمة بين المنهاجية الخارجية والداخلية، إذ أصبح التحليل البلاغي السيميائي "دينامية نصية حجاجية في منطلقها وشعرية في جوهرها وعمومية في متصوراتها". والربط الذكي بين البلاغة والحجاج يرجع إلى أن البلاغة هي "القدرة على الإصابة والتأثير بصرف النظر عن نوع النظام اللغوي"، أو كما يقول مصطفى ناصف إن الدراسة البلاغية افترضت "أن الإنسان لا يفكر لوجه التفكير ولا يشعر لوجه الشعور، وإنما يفكر ويشعر من أجل التأثير في مخاطب والتغلب عليه".
جدارية المعلقة
وبعد هذا المهاد النظري يتوقف الباحث محللاً معلقة امرئ القيس ويصفها بالجدارية المكونة من عدة لوحات، "الأطلال" و"أيام امرئ القيس" و"بيضة الخدر" و"الليل" و"قيد الأوابد" و"السيل". ولأننا أمام لوحات فقد ذهب الباحث إلى أن المعلقة تقوم على "جمالية التجاور"، وهي جمالية تغدو القصيدة فيها "أشبه بجدارية فنية هائلة الاتساع، يضع عليها الشاعر لوحات عدة، مختلفة الأشكال والألوان والأحجام والمساحات".
لكن الذي لا شك فيه أن اعتماد الشاعر الجاهلي على "جماليات التجاور" جاء عفوياً على العكس من استخدام هذه الجمالية في القصيدة الحديثة، كما ظهرت في "رحلة في الليل" لصلاح عبدالصبور وعدد من شعر أحمد عبدالمعطي حجازي.
وفي تصوري أن ما قدمه الباحث عن الإيقاع والتفرقة بينه وبين الوزن العروضي ثم بينه وبين الموسيقى من أفضل ما قام به، حين يقرر أن لكل نص إيقاعه لأن لكل نص دلالته. وبهذا الفهم المتسع يصبح من الطبيعي مقاربة تجليات الإيقاع ابتداء من الصوت المفرد، صعوداً إلى الوحدات ذات الدلالة وانتهاء بالتراكيب ذات البنى المتوازية. وبإيجاز يمكن القول إن الإيقاع يتشكل من حركة الدلالة والموسيقى والنسق العروضي، وبناء على ذلك تحدث الباحث عن إيقاع الموقف وإيقاع السرد وإيقاع الوصف، والحقيقة أنه لا يمكن اعتبار هذا الكتاب مجرد قراءة حجاجية لمعلقة، فقد تجاوز ذلك إلى إعادة الاعتبار للشروح القديمة التي أهملها النقاد المحدثون، ومن خلال تجاوز هذا القصور استطاع الناقد محمد عبدالباسط عيد الاقتراب من روح المعلقة ومن روح صاحبها عبر منهاجية محددة وهي بلاغة الخطاب من زاوية حجاجية، مرسخاً بذلك أحد منابع هويتنا الجامعة، ونعني بها الهوية الجمالية.
النزاهة تحقق في قضية تهريب الذهب من مطار بغداد
18-تشرين الثاني-2024
الأمن النيابية: التحدي الاقتصادي يشكل المعركة المقبلة
18-تشرين الثاني-2024
الجبوري يتوقع اقصاء الفياض من الحشد
18-تشرين الثاني-2024
نائب: الفساد وإعادة التحقيق تعرقلان اقرار «العفو العام»
18-تشرين الثاني-2024
منصة حكومية لمحاربة الشائعات وحماية «السلم الأهلي»
18-تشرين الثاني-2024
مسيحيون يعترضون على قرار حكومي بحظر الكحول في النوادي الاجتماعية
18-تشرين الثاني-2024
الموازنة الثلاثية.. بدعة حكومية أربكت المشاريع والتعيينات وشتت الإنفاق
18-تشرين الثاني-2024
النفط: مشروع FCC سيدعم الاقتصاد من استثمار مخلفات الإنتاج
18-تشرين الثاني-2024
تحديد موعد استئناف تصدير النفط من كردستان عبر ميناء جيهان التركي
18-تشرين الثاني-2024
فقير وثري ورجل عصابات تحولات «الأب الحنون» على الشاشة
18-تشرين الثاني-2024
Powered by weebtech Design by webacademy
Design by webacademy
Powered by weebtech