تعد الدولة "حضارية" إذا قامت على أساس منظومة من القيم العليا التي تحيط بالمركب الحضاري للإنسان، الطبيعة، الزمن، العلم، والعمل. وقد شرحت في مقالات عديدة مسألة منظومة القيم وعلاقتها بالدولة الحضارية الحديثة. يتضمن ذلك إقامة علاقات قائمة على العدل، الحرية، والمساواة بين الأفراد، بالإضافة إلى استثمار مستدام وعادل للموارد الطبيعية، وهذا يُجسد المعنى الجوهري لمصطلح الحضارة. دعونا نستعرض هذه الفكرة بالتفصيل.
تتعامل منظومة القيم العنصر الثالث في عناصر المجتمع وهو العلاقة المزدوجة (علاقة الانسان بأخيه الانسان، وعلاقة الانسان بالطبيعة) حسب تفسير السيد محمد باقر الصدر للاية القرانية الكريمة:"اذا قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة". اما العنصر الاول فهو الانسان، والعنصر الثاني هو الطبيعة (الارض) فيما اطلق الصدر عنوان "العلاقة المعنوية" على العنصر الثالث.
وبين الصدر ان هناك صيغتين للعلاقة المعنوية، هما الصيغة الثلاثية (الانسان، والانسان، والارض) والصيغة الرباعية (الانسان والانسان والارض والله).
1. علاقة الإنسان بأخيه الإنسان
في الدولة الحضارية، تُبنى علاقات الأفراد على القيم العليا من العدل، الحرية، والمساواة. هذا يعني أن كل فرد يتمتع بالحقوق الإنسانية الأساسية دون تمييز:
- *العدل*: يقتضي العدل أن تُعطى الحقوق والواجبات بطريقة منصفة، حيث يُعامل الجميع بإنصاف بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
- *الحرية*: تعني الحرية أن يتمتع الأفراد بحقوقهم في حرية التعبير، الحرية الدينية، وحرية الحركة، بما لا يتعارض مع حقوق الآخرين.
*المساواة*: تهدف المساواة إلى توفير الفرص المتكافئة لجميع الأفراد دون التمييز، بحيث يكون لكل شخص نفس الفرص للحصول على التعليم، العمل، والخدمات الأساسية.
2. علاقة الإنسان بالطبيعة
تتضمن العلاقة بين الإنسان والطبيعة في الدولة الحضارية استثمار الموارد بطريقة مستدامة وعادلة، وذلك على النحو التالي:
- *أفضل استثمار للطبيعة*: يتطلب ذلك استغلال الموارد الطبيعية بطريقة تحقق التنمية المستدامة، بحيث يمكن استخدامها حالياً دون التضحية بإمكانية استخدامها في المستقبل. يتضمن ذلك الحفاظ على البيئة، تعزيز التنوع البيولوجي، والابتكار في طرق الإنتاج.
- *الحفاظ على الثروة الطبيعية*: يعني ذلك أن يتم توظيف الموارد الطبيعية مثل المياه، التربة، المعادن، والغابات بحذر شديد. يجب تطوير استراتيجيات لإعادة التدوير، وتبني التكنولوجيا النظيفة، والعمل على تقليل النفايات.
- *وفرة في الإنتاج*: تحقيق الازدهار الاقتصادي من خلال تحسين الإنتاجية والابتكار، مع العمل على تقليل الفاقد من الموارد وتعزيز الكفاءة.
*العدالة في توزيع الثروة*: تأكيداً على العدالة الاجتماعية، يتعين توزيع الثروة بطريقة منصفة قبل وبعد عملية الإنتاج. هذا يعني أن الجميع يشارك في الاستفادة من النمو الاقتصادي والتوزيع العادل للدخل، مما يضمن عدم تركز الثروة في أيدي القلة على حساب الفئات الأقل حظاً.
ويستطيع القاريء الدقيق للقران الكريم ان يلمس الاهتمام الكبير للقران بالقيم الحضارية المخصصة لاقامة علاقات سليمة بين الانسان واخيه الانسان، من جهة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة من جهة ثانية.
•المعنى الجوهري لمصطلح الحضارة
إجمالاً، يعني مصطلح "الحضارة" في نموذج الدولة الحضارية الحديثة تعزيز القيم الإنسانية والحفاظ على التوازن بين الإنسان والطبيعة. الحضارة هنا ليست مجرد تقدم مادي، كما انها لا تشير الى حضارة معينة من الحضارات المعروفة الحالية او السابقة، بل تعني القيم والمبادئ التي تضمن العيش الكريم للجميع واستدامة الموارد لأجيال قادمة.
الدولة الحضارية تقوم على التوازن الذكي بين تطور الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبين استثمار الموارد والحفاظ على البيئة، وهو نموذج يمكنه تحقيق التنمية المستدامة والسلام الاجتماعي.