رعد كريم عزيز
العرض في الهواء الطلق واحدة من مزايا النحت عبر التاريخ كما تشهد غالبية المدن التي تحتفي بالفن وتخليد الظواهر والشخصيات,والعاصمة بغداد واحدة من المدن التي تتكأ ذاكرتها على الشخصيات المميزة والاساطير المستمدة من الف ليلة وليلة.
فأن ذكرت بغداد ياتي ذكر كهرمانة وجرارها وزيتها وقهرها للصوص بفطنتها وشطارتها فكان نصبها ماثلاً في مدخل منطقة الكرادة وسط العاصمة بغداد وتمثال كهرمانة نحته الفنان الراحل محمد غني حكمت الذي ولد عام 1929- وتوفي عام 2011.
وليس ببعيد عن كهرمانة اذا دخلنا حي الكرادة وانعطفنا الى شارع (ابو نؤاس) نجد تمثال شهريار وشهرزاد على دكة من حكايا بانحناءات اثواب تماثيل محمد غني حكمت التي اشتهر بها في اغلب تماثيله ,واذا تقدمنا قليلا باتجاه فندق الشيراتون الشهير فسنجد تمثال بساط الريح على حافة رصيف الشارع وقد ركب عليه رجل وامرأته في رحلة يصارعان فيها الريح التي جسدها النحات حكمت بانحناءات البساط واثواب الرجل والمرأة وهما يتطلعان الى الامام بعيون سومرية ،بغدادية مفتوحة باتجاه الافق.
واذا دلفنا الى الباحة الداخلية لفندق الشيراتون سنجد تمثال عشتار بقامتها الفارعة وزيها السومري الابيض وسط باحة الفندق بتوقيع النحات محمد غني حكمت.
واذا تتبعنا كتيبة محمد غني حكمت وهي تتقدم لاحتلال ساحات بغداد العامة فسيواجهنا تمثال الفانوس السحري في الساحة المقابلة لاشهر مسرح في بغداد الا وهو المسرح الوطني العراقي.
وميزة هذا الفانوس انه يخرج ماءً بدل الدخان ليفيض بخيره على حوض من البرونز يحيط بالفانوس ويجمع الماء وسطه في عملية تكرار فيوضية للنماء المستمر.
واذا توجهنا مع كتيبة حكمت باتجاه ساحة الاندلس قرب مقر اتحاد الادباء العراقيين علينا ان نرفع راسنا لنشاهد تمثال بغداد الذي تجلس فيه السيدة باريحية بغدادية متحررة وهي تعتلي عمودا رخاميا يشبه المسلة وهو يتزين بالشعر.وقد عاد التمثال الى مكانه بعد ان نقل الى ساحة منطقة العلاوي في منطقة الكرخ بعد الاعتراضات الفنية على نقله كونه مخصص لساحة الاندلس منذ بداية نصبه بعد وفاة الراحل، حيث قامت امانة العاصمة بنصب اربعة تماثيل اولها بغداد والثاني الفانوس السحري الذي اتى ذكره ، ومن ثم تمثال الختم الاسطواني كتبت عليه عبارة "هنا بدأت الكتابة" ويظهر وكأنه يوشك على السقوط وتتعاون 5 أياد على رفعه في اشارة الى المكونات المتنوعة في العراق قرب متنزه الزوراء الكبير في جانب الكرخ. والنصب الرابع هو نافورة مائية خط في محيطها بيت للشاعر العراقي مصطفى جمال الدين يقول "بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ إلا ذوت ووريق عمرك أخضرُ". وضع النصب قرب مقهى «البيروتيّ» في جانب الكرخ من بغداد.وهذا النصب عبارة عن تشابك الخطوط العربية في كرة تبدا ولا تنتهي في حركة فنية يرطبها الماء الذي يربط اكثر من منحوتة صنعها الفنان محمد غني حكمت كناية عن استمرار الحياة بغير توقف.
واذا رجعنا من نهر دجلة قرب مقهى البيروتي الى منطقة باب المعظم مقابل وزارة الدفاع حيث دار الكتب والوثائق فسيكون باستقبالنا تمثال المتنبي كما تخيله حكمت ،فارسا متلفعا بردائه بمواجهة ريح الصحراء بعنفوان وكبرياء غير عابئ بما تخبئ له الايام من مخاطر وكأنه يصوره بمواجهة مصيره حينما قتل في صحراء مدينة واسط هو وولده محسد في الحكاية الشهيرة لمقتل المتنبي .
ولا تنتهي الحكاية عند المتنبي بل نجد بصمة حكمت في مدخل فندق الرشيد وسط المنطقة الخضراء حيث أنجز تمثال “الجنية والصياد” في مدخل فندق الرشيد في بغداد، كما انجز جدارية “تاريخ الطيران” لصالح مطار بغداد الدولي.
ولو اننا حصرنا متابعتنا لمنجزه الفني كشاهد على اظهار بغداد باساطيرها وقصصها برؤيا فنان يرتبط بالعمل المديني كحارس للجمال وكأنه ات من زمن سومر وبابل عبر الاف السنين ،فهذا لا يعفينا عن ذكر اعماله المتعددة في انجاز تمثال “البصراوية” في مدينة البصرة وباب السلام في مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” في باريس و أنجاز جدارية “درب الآلام” على 14 مرحلة في كنيسة الصعود في بغداد, ونحته لثلاث بوابات خشبية في كنيسة "تيستا دي ليبرا" في روما
كما كانت له اعماله في البلدان العربية كما هي الحال مع جدارية الثورة العربية الكبرى في العاصمة الاردنية عمان وعدد من الاعمال في دول الخليج، منها خمسة أبواب لمسجد قديم في البحرين. فهو الى جانب مهارته النحتية اهتم حكمت بتصميم ونحت الابواب ومطارق الابواب واسوار البيوت والحدائق، وله الى جانب بوابة اليونسكو نحو 70 بوابة في انحاء مختلفة من العالم لقد كان تلميذا بارا لاستاذه النحات الخالد جواد سليم الذي انجز نصب التحرير الشهير في بغداد وحاز على جوائز عديدة ودرس على يده عشرات الطلاب .
عاش محبا لبغداد بصفته الرمزية كبناء قديم يدرك اسرار المهنة وهو الامين لحكايا الف ليلية فاحتل بغداد بادوات الجمال والرسوخ الفني لذا نجد في كل ساحة شاهد وفي كل مدخل حارس للجمال والابداع ،انه احتلال من نوع اخر يمثل الرقة والتفوق الذي فتح ابواب الحرية محمولة على بساط الريح وباضاءة الفانوس السحري وبفطنة كهرمانة وحكايا شهرزاد الخالدة.