علي علي
– “الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه”.
– وزِن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
– يريك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
يأخذ الكلام والتمنطق به شكلا جميلا باستخدام فنونه، فيتعدى إذاك كونه وسيلة تعبير او مخاطبة، إذ يتحكم حينها المتكلم بما يمتلكه من أفانين وملَكة في صياغة كلامه، فيظهره بأبهى حلة، وأنقى صورة، تسر الناظرين فضلا عن السامعين، الأمر الذي يمكّنه من إدارة دفه الحديث، وإن تعددت أطرافه وجوانبه على أتم وجه. اليوم في أغلب بلدان العالم، صار الكلام في أروقة ساستها ودهاليز مسؤوليها، وكذلك نفر من معتلي المناصب الرفيعة أداة طيعة، تكاد تكون الوحيدة النافعة في ديباجة الحديث ووسطه وآخره، لاسيما إذا كان الحديث خاليا من الفحوى والهدف والغاية. حيث يُسخَّر موزون الكلام وشفيفه، ورصين اللفظ ومسبوك المعاني، في إطار مزخرف يخلب اللب، فيجذب السامع ويستهويه ببهرج العبارات الرنانة، محاطا بهالة من الجمل الطنانة، تهدف كلها مجتمعة إلى إلباس الخطبة أو التوجيه أو التغريدة، لباس الأهمية القصوى، والحاجة الضرورية لطرحها على الملأ، حتى أضحى هذا السياق ديدن القائل والمتقول في كل محفل ومقال ومقام. كذلك تطلق البيانات والخطابات على بساط يركب ريح التلميح والإشارة عن بعد، للوصول الى غايات لاتخدم السامعين لو علموا، ولا حتى الصم منهم. وإنه لمن المؤلم حقا أن هناك مستمعين كثر، يصغون الى حشو الكلام وما يحمله من سفسطة، فيأخذ فيهم مأخذ التصديق والاعتقاد به والإيمان بما ورد فيه، فيما هم ناؤون كل النأي عن معرفة كنهه وحقيقته.
ومن المخيِّب أن يخرج السامعون بنتائج مبهمة، كحصيلة عن إصغائهم لا يمكن تخمينها على وجه الدقة، كما أن الحدس والتوقع لن يأتيا بنتائج قريبة الى الواقع، كذلك قراءة الفنجان والتنجيم والاستناد الى مايرويه الـ (فتاح فال) ما عادت مجدية، وإغلاق الباب الذي تأتي منه الريح ليس بالحل الأنجع في بعض الأحايين، بل تترتب عليه تبعات وخيمة العواقب، وقد يصح في موضع غير أنه لا يصح في ثانٍ. لم يبق إذن، إلا وضع يد الانتظار على خد الصبر، فلعل وضعها عليه خير من لطمه بها، كما هو دأب مواطني دول لعدّها أول وليس له آخر. و (باب التجيك منه الريح سده واستريح) مثل قديم، يدلنا على أقصر الطرق وأيسرها وأنفعها وأكثرها جدوى، لتحقيق الاستقرار والهدوء وراحة البال والخاطر، فحين تأتي الريح من الباب، تتقهقر هذه الاعتبارات خارجة من الشباك رافعة راية الاستسلام، وحينئذ تعيث الريح بما وراء الباب خرابا ودمارا وبعثرة، وقد اختصر صاحب المثل متفضلا ومشكورا الحلول العديدة، واختزل نقاط العلاج المتشعبة لهذه المعضلة، بحل واحد وعلاج ناجع فريد، ذاك هو إغلاق الباب والسلام، لكن ليس في الظروف كلها كما أسلفت.
إن من أفانين الكلام ونقاط جماليات مفرداته، كلمات وعبارات عادة ما يمتطيها المتحدث، متخذا إياها نقطة وثوب ينطلق منها صوب تحقيق مآربه. فعلى سبيل المثال، إن كان المتحدث سياسيا فإن هذا الأسلوب من الطرح، يوصله إلى حيث ما يصبو إليه، إذ سيصبح فارس الأحلام لدى عامة الناس، وهو محقق المستحيلات إن صعب نيلها، وهو الذي (راح يجيب الذيب من ذيله) بينما هو في حقيقته لا فارس أحلام، ولا محقق المستحيلات، ولا مبيد حشرات، ولا يعرف (ذيل الذيب من گفاه).