منحوتات حميد شكر الغرائبية تهزّ المشاهد وتضعهُ في دائرة الدهشة والانبهار
12-كانون الأول-2022
عدنان حسين أحمد
يقترب النحّات حميد شكر من الفن المفاهيمي Conceptual Art ويحاذيه لكنه لا يتخذ منه أنموذجًا تطبيقيًا في الشكل أو المضمون. ورغم وضوح المبنى والمعنى في كل منحوتة من أعماله الفنية التي أنجزها في السنوات العشر الأخيرة على وجه التحديد إلاّ أنّ رهانه الإبداعي لا يهمّش الشكل أو يزيحه أو يستغني عنه كما يفعل الفن المفاهيمي وإنما يزاوج بين الشكل والمضمون ويراهن على تعالقهما وتلاقحهما الأبدي ككتلة واحدة متضامّة تحتفي بالشكل المضموني، والمضمون الشكلي إن صحّ التعبير. وهو يهدف، في الأعمّ الأغلب، إلى إيصال الفكرة، وتحريك المتلقي بواسطة الدلالة الشكلية التي تُوحي بالمضمون، وتستنطقه، وتعبِّر عن تفاصيله الدقيقة. وعلى الرغم من غرابة أفكاره الفنية وسُرياليتها إلاّ أنها تحتفظ بطاقتها التعبيرية وتعوّل على أبعادها ومراميها الرمزية الصادمة التي تهزّ المُشاهِد، وتُربكه، وتضعه في دائرة الدهشة والانبهار.
اليفاعة الأدبية وهواجس الشهرة الذيوع
لا يمكن دراسة منحوتات الفنان حميد شكر من دون العودة إلى مرجعياته الثقافية والاجتماعية (والفلسفية) إن شئتم. وبما أننا أصدقاء طفولة، وأبناء مدينة واحدة، هي جلولاء التي تقع شمال شرق محافظة ديالى، فإنّ شهادتي النقدية قد تكون مجروحة إلى حدٍ ما لذلك سألوذ بموقفي المُحايد الذي ينتصر للعمل الفني بعيدًا عن مشاعر الصداقة الحميمة التي جمعتنا على مدى سنواتٍ طوالا. كان الأدب والفن بكل تجلياتهما الإبداعية هو مُلهمنا الأول وملعب يفاعتنا الأدبية التي كانت تتفتّح يومًا بعد يوم حيث كنت أكتب القصة القصيرة، ويكتب هو الشعر الذي لا ينأى كثيرًا عن التفعيلة أو قصيدة النثر الحديثة. يذهب حميد إلى دراسة النحت والتخصص فيه بينما أتجه أنا إلى دراسة اللغة الإنگليزية والتخصص فيها مع تكريس ميولي في النقد الأدبي والتشكيلي والسينمائي. ورغم نقاط التشابه والاختلاف كنا نقرأ الأدب بأجناسه المختلفة ونتناهل معرفيًا، ونحفّز بعضنا بعضًا على القراءة والكتابة ونشر (هواجسنا) الأدبية في صحف ومجلات لها اشتراطات صعبة في قبول المادة الأدبية أو النقدية. ومنذ ذلك التاريخ، وأعني به أوائل الثمانينات من القرن الماضي، كنا نقرأ بعمق ودأب واضحين، يشاركنا فيه نخبة من أدباء المدينة ومثقفيها نذكر منهم، مع حفظ الألقاب، جلال زنگبادي، شاكر نوري،جلال جميل الخالدي، تحسين گرمياني، حسن ميرزا وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعًا. وكان حميد شكر من بين الذين يقتبسون بعض المقولات التي تعطيك عصارة الرواية أو عسلها إن صحّ التعبير. ويبدو أنّ هذا الهاجس قد لازمه منذ سنوات الصبا والشباب ولم يستطع أن يتخلّص من هيمنته الجميلة حتى الآن. ومَنْ يتصفّح أعماله المنشورة في الصحف والمجلات أو حتى بعض وسائل التواصل الاجتماعي سيجد مثل هذه الاقتباسات حاضرة، بل يستلهم غالبًا بعض ثيماته وأشكاله منها. وهذا تعالق جميل ورؤية (ميتاسردية) تجعل المتلقّي ينفتح على فضاءات روائية أو قصصية أو شعرية، وربما يتجاوزها إلى حِكم وأقوال مأثورة لبعض الأدباء والفنانين الذين طبقت شهرتهم الآفاق. فمن بين 20 منحوتة هناك ستة أعمال أو أكثر مستوحاة من ستة أقوال لأدباء وفنانين وهم على التوالي: فيودور ديستويفسكي، جان پول سارتر، پيير سولاج، مظفّر النوّاب، فرانسيس بيكون، وابراهيم طوقان وغيرهم. ففي منحوتة "التِيه" 2019م التي استوحاها الفنان حميد شكر من مقولة مقتبسة عن رواية "الأخوة كارامازوف" لدستويفسكي التي تقول:" أتعرف سيدي أن لايعرف الإنسان إلى أين يمضي؟" وهي اختصار لثيمة التيه التي تعني أشياء كثيرة من بينها الضياع، والضلال، والمتاهة، وفقدان البوصلة وكأنّ الإنسان قد دخل في مفازة تفتقر إلى أي نقطة دالّة أو علامة أو إتجّاه. وقد جسّد الفنان حالة التيه Going Stray برسم قدميّ الشخص التائه باتجاهين متعاكسين خلافًا لما هو شائع ومعروف؛ صادمًا أعين المتلقين الذين يستقبلون عملاً مخالفًا لذهنية الإنسان المعتادة. وإذا كان القسم السفلي من الجسد مكتملاً من الناحية العضوية في الأقل فإنّ القسم العلوي صادم لجهة البطن المطوية والملتصقة بالظهر، كما خلت المنحوتة من الرأس تمامًا وكأنّ هذا الكائن التائة، والمتردد، والساقط في الحيرة الأبدية قد تخلى عن رأسه وذاكرته وبصره وما عليه إلاّ أن يمضي في رحلة التيه التي تجسّد عناء الكائن البشري، وتنقش مشقته الأبدية في ذاكرتنا التائهة الملتاعة. وقد احتفت نقابة الفنانين العراقيين بعرض هذه المنحوتة المميزة ضمن باقة من الأعمال الفنية العراقية التي تقول أشياءَ كثيرة بتفاصيل قليلة تراهن على الومضة الذهنية والتماعات الفكرة التي تتأجج اعتمادًا على اجتراح المضامين المغايرة التي لم نألفها من قبل.
غوايات الحرية ومضامينها الصادمة
يحاذي حميد شكر في منحوته الثانية التي تنضوي تحت عنوان "الخروج إلى الحرية" بعض مضامين الفن المفهومي الذي ينتصر للفكرة. وقد استوحى هذا العمل من مقولة الأديب والمفكر الفرنسي جان پول سارتر الذي يعتقد "بأنّ الحرية في الشرق هي حرية حكمية، وأنّ الحرية في الغرب هي حرية حتمية"، وثمة فرق كبير بين هذين النمطين من الحرية. لو تمعنّا جيدًا في هذا التكوين النحتي الذي يتألف من ثلاثة سيقان وجسد واحد يفتقر إلى الرأس أيضًا لكنه محزّز بكتابات مسمارية تدلُّ على أشياء محددة وتحتاج لمن يفكّ طلاسمها ويفهم لغتها التي تنطوي على غموض مستحب بصريًا في الأقل. ومع أنّ هذه السيقان الثلاثة محبوسة في إطار خشبي إلاّ أنّ ساقًا واحدة تفلت من أسْرها لكي تمرح في فضاء الحرية الواسع. إنّ المرء في هذه المنحوتة يرى، ويفكِّر، ويمارس حريته عبر هذه النافذة المستطيلة التي تحكم عليه بأن يرى الحرية، بمعناها الأوسع، بزاوية قائمة، بحسب رأي الفنان، ورؤيته، وقناعته الخاصة، ولا يحق له أن يرى أكثر من هذا الحيّز المُقرَّر سلفًا، وكأنّ لسان حال الفنان يقول: "بأننا نرى الحرية في الشرق بأعيننا ولكننا لا نمارسها" وما علينا إلاّ أن نحطم هذه الأطر القاسية التي تكبَلنا، وتقيّد حركتنا إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
حينما نشاهد منحوتات حميد شكر التي أنجزها خلال العقد الأخير من حياته، وهو المولود في جلولاء سنة 1954م، والذي تخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد سنة 1980م، نجد أنها قريبة الشبه بأعمال النحاتين الأوروپيين والأمريكيين، مع بعض الاستثناءات طبعًا، وهذا النزوع متأتٍ من مشاهداته الكثيرة للمنجزات الفنية العالمية وتمثّلها جيدًا، ومحاولة الإتيان بأعمال شبية بها لا تقوم على التقليد وإنما تجترح عوالمها الذاتية والموضوعية خاصة وأنّ مخيلة حميد شكر شعرية ومرهفة وخلاّقة، وقادرة على الإمساك بما هو جديد، ومغاير، وصادم في الرؤية والمقاربة من دون السقوط في فخّ التعالي والغرور والمبالغة المفرطة. فلاغرابة أن يتناهل مع أفكار الفنان الفرنسي پيير سولاج الذي وصفه الرئيس فرانسوا هولاند بأنه "أعظم فنان على قيد الحياة في العالم". كما أوضح سولاج عن جانب من تقنياته بالقول:"أداتي ليست سوداء ولكن الضوء ينعكس من الأسود". ومن بين مقولاته الكثيرة اقتبس حميد شكر هذا الرأي الثاقب الذي توصّل إليه سولاج وقال فيه: "أنّ الرسم ليس وسيلة للاتصال، أعني أنه لا ينقل معنا، وإنما يكون معنا بنفسه". ومنحوتة "انتظار" التي أنجزها حميد شكر عام 2020م تؤكد هذه المقولة وتعززها لكن الرأس ينجو هذه المرة ويحضر في التكوين النحتي غير أنّ القسم السفلي ينقطع ويتحوّل إلى ما يشبه البنطال المعلّق على حبل الغسيل!
القرية المُهرّبة والسُكّان المُقنّعين
يتابع حميد لوحات الفنان البريطاني فرانسيس بيكون ويتأملها طويلاً وهو يعرف جيدًا بأنّ "بيكون" يتنقّل بين السُريالية والتكعيبية تارة وبين التعبيرية والرمزية والفن الحديث تارة أخرى، ومع كثرة تقنياته وأساليبه الفنية إلاّ أنه ظل يحلم بأشياء أخرى كثيرة لم تحققها له هذه التيارات والمدارس الفنية على عظمتها حيث يقول:"كنتُ أتمنى لو استطعت أن أرسم الفم مثلما يرسم مونيه الغروب" ولو تأملنا تكوين "مرآة" لوجدنا فيه تقنية الجزء الذي يشير إلى الكل، ويشحذ المخيلة التي قد تستكنّ وتستريح لبعض الوقت لكنها تنفجّر على حين بغتة وتندلع مثل البركان الذي ينفث حممهُ دفعة واحدة ليعيد ترتيب المكان على هواه هذه المرة.
يتعالق النحّات حميد شكر مع قصيدة "القدس عروس عروبتكم" للشاعر مظفّر النوّاب وينتقي منها بيتًا شعريًا يتأتى بصيغة استفهامية مفادها:"مَنْ هرّب هذي القرية من وطني؟" وربما لن يعثر المتلقي على إجابة صريحة لكنه يستشفها من حفنة النساء الملفعات بالسواد وهنّ يبكين على قرية تأخذ شكل رأس لشاب يافع حجمه كبير ولكنه لا يُقدّر بثمن لأنه المعادل الموضوعي للقرية المهرّبة التي فقدت لسانها العربي الفصيح، وشوّهت ملامحها "الأقنعة المركبة على وجوه الناس" كما يذهب النوّاب في تجلياته الشعرية حتى وإن أخذت طابع البكاء والعويل المتواصلَين.
يستمر هذا التعالق مع قصيدة موطني التي كتبها الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان وقد وقع اختيار النحات حميد شكر على المقطع الثاني الذي يقول:"هل أراك / سالمًا مُنعّـمًا وغانمًا مُكرّمًا / هل أراك / فـي عُلاك / تبلغُ السّماك / مَوطني". فالعراقيون، في المجمل، يحبّون هذا النشيد ويتفاعلون معه، ويتماهون مع كلماته وصوره الشعرية التي تحلّق على أجنحة الخيال غير أن حميدًا قد تعاطى معه من خلال ستة رؤوس صارخة يذكِّرنا كل واحد منها بـ "صرخة" الفنان النرويجي إدفارد مونك Edvard Munch وإن اختلفت أحجام الرؤوس، وتطابقت الصرخات بنسق كورالي واحد.
النبوّ عن الواقعية والمنحى التقليدي
قد تبدو منحوتة "عامل البناء" عملاً تقليديًا للوهلة الأولى تدوِّن بصمة التعب والإرهاق الشديدين، لكنك ما إن تُعيد النظر في هذه المنحوتة وتتأملها من جديد حتى تكتشف نبوّها عن الواقعية والمنحى التقليدي وتأخذك مباشرة إلى غرائبيتها بدءًا من القدم اليمنى الغائصة في العَتَبة التي انسحقت تحت ثقل العامل الذي يحمل أربعة أكياس إسمنت تعادل وزنه مرتين ونصف المرة. لقد غاب القسم العلوي من الجسد وحلّت محله أكياس الإسمنت الأربعة التي ينوء تحت ثقلها كائن بشري ليس بالضرورة أن نعرفه سواء بالإسم أو بالملامح لأن المتلقين كثيرًا ما يُصادفون هذا الكائن النبيل الذي يحصل على الرزق الحلال بكدّ اليمين وعرَق الجبين.
ثمة مَشاهد كثيرة كنّا نصادفها ونحن في طريقنا إلى سوق مدينة جلولاء حيث ينهمك البنّاؤون في تشيّيد البيوت الحديثة التي التقط منها الفنان منحوتة "عامل البناء"، وعند فوّهة السوق ثمة رصيف يُحاذي متنزهًا صغيرًا يتكئ على جداره عدد من الشحّاذين الذين يستدرّون عطف النساء وإحسانهم ولابد أنّ حميدًا قد انتبه إلى وضعيات جلوسهم ليتوصل إلى ثيمة "انتظار الفقير"، هذا التكوين المُلفت للنظر حيث اكتفى برسم القسم السفلي منه الذي يصوّر فيه تحدّب الفخذين والتواء الساقين وعزلة هذا الشحّاذ المركون على قارعة الطريق وسط ضوضاء الناس وجلَبَتهم وكأنه يريد القول بأنّ المتسوّل المعزول الذي همّشته الحياة قد قضى جلّ حياته وهو يقارعها لكنها تمكنت منه ولوت ساقية بهذه الطريقة المُفجعة وجعلت منه كائنًا معطوبًا وغارقًا في انتظار شخص قد لا يأتي أبدًا.
يقدّم حميد شكر اقتراحات فنية قد لا تتطابق مع التصورات والمفاهيم العلمية حينما يصوّر لك الشمس مربعة وليست مستديرة أو يرسم حصانًا بخمسة قوائم محاكيًا فيه بعضًا من شطحات الفن السومري القديم لكنه في بعض الأحيان يلتجئ إلى قوانين علمية في علم البصريات والفيزياء وينجز ما يراه موافقًا لرؤيته الفنية التي تبحث عن الغرابة والاختلاف ففي منحوتة "مرآة" التي يصوِّر فيها كائنًا مُجسّدًا في مقطعين حيث يظهر المقطع السفلي بهيأته الطبيعية بينما يظهر المقطع العلوي بحجم أصغر من حجمه الطبيعي بعد أن انعكس في المرآة وذلك بسبب قانون الانكسار Law of refraction الذي أدّى إلى ظهور الشخص في الداخل أصغر من حجمه في الخارج. وهذا الأمر سينسحب على منحوتة "امرأة في المرآة" التي يعتمد فيها على تقنية "قانون الانكسار" أيضًا حيث يبدو القسم العلوي لجسد المرأة أصغر حجمًا من القسم السفلي الذي ظل كما هو عليه في حجمه الطبيعي.
للغائبات حقٌ في الحضور
هناك عملان نحتيان فيهما الكثير من النباهة والإبداع والرؤية الفنية وقد أسماهما النحات حميد شكر تسمية شعرية جميلة وهي "للغياب حضور" وقد حفر النحات ظل الفيگر على الجدار ويمكننا أن نستدلّ على الحضور بواسطة الساقين في العمل الأول، وبواسطة السيقان أو الأطراف السفلى لهما في العمل الثاني الذي يجمع بين الرجل والمرأة اللذين قرّرا الحضور ثانية من خلال هذا العمل الفني الذي لا تستطيع أن تُسهب في تفسيره لأنه يكتفي بلحظته التنويرية التي تقدّم لك خلاصة الكلام وعُصارته المكثّفة.
يميل حميد شكر إلى إنجاز منحوتات تشبه قصائد الومضة التي تقول أشياء كثيرة بكلمات قليلة متقشفة فمنحوتة "المهاجر" بإرادته أو "المُهجّر" قسرًا يحمل سياط الطرد، وبصمات النبذ على ملابسه الثقيلة، أمّا حقيبته فهي شبه فارغة لأنه ينوء أصلاً بقلقه المتواصل، وخشيته الدائمة من المجهول الذي يتربّص به، وهو لا يحتاج حتى إلى زوّادة الطريق ربما.
ينجز حميد شكر بين أوان وآخر منحوتات تعلق بالذكرة ولا تغادرها بسهولة لأنها تحمل بين طياتها عناصر قوتها ودهائها ومن بين هذه المنحوتات يمكننا الإشارة إلى منحوتة "الأمومة" التي أنجزها سنة 2019م وهي أنموذج حاذق لمنجم الحنان الذي لا ينضب في غالبية الأمهات وخاصة اللواتي لم تتلوث أعماقهن بأدران الحقد والضغينة، فالأم الحقيقية المجبولة على الحُب والعطاء والإنسانية هي أقرب إلى الملاك الذي لا يلامس الأرض إلاّ قليلا.
يرصد حميد شكر الإنسان في مختلف أوضاعه وحالاته النفسية سواء العصيبة أو المسترخية منها فلاغرابة أن ينجز منحوتة تحمل عنوان "تعثّر" وأخرى تنضوي تحت اسم "توازن"، وثالثة لا تجد حرجًا في أن تكون "كبوة" وهكذا دواليك فهو يعمل على (البنية الصيانية) التي توحّد العائلة، وترمم شروخ العشّاق والمحبّين تارة، ويعمل على البنية (التدميرية) تارة أخرى فيرصد تشظيات الكائن الواحد قبل انهيار العائلة كوحدة مجتمعية صغرى. وما بينهما نراه يتحاور مع نفسه أو يترك الفرصة (لمخلوقاته الجميلة) أن تتحاور مع نفسها أو مع أضدادها أو محبّيها على حدٍ سواء.
خلاصة البحث والرؤية الفنية
يقدّم حميد شكر مقترحات وتجارب جديدة للبحث عن أسلوب حديث ومغاير لفن الپورتريه وثمة نماذج عديدة يمكن أن يؤسس عليها هذه المقاربة الفنية التي ماتزال قيد الدراسة والرصد والتحليل ومن بينها پورتريهات لأدباء وفنانين معروفين من بينهم الفنان فائق حسن الذي قدّم له أكثر من پورتريه بلمسات ومعالم تعبيرية مقصودة. ومن الجدير بالذكر أنّ النحات حميد شكر قد كرّس قسمًا لا بأس به من منجزه النحتي لفن الپورتريه ويمكن للمتتبع أن يشاهد پورتريهات لأدباء وشعراء وفنانين كثيرين من بينهم السياب، وخزعل الماجدي، ولطفية الدليمي، ورملة الجاسم، وعبدالمنعم حمندي، كما خصّ بعض أساتذته من المدرّسين الذين درّسوه في المرحلة الثانوية مثل خيرالدين خالد الذي يمحضه النحّات حُبًا من نوع خاص وهو يستحق هذا الحُب والتقدير والإعجاب.
أشرنا في مستهل هذه الدراسة النقدية إلى تعالق النحات مع أقوال ستة من الأدباء والفنانين وهم في الواقع أكثر من هذا العدد بكثير، فالتعالقات والتلاقحات تبدأ من أشعار السياب، والبياتي، وسعدي يوسف، وتمتد إلى يوسف الصائغ، وخزعل الماجدي وهاشم شفيق، ولا تنتهي بهايدغر، وليرمنتوف، وصلاح عبد الصبور، والحلاّج وعشرات الأسماء الأدبية والفكرية.
يعمل حميد شكر على سلسلة مشاريع إن جاز لنا التوصيف، فمشروع "أمومة" يتضمن عددًا من المنحونات، وهذا الأمر ينسحب على "راقص البالية" الذي يتشظى إلى مجموعة من الأعمال النحتية المميزة، وكذلك سلسلة "عائلة" التي أنجز أعمالها بوسائط مختلفة كالطين، والحديد، والأنابيب المعدنية وقد تألق فيها جميعًا ونجح في مقارباته الفنية التي تتجاور مع الأعمال الفنية العالمية التي لا تغادر ذاكرة المتلقين العضويين بسهولة ويُسر.
لابدّ من الإشارة في خاتمة المطاف إلى أنّ النحّات حميد شكر من مواليد جلولاء سنة 1954م. تخرّج في كلية الفنون الجميلة ببغداد سنة 1980م. عمل في تدريس مادة التربية الفنية في ثانوية جلولاء للبنين منذ تخرجه حتى إحالته على التقاعد. شارك في معارض جمعية الفنانين العراقيين لأربعة أعوام متتالية منذ 2019م حتى 2022م. كمار شارك في معارض وزارة الثقافة للنحت سنة 2010م، ومهرجان الواسطي 2022م، وله معرضان شخصيان في جمهورية اليمن.