هيرست: زلزال تركيا وسوريا كشف عن وجه أوروبا الذي لا يعرف الرحمة
13-شباط-2023
بغداد ـ العالم
قال الكاتب البريطاني دافيد هيرست، رئيس تحرير موقع "ميدل إيست آي"، إن زلزال تركيا وسوريا المدمر، كشف عن وجه دول أوروبا الذي لا يعرف الرحمة.
وقال هيرست إن أوروبا التي تنفق المليارات منذ عام على الحرب في أوكرانيا، تجاهلت الزلزال المدمر الذي أودى بحياة نحو 25 ألف شخص، وشرد مئات الآلاف.
وأضاف: "يتيح الزلزال فرصة لإثبات أن الغرب بإمكانه أن يبني كما أن بإمكانه أن يدمر. ولكن هذا آخر ما يخطر بالبال في قلعة أوروبا اليوم".
وتاليا ترجمة المقال كاملا:
مساحة تعادل 12 ضعفا من مساحة بلجيكا ضربها عشرون زلزالاً في يومين اثنين.
زلزال تركيا وسوريا الذي بلغ 7.8 درجة على مقياس ريختر أحدث انفجاراً يعادل 7.5 مليون طن من مادة الـ تي إن تي. ما لبث هذا الزلزال أن تبعته هزة ارتدادية بلغت قوتها 7.6 درجة، في وسط وشرق تركيا، ثم هزة ارتدادية أخرى بقوة 5.6 درجة على الساحل التركي السوري.
تم تسجيل ما مجموعه 800 هزة ارتدادية تقريباً.
تضرر ما يقرب من 21 مليون إنسان. عند كتابة هذا المقال ما زالت هذه الأرقام تتغير كل ساعة – 17,674 في تركيا و 3,377 في سوريا قضوا نحبهم، بينما بلغ عدد الجرحى 72,879.. أما الذين شردوا وباتوا بلا مأوى فيزيد عددهم في تركيا على المائة ألف وفي سوريا على الـ300 ألف.
مئات المباني متعددة الطوابق، بعضها يصل إلى 12 طابقاً، تحولت إلى أكوام من الركام. أحياء بأسرها دمرت تدميراً. والطرق السريعة وخطوط السكة الحديدية التي تصل المدن الكبيرة بعضها ببعض مزقت تمزيقاً، أو اختنقت تماماً بسبب اكتظاظها بالشاحنات التي تنقل المساعدات.
لو أسقطت خارطة هذا الزلزال على بريطانيا، لوجدت أن خطوط الصدع تمتد قطرياً من السيفرن في الغرب إلى هامبر إستيوري في الشمال. ولكان جل إنجلترا، بما في ذلك مدن بيرمنغهام ومانشستر وشفيلد، قد تعرضت لهزة من المستوى السابع.
هذه الأرقام لا تمس بالكاد سوى مناسيب هذه الكارثة، أما التفاصيل فسوف تصبح متاحة في القادم من الأيام والأسابيع.
خسارة اهتمام الجمهور
أرسلت عشرات الدول فرقاً للبحث والإنقاذ. ولكن بعد ثلاثة أيام فقط على الكارثة، بالضبط عند النقطة التي تتحول فيها عملية البحث والإنقاذ إلى وضع الكآبة، الاستخراج البطيء للجثث، بدأت المأساة تفارق العناوين الإخبارية الرئيسية في أوروبا، جار تركيا المباشر.
نعلم ما الذي يتبع هذه الخسارة لاهتمام الجمهور.
أزيح الزلزال هذا الأسبوع على يد زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى بريطانيا وبروكسل. زيلينسكي المغوار بملابسه الكاكي، الذي تشكل في الضمير السياسي على هيئة شخصية تجمع ما بين تشيرتشل وبوديكا وجاندارك، غدا ورقة سياسية ساخنة، تتنافس على حضوره المجالس البرلمانية.
حقيقة أنه زار بريطانيا أولاً مفضلاً إياها على فرنسا وبروكسل أشير إليها باعتبارها مصدراً للفخار الوطني. وكذلك حال المساعدة العسكرية التي تبلغ 2.3 مليار جنيه إسترليني (ما يعادل 2.7 مليار دولار) والتي قدمتها بريطانيا لأوكرانيا العام الماضي، وهو المبلغ الذي أكد لنا رئيس الوزراء ريشي سوناك أنه سوف يتكرر منحه هذه السنة. وهذا يجعل بريطانيا ثاني أكبر مانح عسكري لأوكرانيا.
هذا هو نوع المال المتوفر في بريطانيا عندما توجد الإرادة السياسية. قارن ذلك بمبلغ المال الذي ستنفقه الحكومة البريطانية على زلزال تركيا وسوريا. عندما أطلقت خمسة عشر جمعية خيرية، تشكل معاً لجنة طوارئ الكوارث، حملتها لجمع التبرعات يوم الخميس من أجل توفير مساعدات للإنقاذ والعلاج الطبي وتوفير الملاذ والبطانيات والطعام، أعلن وزير الخارجية جيمز كلفرلي أن بريطانيا سوف تتبرع بما يعادل الخمسة ملايين جنيه (6 ملايين دولار) التي تبرع بها الشعب.
وقال كلفرلي: "عندما تقع مثل هذه الكوارث التي تنجم عن تلك الزلازل المرعبة، فإننا نعلم أن الشعب البريطاني يرغب في المساعدة. ولقد أثبتوا المرة تلو الأخرى أن قلة هم أكثر سخاء وشفقة".
نصيب أوكرانيا من الأسلحة 2.3 مليار جنيه ونصيب إغاثة 23 مليون من ضحايا الكارثة هو 5 ملايين جنيه. هل هذا حقيقي؟ يبدو كذلك.
تجاوز السياسة
هناك طريقتان لقياس ذلك على مقياس ريختر لمدى انعدام إنسانية الإنسان تجاه أخيه الإنسان.
على المستوى الإنساني، تتطلب الكوارث ذات الحجم العالمي رداً عالمياً يتجاوز السياسة – أو الدرجة التي يعامل بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أو الرئيس السوري بشار الأسد كما لو كانا منبوذين، وذلك في اللقاءات التي تجمع العظماء والنبلاء كما هو حال دافوس.
بعد يوم واحد من الكارثة، نشرت المجلة الفرنسية الساخرة شارلي إيبدو رسماً كاريكاتورياً تظهر فيه بناية متضررة وسيارة مقلوبة وكومة من الركام وعليها تعليق يقول: "لا داعي لإرسال الدبابات".
كان ذلك أكثر من مجرد رسم كاريكاتوري كريه، وشارلي إيبدو ليست مجرد مجلة ساخرة.
ففي عام 2015 أصبحت شارلي إيبدو مركز ما يوصف بالدفاع عن الديمقراطية وحرية التعبير ضد الهجمات التي يشنها المتطرفون والإرهابيون – تماماً كما يتم توصيف أوكرانيا اليوم. فقد تعرضت مكاتبها في باريس لهجوم من قبل سعيد وشريف كواتشي، وقد زعما أنهما يمثلان مجموعة القاعدة، فقتلا 12 شخصاً وجرحا 11 آخرين.
انطلقت على إثر الهجوم مظاهرات حاشدة، وانتشر كالنار في الهشيم شعار "أنا شارلي". أصبحت شارلي إيبدو رمزاً لحرية التعبير التي تتعرض للعدوان من قبل البرابرة الملتحين. ولتحقيق هذه الغايات كنست عنصرية شارلي إيبدو الوقحة تحت البساط، وكما تم ذلك في حينه فإن الأمر مستمر حتى اليوم.
قلة من وسائل الإعلام أشارت إلى وقاحتها الأخيرة، على الرغم من أن مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن بطيئة في ردها.
كتب الكثيرون عن الموت البطيء للولايات المتحدة وأوروبا على الساحة العالمية، بعد أن دحرتها جيوش الطالبان رثة الثياب في كابول أو الهجمات الانتحارية لجيش فاغنر في دونباس.
إلا أن تردد الاتحاد الأوروبي في أن يكون أول المستجيبين في هذه الأزمة أمر تطوعي بالكامل. إنه خطأ جسيم لم يفرضه أحد. هذه فرصة لإظهار الزعامة الأخلاقية والإنسانية لملايين الناس. إنها فرصة لمخاطبتهم بشكل مباشر، وليس مخاطبة حكوماتهم أو رؤسائهم الذين يناورون من أجل إعادة انتخابهم.
إنها فرصة من أجل الإثبات للعالم أن الغرب بإمكانه أن يعيد البناء كما أن بإمكانه أن يدمر. إلا أن هذا آخر ما يخطر ببال أوروبا القلعة اليوم. أوروبا القلعة تحيط ثروتها بسياج. فما سياجها المكهرب المرتفع ودوريات مسيراتها إلا للحيلولة دون دخول قطعان الكافرين.
وأي محفز أعظم من ذلك يمكن أن تقدمه لملايين البشر حتى يبحثوا في مكان آخر عن الزعامة؟
بينما لم تجمع مبالغ كبيرة في بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا، جمع السعوديون ما يزيد على الـ51 مليون دولار بعد أربعة أيام من إطلاق منصة سهم لإغاثة المتضررين من الزلزال في سوريا وتركيا.
إنه مبلغ تافه بالنسبة لأفراد العائلة الملكية، ولكنه تبرع كبير من أفراد الشعب السعودي. جدير ببريطانيا أن تشعر بالعار. ولكن دعونا نتخلى عن الأخلاقيات أو عن أي إحساس بالإنسانية المشتركة.
دعونا نكتفي بالتركيز على منطق المصلحة الذاتية.
أرقام مذهلة
قبل الحرب في أوكرانيا، كانت نسبة طالبي اللجوء في أوروبا من منطقة الشرق الأوسط 25 بالمائة في عام 2021، ومعظم هؤلاء جاءوا من سوريا والعراق وتركيا التي احتلت المرتبة الخامسة. احتلت أفغانستان المرتبة الثانية.
بسبب الحرب في سوريا تحولت تركيا إلى أكبر مأوى للاجئين في العالم، إذ لجأ إليها ما يزيد على الـ3.6 مليون لاجئ سوري بالإضافة إلى 320 ألف شخص من جنسيات أخرى. في العام الماضي فقط، أنفقت تركيا 5.59 مليار دولار على المساعدات الإنسانية، وهو ما يشكل 0.86 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يؤهلها لأن تكون الرائدة على مستوى العالم، وذلك بسحب ما ورد في تقرير صادر عن "مبادرات التنمية".
من حيث المال الذي يتم إنفاقه، تأتي تركيا في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. وهذه أرقام مذهلة بالنسبة لحكومة كثيراً ما تتعرض للشيطنة في الغرب.
ولكن هذا الجهد ليس محفوراً في الصخر. فالأحزاب اليمينية المتطرفة في تركيا، مثل حزب النصر، تنظم الحملات خلسة وتربصاً، لجمع الأموال من أجل شراء تذاكر حافلات لترحيل السوريين. بحثاً عمن يحمل المسؤولية عن بطء جهود الإغاثة، بعض الأتراك انقضوا على اللاجئين بعيد هذه الكارثة.
هذه أحداث بلغت من الضخامة ما يؤهلها لأن تدفع بأمواج قادمة من اللاجئين بينما تستغرق عملية إعادة البناء سنوات إن لم يكن عقودا.
ولذلك فإن من مصلحة أوروبا ضمان أن تتمكن تركيا من الاستمرار في سياسة إعادة توطين اللاجئين في الشمال السوري. ولكن سوريا أيضاً، والتي كانت وجهة لكثير من التسليح الغربي، تم التخلي عنها. لم يزل اللاجئون السوريون يموتون من البرد قبل وقت طويل من الزلزال الذي ضرب حلب وإدلب.
ويعتقد أن ثلث جميع الضحايا هم في إقليم هاتاي على مرمى حجر من الحدود السورية. كان للدمار الذي حل بهاتاي تأثير مباشر على الإغاثة التي تتوجه إلى سوريا عبر معبر باب الهوى، الحبل السري للمساعدات التي تصل إلى ملايين الناس في شمال غرب سوريا، والذين يعيشون داخل مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة السورية.
والسوريون الذين يعيشون تحت سيطرة الحكومة ليسوا أحسن حالاً، فالدولة مزقتها الحرب، وتشلها العقوبات المفروضة عليها تماماً كما كان عليه الحال في إيران في الأيام الأولى للجمهورية الإسلامية.
مصير أخروي
كل عام تتسع الهوة بين ما ينبغي أن نعمله من خير وما ينتهي بنا الحال إلى عمله. كل عام تصبح الكلمات التي يتلفظ بها زعماء أوروبا أشد بشاعة.
في أكتوبر / تشرين الأول الماضي، ألقى المسؤول الأول عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، خطاباً في حفل تدشين الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية في بروكسل. كان ذلك في الثالث عشر من أكتوبر. وفي ما يأتي ما قاله طبقاً للنسخة الرسمية من خطابه:
"أوروبا حديقة. لقد بنينا حديقة. كل شيء يعمل. إنها أفضل مزيج من الحرية السياسية والرفاه الاقتصادي والتماسك الاجتماعي الذي تمكنت البشرية من إقامته – الأشياء الثلاثة معا.... معظم بقية العالم عبارة عن غابة، وقد تغزو الغابة الحديقة. يتوجب على العاملين في الحديقة التوجه إلى الغابة. يجب على الأوروبيين أن يكونوا أكثر اشتباكاً مع بقية العالم. وإلا فإن بقية العالم سوف تغزونا، بطرق ووسائل مختلفة".
إذا كانت هناك فرصة على الإطلاق لوضع حد لهذه الرطانة المتخلفة، فهي الآن.
هل ستغتنم أوروبا الفرصة؟ أشك في ذلك، وذلك أنني تخليت منذ وقت طويل عن مفهوم التقدم. وحديقة عدن التي يتكلم عنها بوريل تستحق تماماً مصيرها الأخروي.