عامر بدر حسون
إن الذي يؤسف له هو أن يكون بين رجال الأمة من يدرك حقيقة. ما بينته لكم ولا يجرأ على مصارحتكم به حتى اضطررت أن أصارحكم بالأمر بذاتي. ولو كانت القضية تقف عند ذلك الحد لكان الأمر هيناً لكن هناك أمر في غاية الخطوة أحب أن أدلكم عليه لتحذروه وتتجنبوه هو أن البعض ممن يعلمون حقيقة ما قلت يتظاهرون أمامكم بعكس ما يفقهون وذلك من أجل أن يصفق لهم الجمهور في الأزقة والشوارع وفي ذلك أثم لا يغتفر فالذي يقول لكم لا أحالف ولا أعطي شيئاً ولا أبادل لا يكون قد خانكم فحسب بل إنه خائن لنفسه وضميره ووجدانه، فليتقوا الله فيما يقولون وتبصروا في الأمور. ولا خير في من يخون نفسه وفكره ورأيه.
اذهبوا بين إخوانكم وانشروا عليهم كلماتي هذه ولا تضلوا وتضلوا وبلغوا الشعب كافة أنني وبلادي مستقلان لا شريك لنا في مصالحنا ولا رقيب علينا بعد دخولنا عصبة الأمم إلا الله. نعم إننا لا نزال الآن من الوجهة الحقوقية بنظر الدول الغربية تحت الانتداب الذي لم نعترف به ولم نقرهم عليه.. غير أن ذلك لا يمنعنا من أن نمارس أعمالنا كدولة مستقلة تماماً ونهاية تلك الوجهة الحقوقية قريبة فما عليكم سوى الصبر والتجالد وتهيئة أنفسكم للعمل. والان هل كان بالإمكان لهذه البلاد أن تسير على غير الطريق التي سلكتها وإياكم؟
لقد مشت تركيا في سبيل الاستقلال على غير طريق المعاهدات وجمعية الأمم، غير أنه لما نادى الغازي (كمال اتاتورك) شعبه للخلاص، لبّاه القوم عن بكرة أبيهم ومشوا وراءه بالنفس والمال والسلاح رجالاً ونساءاً وأحداثاً، لذلك لم يحتج الترك في ذلك الوقت إلى أوروبا.. فهل كان من الحكمة أن تتخذ مثل تلك الطريق بالنظر إلى ظروفنا؟ أترك الجواب على ذلك لوجدانكم وللتاريخ والأجيال المقبلة!
لقد تمكنا بالصبر وطول الأناة والمثابرة والاجتهاد من أن نثبت للعالم أننا أمة هادئة تتطلب الحياة من طريق السلم والمسالمة، ولم يكن هذا العمل أقل مشقة من استعمال القوة والعنف! وأني مؤمن، والله يشهد عليّ، بأن ما فزنا به عن هذه الطريق لهو أعظم بكثير مما كان بالإمكان أن يحل بنا فيما لو سلكنا طريقاً غيرها. نعم في عشر سنين كنا نتقدم ونتأخر ونعطي ونأخذ نساوم ونبادل، وها نحن الآن إذا دققنا الحساب نجد أننا فزنا بأشياء كثيرة وخطونا خطوات واسعة، ولم يبق أمامنا إلا بضعة أشهر وننال حقوقنا كاملة غير منقوصة. نحتاج فقط إلى استعداد كاف فينا لممارستها والاستفادة منها وها أني أصارحكم بما في ضميري وأقول أنني بعد أن وصلت بكم إلى هذه المرحلة لا أخشى الموت إذ أموت قرير العين مطمئناً على مستقبلكم وذلك كان الباعث لمجيئي إلى هذه البلاد وقد حققت لكم أمانيكم والله شهيد على ما أقول.
إخواني:ـ لا أحب أن أختم كلمتي هذه قبل أن أوضح لكم موقفي تجاه سياسة الدول وإدارة شؤونها بما فيها من مصالح ومؤسسات وهيئات رسمية وغير رسمية وعلاقات داخلية وخارجية. للدول سياسة عليا تتعلق بسلامتها وسيرها إلى التقدم، ولها سياسة داخلية تتعلق بإدارة مصالح الأفراد.. فالأولى لخطورتها ومسؤوليتها مناطة بي أشرف على توجهها إشرافاً مباشراً مستمراً، والثانية لا أتدخل في أمرها بشيء إلا بقدر ما تعترض سير السياسة العليا.
للأحزاب السياسية في البلاد الديمقراطية التي أرغب لبلادي أن تسير في طرق مماثلة لها مناهج بارزة تميزها وتفرقها عن بعضها وتجعل من كل واحد منها ذاتية مستقلة عن غيرها في رسم سياسة البلاد وكيفية إدارتها وتوزيع ضرائبها وغير ذلك من الأمور.. وبهذه الحال تفسح المجال للأمة أن تأخذ من وقت إلى آخر بسياسة بعضها دون الأخرى حسبما تتطلبه الظروف من سياسة ومالية وتعليمية وغيرها، وهذا ما جعل الأحزاب في بلاد الغرب تتناوب الحكم وتتسابق إلى الظفر بميل الأمة والتفوق على بعضها البعض في هذه الناحية الوطنية.
أما هنا فشهدت تأليف أحزاب عديدة كانت كلها متشابهة ومتماثلة في مناهجها ومراميها ولا تختلف في شيء عن بعضها إلا باختلاف أهواء من يقوم بتشكيلها. فلهذا أصبحت الأحزاب عندنا شخصية أكثر منها عامة بخلاف ما هي الحالة عند غيرنا، وبذلك صارت مهمة الأمة شاقة في انحيازها إلى الأحزاب والكتل وعضدها أو الابتعاد عنها، لأن إمكان لمس الفروق والمميزات بينها من الصعوبة بمكان عظيم.