بهاء الدين عياد
لا يختلف اثنان من رسامي الكاريكاتير في الولايات المتحدة على أن المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترمب شخصية مثالية لهم خلال الأعوام الأخيرة، فمنذ الانتخابات الرئاسية في 2016 أصبحت مواقفه وتصريحاته مادة دسمة للسخرية السياسية في جميع صورها التلفزيونية والصحافية، فهو كشخص متنمر ذي مواقف حادة وتصريحات جريئة وملامح وقصة شعر غير مألوفة وتصرفات غريبة يُعدّ شخصية كاريكاتيرية بطبيعته، مما جعله يدخل في صدامات عدة مع الكوميديين ورسامي الكاريكاتير خلال فترة رئاسته، ليذوق من كأس النقد اللاذع نفسه وهو سلاحه المفضل الذي يواجه به كل خصومه.
ولعل هذا الانطباع السائد عن ترمب، دفع الناشط والمخرج الأميركي مايكل مور إلى أن يوصي معارضي الملياردير الجمهوري بتشكيل جيش من الكوميديا لمواجهته، بقوله "إذا سخرتم منه سينفجر من الداخل، هذه نقطة ضعفه، فدعونا نشكل جيشاً من الكوميديا وسنسقطه"، فبمجرد وصوله إلى البيت الأبيض انقسم المجتمع الأميركي حيال انتخابه في يناير (كانون الثاني) 2017.
وعلى النقيض من الصورة النمطية لترمب، برزت منافسته في سباق البيت الأبيض نائبة الرئيس كامالا هاريس بصورة الشخصية الرزينة الوقورة الراقية في تصرفاتها وخطابها، لكنها لم تتخلَّ عن سلاح السخرية من ترمب وتوجيه النقد والهجوم الشخصي عليه وتبنّي نهجه في الفكاهة والسخرية، مما جعلها تتعثر في كثير من التناقضات والمزايدات وشجع أيضاً جيوش رسامي الكاريكاتير على تكثيف حضورهم في الحملات الدعائية والتسويقية والانتخابية للمرشحين، فوضع فن الكاريكاتير الصحافي و"ميمز" الإنترنت في الصفوف الأولى لأسلحة حملتي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، بخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت ومعارض الكاريكاتير السياسي في الولايات المتحدة.
قوة الكاريكاتير
قام الكاريكاتير السياسي بدور حاسم في المنافسات الانتخابية بالولايات المتحدة وظل وسيلة فاعلة في تشكيل الرأي العام، كما احتلت السخرية السياسية موقعاً مميزاً في توجيه نتائج الانتخابات، ففي القرن الـ19 على سبيل المثال كانت صحف ساخرة مثل مجلة "بوك" التي أسسها جوزيف كيبلر عام 1877 تنشر رسوماً كاريكاتيرية لاذعة تفضح السياسيين وتضخم من نقاط ضعفهم، وأثبتت قدرة كبيرة على التأثير في الجمهور الأميركي وتوضيح القضايا الخلافية لهم.
أسهمت السخرية السياسية، خصوصاً الكاريكاتير في قلب موازين الانتخابات، إذ أدت الرسوم الكاريكاتيرية إلى تقويض شعبية ريتشارد نيكسون وزيادة مشاعر عدم الثقة تجاهه، مما أسفر في نهاية المطاف عن استقالته. وشهدت انتخابات عام 2000 تصوير جورج بوش الابن بأسلوب ساخر يبرز عدم كفاءته، مما أضر بصورته أمام الناخبين.
وعوضاً عن مشاركة البرامج التلفزيونية السياسية الساخرة الشهيرة في الولايات المتحدة، تشهد انتخابات 2024 كثافة في استخدام الكاريكاتير ضمن الحملة الدعائية والتسويقية للمرشحين، خصوصاً أن جانباً كبيراً من الأنشطة الدعائية الإلكترونية تقوم على الرسوم الساخرة والـ"ميمز" والمقاطع المصورة الساخرة من تصريحات المرشحين، فعلى سبيل المثال استغلت حملة هاريس تصريح ترمب خلال المناظرة الرئاسية في سبتمبر (أيلول) الماضي حول تورط أفراد من مجتمع المهاجرين في أكل القطط والحيوانات الأليفة في ولاية أوهايو الأميركية، ونشرت كثيراً من الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة مما ذهب إليه ترمب من أجل مزيد من حشد جمهور المهاجرين.
نموذجان متناقضان
رئيسة وحدة الدراسات الأميركية في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في القاهرة مها علام رأت أن الهجوم الشخصي بين المرشحين واستخدام سلاح الكاريكاتير والسخرية، يتناسبان مع سياق السباق الرئاسي الأميركي لعام 2024 الذي يجري في ساحة شديدة التعقيد والتشابك، وما يزيد من احتقان المشهد أن حلبة المنافسة الرئاسية تجمع نموذجين متناقضين تماماً، وهما المرشح الجمهوري والرئيس السابق ترمب الذي يستند إلى الخطاب المحافظ الداعم لتفوق العرق الأبيض، في مقابل المرشحة الديمقراطية هاريس التي تتبنى خطاباً يوصف بأنه "تقدمي إلى حد كبير" وتعكس انتصاراً لقاعدة المهاجرين في الولايات المتحدة.
وتستكمل علام أنه "كنتيجة لحال الاستقطاب والانقسام السياسي الهائل، إضافة إلى التباين الضخم بين المرشحين، يتضح أن المعسكرين يعتمدان على الشخصنة والتنمر السياسي كوسيلة لتقوية صورتهما وزيادة شعبيتهما والنيل من الطرف الآخر، مما ينعكس بصورة جلية في الرسوم الكارتونية والكاريكاتيرية بوصفها إحدى أدوات التنافس التي تتمتع بسخرية وخفة ظل تمكنها من الوصول إلى قواعد شعبية واسعة، ويعزز من قوتها الاستخدام الواسع لوسائل ومواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما بين الشباب".
ووفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية عقب المناظرة الرئاسية بين هاريس وترمب، ركز الرسامون على تصريحات ترمب نفسها من خلال استخدام كلماته الحرفية ضده، وقالت رسامة الكاريكاتير ومصممة الرسوم المتحركة الحائزة جائزة "بوليتزر" آن تيلنيس لصحيفة "واشنطن بوست" إن أفضل نهج للسخرية من ترمب كان "استخدام كلماته الفعلية. ففي بعض الأحيان تحتاج فقط إلى الاقتباس عندما يظهر الساسة عدم أمانتهم وجهلهم ونرجسيتهم".
وتاريخياً، استخدم شعار الحمار والفيل كرمز للحزبين من خلال رسوم الكاريكاتير، فعام 1870، استخدم رسام الكاريكاتير توماس ناست حماراً أسود عنيداً في رسومه، مما جعله جزءاً لا يتجزأ من هوية الديمقراطيين، وظهر الفيل كرمز للحزب الجمهوري للمرة الأولى في انتخابات 1860، عندما استُعمل لدعم أبراهام لينكولن، إلا أن الفيل لم يصبح رمزاً رسمياً للجمهوريين حتى عام 1870، عندما رسمه توماس ناست على أنه فيل ضخم مذعور يعبر عن تدهور قيم الحزب الجمهوري.
انقسام المجتمع الأميركي
وتذهب الباحثة مها علام إلى أن الرسوم الكارتونية والكاريكاتيرية التي يجري توظيفها في السباق الرئاسي الأميركي تستغل بصورة واضحة حال التناقض الكبير بين المرشحين للرئاسة ترمب وهاريس، وتستند أبرزها إلى ثنائيات عدة، أهمها ثنائية "روح أميركا" مقابل "الحلم الأميركي"، فبينما يتبنى ترمب الخطاب المحافظ الداعم لتفوق العرق الأبيض باعتباره أساس الولايات المتحدة، فإن هاريس تتمسك بخطاب تقدمي إلى حد كبير وتعكس انتصاراً لقاعدة المهاجرين في الولايات المتحدة، وتجسيداً لـ"الحلم الأميركي".
أما المحور الآخر للانقسام، فيتمثل في "محافظة ترمب" مقابل "تقدمية هاريس"، إذ يحمل المرشحان أجندتين متناقضتين إلى حد كبير، بين المواقف التي تبدو أكثر ميلاً إلى المحافظة من جانب ترمب، والتوجهات التي تبدو أكثر تقدمية من قبل هاريس.
وتوضح الباحثة أن العنصر الثالث في المقارنة بينهما يتضح في موقف "المرشح المُدان" مقابل "المرشح ذي الخلفية القانونية"، فيجمع السباق الرئاسي الحالي مشهداً ربما لن يتكرر مرة أخرى على الساحة السياسية الأميركية بين المرشح الجمهوري المُدان في لائحة طويلة من الاتهامات، والمرشحة الديمقراطية ذات الخلفية القانونية التي كانت المدعية العامة لسان فرانسيسكو والمدعية العامة لولاية كاليفورنيا.
وبالتوازي مع ذلك، يتضح أن هناك تركيزاً كبيراً من قبل الرسوم الكارتونية والكاريكاتيرية على مسألة الولايات المتأرجحة، لا سيما في ضوء دورها المحوري في حسم السباق الرئاسي الذي يشهد تقارباً شديداً في فرص فوز المرشحين، بحسب ما تكشف عنه معظم استطلاعات الرأي.
وشكلت تصريحات ترمب وهاريس أرضاً خصبة لآلاف رسومات الكاريكاتير التي خصص بعض فنانيها معارض ومواقع إلكترونية تركز على التصريحات والوعود الانتخابية والمواقف الحادة للمرشحين والتي أظهرت مدى الانقسام الذي يعانيه المجتمع الأميركي حول مختلف القضايا، بداية من دعم أوكرانيا وإسرائيل، ووصولاً إلى ردود الفعل حول احتفال هاريس بعيد ميلادها الـ60 وانتقادها لعمر ترمب، في مقابل قيام منافسها الجمهوري بالعمل بحماسة لبعض الوقت في أحد مطاعم "ماكدونالدز" في بنسلفانيا للسخرية من منافسته التي تثير باستمرار مسألة سنه المتقدمة.
ومن أبرز القضايا الخلافية التي ركزت عليها الرسوم الكاريكاتيرية، موقف المرشحين من سياسة الحدود والهجرة ومستقبل العلاقات مع الصين وأوروبا وروسيا، بما في ذلك الاتهامات للقوى الدولية بالتدخل في الانتخابات، وموقف هاريس من الوقود الأحفوري واللحوم الحمراء وصولاً إلى قضايا التغير المناخي، والسياسات المالية والضرائب ومسألة الإجهاض والحقوق الإنجابية وعلاقة المرشحين بالإعلام الأميركي، فتظهر بعض الرسوم مدى انحياز معظم وسائل الأعلام ضد ترمب.
تناقضات هاريس وتلقائية ترمب
وتوضح أستاذة العلوم السياسية المساعدة بجامعة القاهرة والباحثة المتخصصة في العلاقة بين علم السياسة والفن مريم وحيد أنه من خلال متابعة أبرز الرسوم الكاريكاتيرية، نجد هاريس في أحد الرسوم تنصت إلى التلفزيون وتقول إنها لن تستكمل ما جاء به بايدن، ولكنها لن تفعل شيئاً في حقيقة الأمر. وفي أحد الرسوم الكاريكاتيرية الأخرى على لسان هاريس، فإنها قلقة إزاء أوضاع المدنيين في لبنان، بينما توضح الصورة أنها في مستنقع غارقة هي وأحد المواطنين في كاليفورنيا نتيجة الفيضان، وفي إشارة إلى أهمية الولايات الأرجوانية أو الولايات المتأرجحة في حسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن بين هذه الولايات ولاية أريزونا، يوضح أحد الرسوم الكاريكاتيرية أهمية هذه الولايات حتى إن المرشحين ترمب وهاريس ينحنيان لها.
وتتابع أن "الولايات المتأرجحة أو الأرجوانية هي التي أحياناً تصوت لمصلحة الديمقراطيين أو الجمهوريين وهي عكس الولايات الزرقاء التي تصوت دائماً لمصلحة الديمقراطيين مثل كاليفورنيا والحمراء التي تصوت للجمهوريين مثل ولاية تكساس، وكثيراً ما تكون هذه الولايات الأرجوانية الحصان الأسود في الانتخابات الرئاسية، وعليه ركزت رسوم عدة على سياسة هاريس تجاه المناخ وعدائيتها للوقود الأحفوري، مما يثير حفيظة الناخبين في تكساس الأكثر أهمية في ما يتعلق بإنتاج النفط، إضافة إلى ذلك ينتقد أحد الرسوم الكاريكاتيرية رؤية كامالا هاريس لمستقبل الولايات المتحدة نفسها. فعلى رغم أنها كانت نائبة لبايدن ولكنها ستسعى إلى التغيير، إلا أن المواطن غير مقتنع فهو لا يُعنى بالتغيير الذي تقترحه ولكن بالحصول على الغذاء، فضلاً عن رسوم تظهر فيها هاريس إلى جوار بعض المشردين في شوارع الولايات المتحدة".
وبعض الأعمال الفنية المرتبطة بالسباق الرئاسي تصب اهتمامها على شخصية هاريس، فهي أول امرأة من ذوي البشرة السمراء وأول امرأة من أصول جنوب آسيوية في منصب نائب الرئيس الأميركي، وهي أول مرشحة من ذوي البشرة السمراء للرئاسة الأميركية، وفقاً للمتحدثة نفسها، ولعل ذلك ما يعيد إلى الأذهان الطريقة نفسها التي تم تقديم الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما إلى الناخب الأميركي، مما ألهم بعض رسامي الكاريكاتير لرسم هاريس بملامح أوباما نفسها.
وتؤكد وحيد أن رسوم الكاريكاتير تعد إحدى أدوات التسويق المستخدمة بكثافة حالياً في الانتخابات الأميركية، في الجرائد الورقية وعلى صفحات الجرائد الإلكترونية وفي وسائل التواصل الاجتماعي عبر "فيسبوك" و"إنستغرام"، لكن استخدام الكاريكاتير والسخرية السياسية عموماً لا يعكس ضعف ثقة الناخب الأميركي بالسياسة، بل يعكس نقد الناخب الأميركي للمرشحين على حد سواء، فهو غير مقتنع بهما بصورة كاملة، فهناك تحفظات كثيرة سواء من النخبة السياسية أو الشعب الأميركي حول المرشحين، وتقول إن "استخدام الكاريكاتير ليس جديداً في السياسة الأميركية وتم استخدامه قبل ذلك في انتخابات أخرى".
وفي ما يتعلق بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والمرشح الرئاسي الحالي تحديداً، فكثيراً ما كان يدخل في سجالات كثيرة مع الصحافة ويذكر في لقاءاته أنه ضد فكرة الصوابية السياسية، فهو تلقائي بصورة كبيرة، ولذلك يصدم النخبة السياسية الأميركية كثيراً. ويذكر أنه بعيد كل البعد من سياسة البيت الأبيض المعروفة مسبقاً وأنه كان رجل أعمال وقد جاء ليغير من السياسة الأميركية، ولذلك كثيراً ما كانت تصريحاته تصدم أيضاً الصحافة والمواطنين، وكانت مادة للرسوم الكاريكاتيرية بلا شك.
استقطاب الشباب و"جيل زد"
وترى عضو هيئة التدريس بقسم العلوم السياسية بكلية السياسة والاقتصاد في جامعة بني سويف الشيماء عبدالسلام أن حروب الرسوم الكاريكاتيرية والـ"ميمز" بين المرشحين الأميركيين هاريس وترمب في الإعلام الأميركي وعبر الإنترنت تُعدّ أداة تسويقية ذات فاعلية، ويرجع ذلك إلى قدرتها على تبسيط الرسائل السياسية للناخبين وجعلها أكثر جذباً وتفاعلاً مع الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة التي تشهد حضوراً واسعاً من الناخبين الشباب، بخاصة ما يعرف بـ"جيل زد" الذي يميل إلى التفاعل من خلال الفكاهة والسخرية، مما يجعلها أكثر جاذبية وتسهم في بناء الرأي العام الأميركي وتوجيهه.
ويمكن القول إن الرسوم الكاريكاتيرية أصبحت جزءاً مهماً من المعركة الإعلامية بين الطرفين في الانتخابات الرئاسية، مما يعكس دلالات عدة تتعلق بعمق الصراع السياسي في تلك الانتخابات، ويعكس كذلك تنوع الأدوات المستخدمة في التأثير في الناخبين، إذ ركز معظم الرسوم الكاريكاتيرية على شخصية ترمب المثيرة للجدل وظهرت كامالا كشخصية غير مستعدة للقيادة، وترجع كثافة استخدام السخرية السياسية عبر الكاريكاتير إلى أسباب عدة، أبرزها سهولة الانتشار وسرعة التأثير وتجري مشاركتها ونشرها بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، بخاصة بين فئة الشباب، وتعتبر جزءاً من الحروب الإعلامية بين المرشحين.
وتقول عبدالسلام "الـ’ميمز‘ والرسوم الكاريكاتيرية تقدم للشباب أداة لزيادة تفاعلهم مع الشأن السياسي وتقدم الكاريكاتير القضايا السياسية بأسلوب ممتع وساخر وغير رسمي، مما يجعلها أكثر جاذبية ويساعد الشباب على المتابعة للعملية الانتخابية والحملات الانتخابية، في ظل انتشارها الواسع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها ’جيل زد‘ لساعات طويلة، ويشكلون توجهاتهم من خلالها. ويعتمد هذا الجيل الرقمي (جيل زد) بصورة كبيرة على المنصات الرقمية مثل "إنستغرام" و"إكس" و"تيك توك" و"فيسبوك" و"تيليغرام" وانتقال المعلومات والصور بسرعة عبر تطبيق "واتساب"، وكل ذلك يمكن أن يسهم في نشر الـ"ميمز" والكاريكاتير بسرعة.
وهذه المنصات والوسائل تسهل نشر وتبادل الأفكار السياسية وإنتاج الرسوم الساخرة عبر تطبيقات متعددة من جانب غير المحترفين، مما يوسع دائرة التفاعل بصورة أكبر كما يتميز "جيل زد" بالقدرة على التواصل السريع والمباشر، فيميل هذا الجيل إلى استهلاك المحتوى الذي يتميز بأنه قصير وجذاب وسريع الفهم، والـ"ميمز" والرسوم الكاريكاتيرية تحقق ذلك بفاعلية من خلال تبسيط الرسائل السياسية المعقدة على نحو مختصر وبسيط وساخر ومضحك في الوقت نفسه، بحسب عبدالسلام.
ومن أبرز الرسوم التي توضح التفاعل مع "جيل زد" واهتماماته، رسوم توضح أن ترمب لا ينافس فقط كامالا ونائبها تيم وولز، بل تنضم إليهم أيضاً في الطرف الآخر من المعادلة، نجمة البوب تايلور سويفت التي أعلنت دعم المرشحة الديمقراطية، فيما يحل الملياردير الأميركي إيلون ماسك في الطرف الآخر كداعم رئيس لترمب وأحد أبرز المؤثرين في جيل الشباب المهووس بالتكنولوجيا. ووجدت دراسة لجامعة "تافتس" أن ما يقارب 40 مليون ناخب من "جيل زد" مؤهلون للتصويت في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ومن بينهم ثمانية ملايين يصوتون للمرة الأولى في انتخابات 2024.
سلاح ذو حدين
كتب الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري ترمب خلال سبتمبر الماضي ما يزيد على ألف منشور على موقعه للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال"، وهاجم في أكثر من ثلثها كامالا هاريس، واستخدم الهجوم الشخصي والرسوم الساخرة، بما في ذلك وصفها بأنها "مجنونة" أو "متخلفة عقلياً" أو "غبية" أو أنها تدفع مقابلاً لمؤيديها، فضلاً عن التشكيك في هويتها العرقية "سوداء أو هندية"، مما استُخدم ضده وأتاح لحملة هاريس وصمه بالعنصرية واحتقار النساء وتأجيج التفرقة في المجتمع الأميركي. وعلى نهج ترمب في السخرية من سن ولياقة المرشح السابق جو بايدن، استخدمت هاريس المسألة نفسها للتشكيك في قدرة وكفاءة الملياردير الجمهوري وأنه يريد البقاء كرئيس إلى الأبد والترشح في كل انتخابات مقبلة، وقامت بمشاركة "ميم" ساخر بهذا المضمون.
وتشير الباحثة في العلاقة بين علم السياسة والفن مريم وحيد إلى "انطباق نظرية جي ديبورد في كتابه ’مجتمع المشهد‘ على الانتخابات الرئاسية الأميركية الحالية، فيمكننا تطبيق أفكاره من الزاوية السياسية لأن السياسة هنا مشهد، بخاصة مع دونالد ترمب الذي انطلق من عالم رجال الأعمال إلى الحياة السياسية، فكان يعتمد بصورة كبيرة على الدعاية في مجال عمله واستخدم الأساليب الدعائية ذاتها أيضاً في الانتخابات السابقة والحالية، واقتحم عالم الترفيه والتلفزيون بقوة من خلال البرنامج التلفزيوني الواقعي الأميركي ’المتدرب‘، وهو أيضاً عنوان الفيلم الساخر الذي يكشف عن المراحل الأولى من حياته وأثار غضب ترمب وطالب بعدم عرضه".
ويرجع المحلل في الشؤون الأميركية أحمد سيد أحمد حروب الرسوم الكاريكاتيرية بين ترمب وهاريس إلى الخطاب السياسي السائد بين المرشحين الذي يقوم على سخرية كل طرف من الآخر، وتخويف الناخبين من خطورة وصول المنافس إلى البيت الأبيض، وإظهار العيوب في كل طرف، مما يعكس حال الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة وجعل أحد أسلحة الحرب في المنافسة يتمثل في الإهانة الشخصية وتحقير الآخر وتصويره كمهدد للديمقراطية الأميركية، "فدائماً ما يصف ترمب منافسته الديمقراطية بأنها فاشية وماركسية متطرفة، وأنها مثل الطفلة ولا تصلح لقيادة أميركا كامرأة، وفي المقابل تصفه هاريس بأنه فاشي ورجل خرف وعجوز وعنصري وسيزيد استخدام السلاح وتقويض المؤسسات الأميركية".
ويعرب عن اعتقاده بأن هذا الخطاب السياسي الحاد بدأ بين ترمب وبايدن ثم ازداد بعد المنافسة بين ترمب وهاريس، وأنه يزيد من تركيز الناخب الأميركي على المسائل الشكلية وليس على السياسات الفعلية، وهذا الاستقطاب انعكس عبر استخدام الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة والـ"ميمز" بوصفها أداة تسويقية في الحملة الانتخابية لإقناع كل مرشح الناخب بنفسه من خلال الهجوم على المرشح الآخر، والكاريكاتير هنا يقوم بدور أساسي في نتائج الانتخابات خلال الأيام المقبلة، خصوصاً أن السخرية السياسية تستخدم بكثافة حالياً لتركيز المرشحين على الأبعاد الشخصية في المنافسة الانتخابية بقدر أكبر من التركيز على القضايا الموضوعية والجوهرية مثل الاقتصاد والهجرة والصحة العامة.
ولا يزال الجدل حول حدود تأثير الكاريكاتير السياسي في العملية الانتخابية وشعبية السياسيين أمراً غير محسوم، فبعض المراقبين يرى أن تأثيره لا يتعدى الإعجاب (لايك)، فيما يذهب رأي مغاير إلى أن السخرية لديها قدرة فائقة على توجيه المواطنين، ويراها بعضهم مجرد مصدر مضلل للمعلومات وتؤدي إلى تقليل أهمية القضايا الجادة وإلى تشكيل وعي زائف من خلال عدم القدرة على التمييز بين الأحداث والتصريحات والمواقف الحقيقية والمفبركة أو الساخرة، كما أن الهجوم الإعلامي والسخرية المكثفة من ترمب خلال الحملات الانتخابية الأميركية عام 2016 لم تنجح بالتأثير في حظوظه للفوز بها.