بغداد ـ العالم
يشهد ملف حصر السلاح بيد الدولة في العراق تصاعداً لافتاً في المواقف السياسية والأمنية، وسط تباين واضح داخل أوساط الفصائل المسلحة والقوى المنضوية في العملية السياسية. فبينما تتجه بعض الجهات إلى إعلان الاستعداد للتخلي عن السلاح، تصر أخرى على ربط هذا الخيار بتحقق “السيادة الكاملة”، في وقت تتكثف فيه الضغوط الأميركية والدولية على بغداد، بالتزامن مع تعقيدات تشكيل الحكومة الجديدة.
في هذا السياق، يرى المحلل السياسي المقرب من الإطار التنسيقي، عماد المسافر، أن توجه بعض الفصائل نحو حصر السلاح بيد الدولة ينسجم مع مطالب المرجعية الدينية والسلطة القضائية، اللتين رحبتا بهذه الخطوة. ويضيف في حديثه لوكالة وكالة شفق نيوز أن قوى سياسية تعتقد اليوم أنها باتت تمثل “الدولة” بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، التي أفرزت كتلة شيعية كبيرة داخل مجلس النواب، ما يجعل بقاء السلاح بيد الدولة – التي تمثلها سياسياً – أمراً غير إشكالي من وجهة نظرها.
لكن هذا التوجه لا يحظى بإجماع. إذ يشير المسافر إلى أن فصيلين رئيسيين، هما كتائب حزب الله وحركة النجباء، أعلنا رفضهما الصريح لحصر السلاح، مبررين ذلك باستمرار وجود القوات الأميركية، إضافة إلى ما يصفانه بـ“الاحتلال التركي” والانتهاكات الإسرائيلية للسيادة العراقية. ويربط هذان الفصيلان مصير سلاحهما بتحقيق سيادة كاملة، واستقلال القرار السياسي والاقتصادي، معتبرين أن ارتباط الأموال العراقية بالاحتياطي الفيدرالي الأميركي يمثل شكلاً من أشكال انتهاك السيادة.
من جهته، يرى الخبير الأمني والسياسي علي المعماري أن أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 في غزة غيّرت موازين القوى في الشرق الأوسط، وأضعفت الهيمنة التي كانت تتمتع بها محاور مرتبطة بالفصائل المسلحة. ويؤكد أن الضغوط الأميركية المرتبطة بتشكيل الحكومة العراقية باتت مرهونة بشكل مباشر بملف الفصائل التي لا تخضع لأمرة القائد العام للقوات المسلحة، مشيراً إلى أن فصيلين رئيسيين يمتلكان قدرات عسكرية متطورة ويعارضان تسليم سلاحهما.
ويذهب المعماري إلى أن معظم القوى الشيعية داخل الإطار التنسيقي تبدو مستعدة لتنفيذ المطالب الأميركية، شريطة أن تتولى هي تشكيل الحكومة بما ينسجم مع مصالحها. وبحسب تقديره، فإن ما يجري حالياً هو محاولات لإقناع الفصائل عبر واجهاتها السياسية بقبول المتطلبات الأميركية، مقابل ضمان رئاسة الوزراء والوزارات السيادية، في إطار تسوية شاملة تضم الأميركيين والفصائل وإيران والحكومة العراقية.
أما الخبير الأمني والمحلل الاستراتيجي علاء النشوع، فيرى أن الحكومة العراقية غير قادرة حالياً على حل الفصائل المسلحة دون تدخل دولي مباشر تقوده الولايات المتحدة والتحالف الدولي. ويعزو ذلك إلى تفوق قدرات الفصائل من حيث التسليح والنفوذ والسيطرة على مفاصل سياسية واقتصادية وأمنية، فضلاً عن امتلاكها منظومات متقدمة للأمن السيبراني وشبكات معلومات لا تتوافر حتى للأجهزة الرسمية، بحسب تقديره.
ويضيف النشوع أن الحكومة المقبلة، التي ما زالت قيد التشكيل، تتعرض لضغوط أميركية وإيرانية متزامنة، ما يمنعها من اتخاذ قرار وطني مستقل، في وقت تبحث فيه الأحزاب السياسية عن البقاء في السلطة بأي ثمن.
في واشنطن، يوضح السياسي العراقي المقيم هناك نزار حيدر أن الفصائل المسلحة يمكن تقسيمها إلى نوعين: فصائل انخرطت في العملية السياسية وتسعى للتحول إلى جزء من مؤسسات الدولة، وأخرى ما زالت توظف خطاب “المقاومة” لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية قبل الانخراط الكامل في الدولة. ويرى أن إعلان بعض الفصائل استعدادها للتخلي عن السلاح يأتي في إطار محاولة لكسب القبول الدولي، ولا سيما الأميركي، في ظل جدية الموقف الأميركي بعدم التعامل مع حكومة تشارك فيها فصائل مسلحة.
ويحذر حيدر من أن أي فصيل يرفض تسليم سلاحه سيواجه القضاء، بعد أن تحول الملف إلى “قرار دولة”، في إشارة إلى موقف مجلس القضاء الأعلى ورئيسه فائق زيدان، الذي أعلن استجابة بعض الفصائل لمبدأ حصر السلاح بيد الدولة.
وخلال الساعات الماضية، أعلنت عدة فصائل، بينها كتائب الإمام علي وعصائب أهل الحق وأنصار الله الأوفياء وكتائب سيد الشهداء، موافقتها على حصر السلاح بيد الدولة. في المقابل، جدّدت كتائب حزب الله وحركة النجباء رفضهما، معتبرتين أن الحديث عن نزع السلاح سابق لأوانه في ظل استمرار الوجود الأجنبي.
وتأتي هذه التطورات وسط مخاوف أميركية من معادلة سياسية جديدة فرضتها نتائج الانتخابات التشريعية لعام 2025، التي منحت القوائم الشيعية غالبية المقاعد، بينها عدد كبير للفصائل المسلحة. كما تتزامن مع ضغوط على حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، في مرحلة انتقالية حساسة.
ويرى مراقبون أن توجه بعض الجهات نحو تسليم السلاح يمثل “مناغمة للقرار الأميركي” وصعوداً إلى “سفينة نوح” للنجاة من عقوبات وضغوط محتملة، لكنه تسليم غير حاسم مع بقاء إمكانية إعادة استخدام السلاح في مراحل لاحقة. ويعزز هذا الرأي ما طرحه الخبير العسكري جواد الدهلكي، الذي اعتبر أن المنظومة السياسية باتت تدار وفق العامل الدولي الجديد، لا وفق القواعد الشعبية أو الدينية التي تأسست عليها بعد 2003.
في المقابل، يرى باحثون آخرون أن المرحلة المقبلة تتطلب انتقال الفصائل إلى العمل السياسي وتمثيل جمهورها داخل البرلمان، خاصة بعد حصولها على مقاعد مؤثرة، كما أشار عضو ائتلاف دولة القانون زهير الجلبي، الذي ربط نزع السلاح بتمكن الفصائل من السيطرة السياسية داخل الدولة.
وبين هذه الرؤى المتناقضة، يبقى ملف حصر السلاح بيد الدولة اختباراً حقيقياً لقدرة النظام السياسي العراقي على التوفيق بين الضغوط الدولية وحسابات الداخل، وبين منطق الدولة ومنطق الفصائل، في مرحلة تتسم بحساسية غير مسبوقة.